ما العلاقة بين التزكية والنصر؟ (2/2)
إلقاء: ذ. عبد الكريم العلمي
تفريغ: هيئة التحرير
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
نتابع حديثنا ونواصله في علاقة النصر بالتزكية، ونتطرق هنا إلى ثلاث قضايا نضيفها إلى القضايا الأربع السابقة.
5. غايات تَعاقُب النصر والهزيمة: إن الرب سبحانه وتعالى يربي عباده المؤمنين بالخير والشر وبالسراء والضراء وبتعاقب الهزيمة والنصر، وإنما يكون هذا التعاقب وفق سنن علمنا إياها الله عز وجل أو وفق حكم غيبية طواها العزيز الحكيم عنا فلا نعلمها، ولا يسأل سبحانه وتعالى عما يفعل ولا عن الكيف ولا الغاية. والشأن في الأمر كله أن الله تعالى يدبر الخير لعبده المؤمن، يقول رسول الله ﷺ: “عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له”.[1]
ويخبرنا الله عز وجل عن بعض غايات تعاقب النصر والهزيمة، إذ يقول سبحانه: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِیُمَحِّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَیَمۡحَقَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ﴾. [آل عمران: 140-141].
وهنا نقف عند خمس غايات من تعاقب النصر والهزيمة:
– حتى يعلم الله سبحانه الذين آمنوا ويميزهم عن المنافقين والمشككين ومرضى القلوب؛
– وليتخذ من المؤمنين شهداء -وهذه نعمة عظمى- في حالتي النصر أو الهزيمة؛
– وتأكيدا لحقيقة بغضه تعالى للظالمين وحبه لمن أحب المؤمنين؛
– وليمحص المؤمنين اختبارا لهم وتطهيرا وتخليصا؛
– وليمحق الكافرين ويستأصل جذورهم.
لأجل ذلك، لا يمكن لأي أحد -فردا أو جماعة أو أمة- أن يتألى على الله تعالى حتى يستثنيه من سنة الابتلاء.
6. ما يحبه الله لنا أعظم مما نحبه لأنفسنا: فينبغي أن تكون مَحاب الله عز وجل وما يريده سبحانه أحب عند المؤمنين من محابّهم وأعظم مما تريده أنفسهم، وأن يكون القرب منه وحبه أعظم في قلوبهم من نصره عز وجل. وانظر كيف ضرب لنا الله سبحانه نموذج المؤمنين الربانيين المواجهين لأعدائهم، وهم يدعونه تعالى مستغفرين تائبين راجين بلوغ محبته ورضاه، مقدمين قربه سبحانه على رغبتهم في الظهور والانتصار على عدوهم. قال عز من قائل: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾. [آل عمران: 147].
وهذه معان عظيمة تتردد في مواضع كثيرة من كتاب الله عز وجل، فقد أطلع سبحانه عباده على جزاءي من جاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، جزاء الأخرى هو الأرقى والأبقى وجزاء دنيويا هو في مرتبة أخرى مما تهواه النفوس وترغب فيه. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُم إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾. [الصف: 10 – 13].
وقد ضرب الله تعالى لنا مثلا عظيما لامرأة مباركة عظيمة كاملة هي سيدتنا آسية عليها السلام، فإنها لقيت من زوجها فرعون من صنوف العذاب ما الله به عليم حتى لقيت ربها شهيدة محتسبة. قالت عليها السلام: ﴿رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾. [التحريم: 11]. دعاء عظيم للسيدة آسية سألت به قربه تعالى (عِنْدَكَ) حبا وشوقا قبل الجنة، وهي محل القرب واللقاء والنظر إلى وجه المحبوب سبحانه. ثم سألته أن ينجيها من فرعون وبَغيه وشِركه وفتنته، التي قد تصرفها عن التوجه إلى الله تعالى بالكلية، ثم سألته أن ينجيها من القوم الظالمين.
وإن الله عز وجل يستخلص أحبابه أرباب القلوب الطاهرة والأنفس المزكّاة المحسنة فيريهم الدنيا على حقيقتها، فترى أرواحهم العالية حقيقة الآخرة؛ ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾. [العنكبوت: 64]. وهذا تقابل بديع بين معنيي “الحيوان” وهي الحياة الكاملة و”أحياء” في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ﴾. [البقرة: 154]. يرجون من الله أن يبعثهم مرة أخرى حتى يذوقوا حلاوة استشهادهم في سبيله تعالى.
7. النصر قدوة ماثلة واتباع: إنما ينال المؤمنون والمؤمنات حظهم من تشرب هذه المعاني العظيمة بالحرص على الاستمساك بالقدوة الماثلة، من نبي مرسل أو ولي صالح مجاهد أو عالم عامل مصلح، ومن أمثال هؤلاء العظام تتشرب هذه المعاني.
ونقرأ عند الأستاذ الجليل أبي الحسن الندوي رحمه الله فقرة بديعة بأسلوبه الأخاذ ونظره العميق، يقول: “ولكن الله قيض للمسلمين في كل عصر وجيل، من ينفون عن هذا الدين «تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين». ويدعون إلى التزكية الخالصة من شوائب العجمية والفلسفة، وإلى «الإحسان» و «فقه الباطن»، من غير تحريف وانتحال وتأويل، ويحددون هذا الطب النبوي لكل عصر، وينفخون في الأمة روحا جديدة من الإيمان والإحسان، ويجددون صلة القلوب بالله، والأجسام بالأرواح، والمجتمع بالأخلاق، والعلماء بالربانية، ويوجدون في الجمهور قوة مقاومة الشهوات وفتنة المال والولد، وزينة الحياة الدنيا، وفي الخواص قوة مقاومة صلات الملوك وسياطهم. ووعدهم ووعيدهم، والجرأة على الجهر بكلمة حق عند سلطان جائر، والاحتساب على الملوك والأمراء، والاستهانة بالمظاهر والزخارف، والقناعة باليسير، فيستطيع أحدهم أن يقول – وقد طُلب منه أن يقبل يد الملك ليرضى عنه – يا مسكين والله ما أرضاه أن يقبل يدي فضلا عن أن أقبل يده، یا قوم أنتم في واد أنا في واد.[2] […] ويمد أحدهم رجله إلى أمير جبار، ويرسل إليه هذا الأمير صرة من الذهب فيرفضها قائلا: «إن من يمد رجله لا يمد يده[3]»”.[4]
فمن أين لهؤلاء الرجال بهذه الهمة والطمأنينة حتى كانوا شَجى في حلوق الظالمين؟ إنما كان ذلك بلزومهم لباب المولى عز وجل والاستمساك بمطالب التربية وحدود التزكية والتشوف إلى معالي الإحسان.
وحري بنا أن نعود إلى تراجم هؤلاء الرجال الأفذاذ، فيما كتبه أصحاب السير وفيما خطه الأستاذ أبو الحسن الندوي، ونقف عند الإشارات القوية التي بثها الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله في كتابه “رجال القومة والإصلاح”، في حديثه عن ثلاثين من هؤلاء العظام من رجال الأمة، كما بين في كتاب “الإحسان” فضل عشرات منهم. فإن لكتابات الإمام رحمه الله روحا تنبض بالحياة، عسى أن نكون -إن شاء الله تعالى- من رجال القومة والإصلاح.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا قدرا من قدره، وأستغفر الله العظيم.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
[1] . صحيح مسلم، الحديث رقم (2999).
[2] . قالها الشيخ العز بن عبد السلام رحمه الله لملك الشام الظالم حين أرسل من يداهنه ويساومه ويعده بالمناصب، بشرط الرجوع عما هو عليه.
[3] . قالها الشيخ سعيد الحلبي رحمه الله لحاكم مصر الطاغية إبراهيم باشا حين دخل المسجد الأموي بدمشق وحاول شراء ذمة الشيخ فرده الشيخ خائبا.
[4] . ربانية لا رهبانية، ص: 14-15
أضف تعليقك (0 )