مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسينمدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين
مدرسة الإمام المجدد
عبد السلام ياسين

برنامج مراجعات

مراجعات مع الإمام عبد السلام ياسين |3|

0

الحلقة الثالثة:

د. عزام: الشيخ عبد السلام ياسين توقفنا في المراجعة السابقة عند الإسلام أو الطوفان، أريد أن أرجع إليه ولكن قبل ذلك أريد أن أرجع بك قليلا إلى الوراء، قبل الإسلام أو الطوفان حينما كنت ما تزال في الزاوية، كتبت كتابا ضخما “الإسلام غدا”، الذي يُهيئ إليَّ أن ذلك كان بداية اهتمامك السياسي أو بداية اهتمامك بشؤون ما كان يجري، ولذلك كتبتَ هذا الكتاب؟

الإمام: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم، نعم كتب هذا الكتاب ولم يلق قبولا في أوساط الزاوية.

د. عزام: لم يلق قبولا؟

الإمام: لم يلق قبولا في أوساط الزاوية، لأنه هذا كلام فيه حديث عن السياسة، وعن الحاكمين والمحكومين، وكما قلنا في جلسة سابقة كان هنالك ميلٌ لمهادنة الحكام، وهذا شيء لم نكن نقاسمه إخواننا جزاهم الله عنا خيرا ورحمهم الله، من مات منهم، ورضي عن الباقي. فكان هذا الكتاب هذا وضخامته في نحو ألف صفحة؟

د. عزام: 1000 صفحة تقريبا.

الإمام: كان من قلة فقهي في النثر، من يقرأ كتابا بهذا الضخامة؟ من يقرأه؟ من يستطيع أن يجلس إلى كتاب مثل هذا؟ بعد ذلك أصبحت أكتب شيئا مثل هذا صغير يمكن أن يستوعبه الإنسان، لا سيما في الزمن الحاضر، قد ابتلي الناس بالأنترنيت وبالفضائيات وبالمصور والمقروء والصوت والصورة، فليس هنالك استعداد لنفتح كتابا بهذا الوزن أظن أن له وزن ثِقل في الميزان.

د. عزام: هل كان الكتاب سببا من أسباب الفراق بينك وبين الزاوية؟

الإمام: كنت في مرحلة التميز، في مرحلة التميز عن أصحاب الزوايا وعن المذهب الصوفي، لا أقول الصوفي بنبز الصوفية، لأنه كان فيهم مجاهدون عظام كرام، في ليبيا مثلا وغيرها كانوا مجاهدين في سبيل الله، لكن هنالك استكانة للحكام فأردت أن أتميز عن ذلك، كنت في مرحلة بين مرحلتين على القياس.

د. عزام: لكن حُسِم الأمر بالإسلام أو الطوفان، لأن هذا رسالة واضحة؟

الإمام: الإسلام أو الطوفان كان قطيعة نهائية، وأنا قلت في جلسة سبقت، أنا كتبتُ رسالة للشيخ حمزة قلت له: “هذا فراق بيني وبينك”.

د. عزام: حتى لا تحملهم وزر ما سيحدث؟

الإمام: حتى لا يتحملوا ما لا يطيقونه.

د. عزام: المتعارف عليه عند كثير من الناس أن الصوفية انقطاع عن الدنيا وعن انشغالاتها، واهتمام بالآخرة وما يؤدي إليها، ويظن هؤلاء بأن الذي يهتم بأمور الناس وبالسياسة وبالحكم يكون قد خالف ما تُعورف عليه.

الإمام: نعم هكذا، بعضهم هكذا يظن، وهكذا يفكر، وهكذا يدرك الدين، لكن إذا ذهبنا صُعُدا إلى ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فكانوا مجاهدين وكانوا قوامين وكانوا زاهدين، وتتمثل الأسوة الكاملة في الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا كان من شيء بقي من هذا الكتاب فلأنه كنتُ أشرت إلى خصال عشرٍ، أولها الصحبة والجماعة مجتمعين، بينما عند السادة الصوفية، صوفية الزوايا، الصحبة منفصلة عن الجماعة، لا شأن لهم بالجماعة، لا في الجماعة الصغيرة (الدائرة الصغيرة) ولا في أمر المسلمين، بعضهم. ثم الذكر والبذل، والأخلاقية أنا متفق معهم. فكان هذا مفصلا هناك. رجعت إليه فيما تلا من كُتب، الإسلام أو الطوفان أشرتُ إلى هذا بإيجاز.

د. عزام: “الإسلام أو الطوفان” ذيلته برسالة واتفقنا في المراجعة السابقة أن نقرأها؟

الإمام: نعم

د. عزام: إنه نداء لمن أرسلت إليهم هذه الرسالة المفتوحة، وعنوان الكتاب “الإسلام أو الطوفان: رسالة مفتوحة إلى ملك المغرب”، وينتهي الكتاب بنداء تقول فيه: “أيها المؤمنون يا أمة رسول الله يا رجال الدعوة، أنتم الذين تفتت أكبادكم لما ترون من ضياع دين الله في هذه الأرض، أنشدكم الله ورسوله، أن تُنهوا كل خلافاتكم المذهبية، وتهجروا من يزعم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتمثل في تكفير المسلمين والتسلط على عامة المؤمنين في المساجد، فإذا صعد أحدهم المنبر حيى أعياد الملك الوثنية وسبح بحمد الطاغوت”.

الإمام: وهذه نقطة مهمة جدا لأن من استغباء الناس واستجهالهم، والضحك على عقولهم، أن هنالك مقدسات، وهذه وثنية “الله والوطن والملك” فنحن نعبد ثالوثا لا نعبد الله وحده، شرك. المقدسات، وكانت هنالك أحداث لمن سجن من عذب ومن.. لأنه مس بالمقدسات، حتى أن بعض الناس كانوا يسخرون من أصحاب الجرائد، كانوا يسخرون بهذا التقديس الذي لا نهاية له، فيقولون مثلا الأحجار المقدسة، لا تتحدثوا عن قصر من القصور لأن هذه الأحجار مقدسة، وكانت هنالك مِحَفة، محفة من عادات المغاربة يحملون العريس والعروس في المَحفة هكذا احتفالا، فهذه المحفة أصبحت مقدسة… الخرافات والخزعبلات، وهنالك مثقفون يسكتون عن هذا، وهنالك من يغْشَون المساجد ويكفِّرون بدون حدود، تكفير بدون حدود.

د. عزام: وتقول فيها “اجمعوا كلمتكم بعدي إن قضى الله أن يكرم عبدا من عباده قال قولة حق عند سلطان جائر، واجمعوا كلمة الأمة حتى تقدروا على أطر كل باغٍ على الحق أطرا، ثم هذه رسالتي بثُّوها رحمكم الله في الناس، من يد ليد، أو بالبريد من بلد لبلد، لا تحبسوا النصيحة عن المسلمين، فإني ما دعوت إلى فتنة أو قطع رحم، بل هي كلمة الحق بالحق، واعلموا أن صاحبكم إن طرح النصيحة وماطل وراوغ ذاهبٌ أمره وصائر إلى ما يصير إليه من أخذته العزة بالإثم”.

الإمام: (يضحك) وهكذا فُعِل به وبنظامه، لأن الخشية والخوف والهلع من كل ما يمس السلطان استولى على العقول، على عقول العامة والخاصة، والخاصة يسكتون عن هذا.

د. عزام: تقول “ذاهب أمره وصائر إلى ما يصير إليه من أخذته العزة بالإثم حين قيل له اتق الله، ليس لي منظمة ولا أعوان (طبعا هذا الكلام قبل أن تنشئ الجماعة)، إلا أنتم معشر المؤمنين، فإن قرأتم في رسالتي صوابا وحقا فكونوا أنصارا لله واعتصموا بالمساجد وادعوا إلى رفق الإسلام يوم تضطرب المدلهمات بقوم غافلين، وإن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب”.

الإمام: وهنا أقف قليلا، كانت لنا جريدةٌ سميناها “الصبح” وفيها تذييل تحت العنوان الكبير “الصبح” فيه “أليس الصبح بقريب”، وفي هذا سُؤلت واضطُهِدت في كوميسارية البوليس، “مَن تعني بأن موعدهم، من هُم؟ موعدهم الصبح”؟

د. عزام: (يضحك) اعتبروها تهديدا؟

الإمام: نعم، “إن موعدهم الصبح” اعتبروها تهديدا وتلويحا، قلتُ: هذا واضح لا نحتاج إلى تبيين.

د. عزام: العصاة الذين يعصون الله ورسوله، موعدهم الصبح.

الإمام: فكنت أحيانا أقول هكذا، وأحيانا أشير إلى المارقين عن الدين، ومر هذا.

د. عزام: “أليس الصبح بقريب لا تسكتوا عن الحق بعد اليوم، واذكروا أن الساكت عن الحق شيطان أخرس، ألا وإن الحق أمرُ السلطان بالمعروف ونهيه عن المنكر. فما قولكم يا علماء المسلمين؟ أئفكا آلهة دون الله تريدون؟ فما ظنكم برب العالمين؟ أخذ الله عليكم ميثاقه لتبيننه للناس ولا تكتمونه وقد كتمتم وسكتتم فما حُجتكم بين يدي ربكم يوم تعرضون، والموعد الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإن الإسلام غدا حق لا مرية فيه، بالحسن إن تاب وأصلح (وتقصد هنا الملك) وبادر أو بدون الحسن. صدقنا موعود الله ورسوله، وكذبنا أوهام الواهمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين”

الإمام: ومنهم من اعتبر هذا الكلام إهانة للعلماء

د. عزام: (يضحك) وهو لا يُنصح العلماء؟

الإمام: اعتبروا هذا إهانة، ولم يفُتهم أن يؤلبوا علماء البلاط. هنالك دوائر ومنظمات، رابطة العلماء وهكذا، عندما كتبتُ بعد ذلك لهذا الملك الحالي رسالة باللغة الفرنسية، قاموا وكتبوا وتجنوا وتجنبوا، يعني على كل حال كانوا صوتا واحدا ضدي، بينما أنا لا أحمل في قلبي لهم ولا لعامة المسلمين إلا الرحمة والشفقة، ولا أريد لهم إلا أن يكونوا على الطريق المستقيم السوي، طريق سنة الله الذي له ما في السماوات والأرض، لكن كثيرا من الناس لا يفقهون ولا يريدون أن يسمعوا.

د. عزام: ثلاثة أعوام قضيتها معتقلا كما ذكرنا، أو ذكرتنا في المراجعات السابقة، في مستشفى الأمراض الصدرية ثم في مستشفى الأمراض العقلية؟

الإمام: نعم

د. عزام: يعني وصلنا تقريبا لعام 1977م يعني من 1974 إلى 1977م أو هكذا، ثم منعت من الخطابة، مُنعت من الوعظ؟

الإمام: سُحبت من المسجد سحبا، بعد أن خرجت من مستشفى المجانين ذهبت إلى مسجد الحي، فاستخرت الله تعالى ودخلت إلى المسجد، بعد صلاة الصبح اجتمع الناس وقمت إلى المنبر وقلت أيها الناس إن لي كلمات أقولها بالدارجة كما ينبغي وكان أمامي سيدي أحمد الملاخ أحد الأخوين الأولين في مساعدتي على هذا العمل، كان يسرد علي بعض الأحاديث وكنت أشرحها بما يناسب، في الجلسة الأولى قام الناس وأعجبهم هذا وحبذوا هذا العمل، في الغد استُدعيت إلى المفوضية إلى مفوضية البوليس، وأمرت ألا أذهب إلى المسجد مرة أخرى، مُنعت منعا كليا، ففي اليوم الذي منعت فيه، أصبح المسجد صفرا لا أحد، خوفُ الناس من السلطان، لا أحد حضر معنا، انتهت هذه الفاصلة، انتهت لكن الحكم نظام الحكم، حقود حسود، وأقولها عن دراية وعن معاناة. انتظر سنة 1984م هكذا، فلفقوا لي تهمة، فما هي التهمة؟ أنني أصدرت جريدتين إحداهما اسمها الخطاب، والأولى اسمها الصبح، كنا نتكلم عنها قبل قليل

د. عزام: ذكرتها نعم ” أليس الصبح بقريب”.

الإمام: فمنعوها، فأصدرنا أخرى اسمها “الخطاب”، منعوا الخطاب وزُج بي في السّجن، سجن حقيقي ليس اعتقالا.

د. عزام: للمساجين السياسيين أم للجناة؟

الإمام: للجناة، فيه سياسيون وفيه جناة، هذا كان يسمى سجن العلو، كان مشهورا بأنه سجنٌ قاسٍ من السُّجون القاسية، حُكمت بسنتين سجنا نافذا، دخلت إلى ذلك السجن سنة 1984م، كانت هنالك اضطرابات شارك فيها اليساريون، وشارك فيها عامة الناس، وكان هنالك اضطراب كبير في المغرب، فأنا التقيت هنالك في السجن بأصناف هؤلاء الشباب الماركسيين، ولأول مرة، قبل أن أمُر، وكان جاري في الزنزانة أحدُ أقطاب ذلك المذهب، لا أسميه، كان جاري بجنبي. ولكي أُرفعَ إلى زنزانة منفردة كان عليَّ أن أناضل على ذلك نضالا مريرا، نضالا مريرا. أنا أكون في “العنبر” مع عامة المجرمين، وأمضيت الليلة الأولى، وكانت ليلة ليلاء في وسط المجرمين، والإنسان لا يجد إلا عشرين سنتيمترا كي ينام على جنبه. دون أن يتحرك ولا ولا ولا.

د. عزام: المساجين كلهم مع بعض في نفس الزنزانة؟

الإمام: في نفس الزنزانة. ورأيت هنالك عجبا، عجبا، رأيت رجلا وهاته من الأشياء التي بقيت في مخيلتي لا أنساها. في الصباح كان هنالك أحد المجرمين حقا، نهب الأموال وجمع الأموال، ليس هذا هو المهم، فكان من يُعطي الرشوة لصاحب “العنبر” الـمُشرف يعطيه مكانا واسعا يتوسع فيه، ولأمِّ المسكين الهـَبَل، يعطونك عشرين سنتيمترا فقط، عشرين تضع جنبك، هذا الرجل الثري الذي أسكنوه نفس العنبر، لكنه –هذا هو العجب– هنالك مرحاض واحد، لا تسأل عن أوصافه، وتوضأت وصليت، كيف صليت كيف توضأت في ذلك الحال، هذا الرجل قام صباحا أول ما فكر فيه أن يحلق لحيته. يا مسكين ارجعْ إلى الله عز وجل، فكِّر في مَن أنت وأين تمشي، أن يحلق لحيته وسط السجن، أنتَ سجين وأنتَ مظلوم ولكن، يعني هذا كما يسميه ابن خلدون رحمه الله “دين الغالب”، يعني شرفُ الإنسان وفضلُ الإنسان وشخصيةُ الإنسان وحُرمةُ الإنسان أن يتشبَّه بالغالب، أن يحلق لحيته في السجن وفي السّراح وفي كل الأحوال، فأنت سجين، جاءوه بالمواد لأنه كانوا يحترمونه، لأنه كان ذا مالٍ..

د. عزام: كان يدفع لهم؟

الإمام: كان يدفع. جاءوه بالآلات الضرورية لكي يحلق، هذه من الصور التي بقيت راسخة في ذهني في ذلك السجن الرهيب الذي اسمه سجن العلو. بتُّ تلك الليلة، الليلة الليلاء صعبة جدا. في الصباح أطللتُ هكذا من.. فإذا بأحد الشباب اليساريين وكانوا مُتمرسين بأحوال السجون، ولم يكن لي أهلٌ بها ولا درايةٌ لما فيها، وأذكر كان يلبس سلهاما –كما نقول نحن– سلهاما أسود، فجاءني قال: أنت ياسين أنت كذا، أنت كتبت إلى الملك؟ قلت له: نعم، قال لي ولماذا تبقى مع المجرمين؟ ناضل، فكان هو الذي فهَّمني وحرَّضني.

د. عزام: كيف تطالب؟

الإمام: فقمتُ بالنضال، بالنضال مع المدير ومع الحراس، وكان معنا حارس يكون قد مات، (يضحك) دخلتُ معه في صراع ذات مرة، وما زالت إصبعي هذه تحمل آثار ذلك الصراع، ضربته على وجهه، وكان رجلا ضخما طويلا، ويلبس لبسة رسمية لحراس السجن، قال: ناضل، فذهبتُ إلى المدير، ناضلتُ، حتى رفعوني إلى مكان يسمونه Le Quartier moderne الحي العصري، كيف هذا الحي العصري؟ عندك نصفُ متر في مترٍ وعشرين، لكن لك زنزانة واحدة ومرحاض واحد والسلام.

د. عزام: فيلا هذا؟

الإمام: نعم، أي مقام لما كنت فيه تنامُ في عشرين سنتيمترا، كان هذا شيئا فخما!

كان إلى جانبي أحد المشهود لهم في الدفاع عن حقوق الإنسان، كان محاميا وهو رجل مُسن الآن، وله تنظيم للدفاع عن حقوق الناس، كان جاري ولأول مرة أحضر لمجلس من مجالسهم، من مجالس اليسار.

د. عزام: في السّجن؟

الإمام: في السجن نعم، كان لهم عَنبر طويل كبير لكل واحد، لبعضهم، لبعضهم زنزانة فريدة، وكان هنالك جماعة منهم أعطوهم بيتا واسعا، فهم يجتمعون في هذا البيت، فأردت أن أستمع إلى ما يقولون في مجالسهم، فجلستُ متسللا كأنهم لم ينتبهوا إليَّ فإذا القوم يتحدثون عن كل شيء، ما عدا الله عزَّ وجل والدين والقرآن والآخرة، هذا شيء لا يذكر.

د. عزام: لا وجود لهذا؟

الإمام: لا وجود لهذا في أذهانهم ولا في نقاشاهم، قال ماركس، ولينين فعل كذا، وستالين فعل كذا، ويسردون تواريخ عن تشي جيفارا وغير هذا، فتعجبت من هذا واتخذت درسا، هذا من الدروس لكني بقيت هنالك. درس آخر مهم جدا، كانوا يبعثون إلي ببعض الزاد من المأكولات، وكانوا يسربون إلي تحت الطعام بعض الوريقات، رسائل صغيرة، يخبرونني بما حدث في البيت، وكانت قفة تجيئني وتبلغني، بينما القوم اليساريون كانت تأتيهم خاصة من جنوب المغرب من أكادير، لهم هنالك أنصار وأنظام وأنظمة، تأتيهم برافعة كيف أشبه ذلك كيف يسمون الآن الحاملات التي تجيء في البواخر؟

د. عزام: الحاوية (يضحك).

الإمام: الحاوية، بما يشبه الحاويات، يعني ليست في هذا الحجم، ولكن حاويات فيها مما لذَّ وطاب من المآكل والفواكه، وهذا من أعجب ما يكون، فيُسخِّرون أولئك المتاعيس المتعوسين، مساجين الحق العام يعني المجرمين، وكانوا يُلبسون بعضهم لباسا خاصا، لباس المساجين مخطط هكذا، فكانوا يسخروهم لكي يحملوا ذاك الطعام إلى السادة في Quartier moderne يعني في الحي الراقي العصري، يحملون ذلك إليهم، فيأكلون منه ثم يرمون ما بقي رميا، لا يسمحون لأحد أن يمس ذلك الطعام المتروك، أنانية و.. لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

د. عزام: تجربة عجيبة

الإمام: فكان هذا تحدي، فأرسلتُ إلى الإخوان فقلت لهم: ابعثوا لي بكثير من الخبز ومن الزاد، فكانت تأتيني ما شاء الله من أقل مما يأتيهم هم، وكنت أوزعُ ذلك بمساعدة أحد المساجين لقيته، وكان نِقابيا وكان شلحا، فإذا تفهم، وهذا يعني أمازيغيا، فكنت أوزع على الناس ذاك القليل، على كل حال هو كثير إذا قارناه بزاد واحد كثير، فتلقيت هنالك دروسا في سجن العلو، وهو سجن حقيقي لم يكن اعتقالا كما كان في مستشفى المجانين ولا في مستشفى الأمراض الصدرية، كان سجنا كاملا مكتملا.

د. عزام: الشيخ عبد السلام ياسين كنت تحدثني عن تجربتك في داخل هذا السجن، قبل السجن بدأت تأسيس جماعة أليس كذلك؟ مكان يسمى بأسرة الجماعة؟

الإمام: نعم، نعم، لم تكن تسمى آنذاك العدل والإحسان، كانت تسمى أسرة الجماعة. كانت هنالك مجلة اسمها “الجماعة”، قلنا هذه أسرة الجماعة، الناس الذين يكتبون في الجماعة.

د. عزام: وهذه الجماعة ماذا كانت طبيعتها؟ هل كانت صوفية، أم كانت جماعة سياسية، ما هو نمط اجتماعها؟

الإمام: نمط اجتماعها شيءٌ نسميه “يوم المؤمن وليلته” كيف يقضي المؤمن يومه وليلته؟ ما هي الفرائض؟ ما هي المستحبات والسنن؟ متى يستيقظ؟ ماذا يفعل؟ وينتظر طلوع الشمس، صلاة الضحى وأشياء كهذا. يوم المؤمن وليلته يشتمل على أفعال العبد الصالح العابد في يومه وليلته هذا كان البرنامج، كنا بدأنا قبل أن أدخل السجن، وأشير لا يفوتني أن أذكر به، أن الإخوان كانوا يزورونني في السجن إخوانا وأخوات، كُنا قلة يومئذ، لا مقارنة بين ما نحن عليه الآن والحمد لله، الآن أصبحنا دولا… وهذا يثير حنق القوم، في كل بلد في أوروبا وفي أمريكا وكندا يعني انتشار. الله تعالى بارك في هذه الجماعة انتشارا واسعا جدا، الآن يَنفسون علينا هذا النجاح، وبعضهم حسدنا حتى على الاسم، قال هؤلاء من أين أتوا باسم العدل والإحسان، هذا اسم غريب وهذا اسم يلفت النظر.

د. عزام: هذا عندما خرجت من السجن غيرت اسم الجماعة إلى العدل والإحسان، من أين جاء الاسم صحيح كيف؟

الإمام: جاء هذا من القرآن، الناس وينفسون علينا ذلك يقولون من أين من أين أتوا بهذا؟ لأن الله يأمر بالعدل والإحسان.

د. عزام: لأنك ألفت كتابين واحد اسمه الإحسان وواحد اسمه العدل

 الإمام: نعم

د. عزام: يعني هذا العدل الشق الأول من اسم الجماعة، وهذا الإحسان الشق الثاني من اسم الجماعة، أيهما أول الإحسان أم العدل؟

 الإمام: هذا جاء فيما بعد، الذي لا يفوتني أن أقول بأنه يجيئ الإخوان والأخوات ليزوروني في السجن، وكانت زيارة السجن بمثابة سوق مكتظة بالصراخ والصياح والهزيز والرجيج، يأتي الناس يزورون المساجين، الزائرون المزورون هنا، من جهة أخرى المسجونون، فيقوم هنالك هرج، فأنا ناضلتُ، واحتججت وصرخت، حتى خصصوا لي يوما للزيارة وحدي، كنت أنا وحدي من جانب المساجين ويجيء الإخوان وكانوا 20 شخصا 30، 40، 50، لم نكن بهذه الكثرة، ألقي عليهم دروسا ووعظا، وأقول في الحكم ما لم يقله مالك في الخمر، يعني أتحدث معهم بصراحة.

د. عزام: والسجانون يسمعون؟

الإمام: والسجانون يسمعون، وكان قصدي أن يسمع الجميع. لأنه من مبادئنا ألا نتستر، عندما بدأنا العمل المنظم، كانت الحركة الإسلامية في المغرب يخيم عليها أمور؛ منها السرية، فنحن بدأنا برفض السرية بوضوح، ولعله لو قرأت ما كتبته في المنهاج النبوي.

د. عزام: في هذا الكتاب؟

الإمام: في مقدمته، أقول: ينبغي أن نخرج من هذه البوتقة، فنحن ضد السرية، ضد العنف، وضد الاتصال بالخارج (الاستعانة بالخارج)، فكان هذا مبدأ طبقناه فعلا، فكنتُ في هذه اللقاءات في السجن أصرح بما أصرح به دائما.

د. عزام: وأنت في السجن الأول هذا، حصلت تطورات هنا في المغرب، قضية الشبيبة الإسلامية، ومقتل عمر بنجلون، وزُجَّ ببعض الناس في ذلك الوقت في السجن، والبعض هرب، كنت مطلعا على هذه التطورات؟

الإمام: نعم، نعم، هذا من جراء العنف والسرية، وأنا أعرف جيدا هؤلاء الذين بدأوا في الشبيبة، لا حاجة للإطالة في هذا الموضوع، يقولون الحركة الإسلامية في المغرب هُم الذين أسسوها، وهم الذين، وهم الذين، فأنا تركتهم يتكلمون، لكنهم قلة أيضا في ليبيا أو في ألمانيا أو …

د. عزام: والعمل للإسلام ليس حكرا على أحد هذا دين الله،

الإمام: نعم

د. عزام: وما يعلم جنود ربك إلا هو.

الإمام: وكل واحد يعمل حسب طاقته وفهمه.

د. عزام: إذن جاء تغيير اسم الجماعة إلى “العدل والإحسان” بعد أن خرجت من السجن؟

الإمام: نعم

د. عزام: كل مشاريع الجماعة حاولتم أن ترخصوها لم يوافق على ترخيصها؟

الإمام: ممنوعة.

د. عزام: ممنوعة! هم أيضا لا يرخصون لأي جماعة إسلامية حتى الجماعة الأخرى غير مرخصة، لا يوجد جماعة مرخصة؟

الإمام: نعم، ثم جاء وقت آخر، خرجت من السجن، سكنت في سلا، توسعت الجماعة، وكانت هنالك مظاهرات لإخوان في باب المنزل، فكانت هذه نقلة أخرى حين سكنت في سلا.

د. عزام: يعني بعد خروجك من السجن؟

الإمام: بعد خروجي من السجن

د. عزام: استقبلك الناس

الإمام: نعم

د. عزام: لما عدت إلى البيت في سلا؟

الإمام: نعم، كانت هنالك لقاءات مستمرة، وكان هنالك مجلسٌ يوم الأحد، على غرار ما كان الأستاذ حسن البنا رحمه الله، وما أدراك ما حسن البنا، ولا أقارن نفسي به، بطودٍ عظيمٍ مثل هذا الرجل، أحترمه وأحبه محبة كبيرة، كانت مجالس الأحد يحضرها بعض الإخوان، وكنا نصورها بأدوات بدائية إذا قورنت بهذه…

د. عزام: بهذه الأجهزة ما شاء الله؟

الإمام: وسائل بدائية هكذا لكن هذا في أرشيفاتنا، لايزال نحتفظ به.

د. عزام: في تلك الفترة، هل كان هناك تضييق عليك في دروس الأحد؟

 الإمام: التضييق دائم

د. عزام: مستمر؟

الإمام: نعم، لم ينقطع التضييق أبدا، كان التضييق مستمرا، وكنا جماعة ممنوعة محظورة، “لا حق لكم لا كذا”، كانوا جمعوا قالوا –أظن تفكيرهم هكذا يكون– قالوا: هذا الرجل الذي صدَّعنا بكلامه وباحتجاجه سنقطع له الجناح، جناحه من؟ الإخوان في مجلس الإرشاد، فزجوا بهم في السجون بتهمة أنهم كذا… لا تُعوزهم الأسباب والتلفيقات. أمضَوا هنالك سنتين. عندئذ فكروا أن يسلكوا معنا سبيل المهادنة والمساومة والمصالحة، فقالوا هؤلاء في السجن، وهذا لا يزال في اجتماعاته، فنحاول معهم تفاوضا وصلحا، فجاؤوا إليَّ، وأتذكر يوما جاء أحد “الكميسارات” المفوضين جاء إليَّ ومعه مخلوق من أغرب ما يكون، ضخم الجثة، طويلٌ –متران– وضخمٌ يعني تراه وتفزع منه، ولعله كان يريد أن يفزعني، قال نريد أن نحدثكم، وأن نحدث الإخوان هل تقبل أن تذهب إليهم؟

د. عزام: في السجن؟

الإمام: في السجن، قلت له نعم، كان مقصودي بأن ألتقي بهم، ذهبنا إلى السجن، ذهبوا بي ليلا إلى السجن وجلسنا نتحدث، أنا كان قصدي أن ألتقي الأخوة بعد طول فراق، فكأنهم يريدون من ذلك الجلسة أن نكتب جماعةً رسالةَ استعطافٍ، وجلسنا نتحدث، تركونا وحدنا في بناية، جلسنا نتحدث، ماذا حدث؟ كيف حالكم؟ كيف حال كذا وكذا؟

والحارس ينتظر، صاحب العصا ينتظر: هل فرغتم؟ لا، لـمـَّا نفرغ. هل كتبتم؟ لما نكتب، في آخر الأمر اتفقنا على أن نكتب رسالة نسيت كيف كانت، أن نكتب رسالة لا تسمن ولا تغني من جوع، لم نستعطف، ولم نسترحم، ولم نتنازل، ولم نقل عفا الله عما سلف، أبدا، وانتهى الأمر، وأمضى الإخوان سنتين في السجن، وذاقوا مرارته وحلاوته، وخيره وشره أيضا.

د. عزام: (يضحك) أنت كنت قد سجنت بسبب رسالة أخرى كتبتها للملك؟

الإمام: نعم

د. عزام: غير الإسلام أو الطوفان؟

الإمام: نعم، رسالة كتبتها باللغة الفرنسية[1]، وكتبت رسالة أخرى لمحمد السادس بالفرنسية، لأن القوم مفرنجون كما قلت في جلسة سابقة، لا يقيمون وزنا للمُعرب، ولا للعربي، ولا للغة العربية، ولا ما يجيء منها.

د. عزام: مع أن الملك الحسن كان فقيها؟

الإمام: يُقال، يُقال، يُقال.

د. عزام: (يضحك)… يُقال.

الإمام: كان له جلساء، أنا أعرف بعضهم، يعني يحفظ نكثا و… رحمه الله، اتركه اتركه.

د. عزام تميمي: نعم ذهب إلى ربه.

الإمام: أنا أترحم عليه من قلبي، فإذن كتبت بالفرنسية رسالة لا تسمن ولا تغني من جوع، لكنها بالفرنسية، وكتبتها بلباقة، يعني كما فعلت في رسالة “الاسلام أو الطوفان” أنا لم أسبَّه ولم ألعنه، قلت له يا حفيد رسول الله ارجع، فما فهم ما قلت، كتبت له بالفرنسية ما يشبه هذا وانتهى الأمر.

د. عزام: لكن لماذا هذا الموقف المخاصم من السلطة هنا في المغرب لجماعة العدل والإحسان؟

الإمام: لأنها تقول لا، والقوم لا يقبلون من يقول لا، لا يقبلون من يقولون لا، في المغرب كلمة فرنسية عربية يقولون “بَنِي وِي وِي”، “وي وي” هي نعم، تقول نعم نعم، فهم لا يقبلون الذي يقول لا لا، فلهذا كانت ولا تزال المطاحنة، إن صحَّ الأمر، ولكن يطحنوننا لأن في يدهم القوة ونحن…

د. عزام: هل يمكن أن يكون السبب أنكم أو هذا ما يقال، وأريد أن أسمع منك، أنكم لا تعترفون بشرعية هذا النظام؟

الإمام: فعلا

د. عزام: لا تعترفون؟

الإمام: لا نعترف بشرعية الحكم العاض والجبري، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا، ونحن نتبع النبي صلى الله عليه وسلم، ديننا وآخرتنا أحبُّ إلينا من كل شيء، ولا نحب شيئا غيرهما محبتهما، النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لتُنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضا: الحكم وآخرهن الصلاة”[2]. والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر بهذا في حديث صحيح رواه الإمام أحمد: “تكون فيكم الخلافة”، واتخذنا هذا الحديث إماما لنا، إماما لنا نتبعه. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها (هذا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم)، ثم تكون خلافةً على منهاج النبوة (أو تكون خلافة ٌ على لغة كان التامة) فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون مُلكا عاضا فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت”[3]، وهذا يعني: أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بما يحدث بعده في أُمته، جاء الحكم العاض مع بني أمية، وإذا كان المسلمون لا ينظرون إلى تاريخهم، ولا يتفقهون بما وقع لتاريخهم، ولا يتبعون سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم الذي رسم لهم خط السير، فإنهم لن يفهموا إلى أين يسيرون، إذا كانوا يبنون على غير أساس، يعني هكذا الناس في الدنيا يتخابطون ويختصمون ويقتتلون إلى غير وجهة، ومن أين جاءوا، هذا… نحن نبدأ من النبي صلى الله عليه وسلم، قال، نتبعه، قال: لتنقضن عرى الإسلام، نُقضت، تكون فيكم النبوة ثم الخلافة ثم الحكم العاض ثم الجبري، هذا شيء نعيشه، ويعطينا النبي صلى الله عليه وسلم المفتاح لفهم تاريخنا، نزَا بنو أُمية على منبر حُكم المسلمين، نستثني منهم ذلك الرجل الفذ عمر بن عبد العزيز رضي عنه، نزوا على منبر الحكم فخضع الناس، خضع الناس لماذا؟ لأسباب يفهمها من يريد أن يفهمَها، نحن نقول: خضعوا للأمر الواقع حفظا لما يمكن أن يُحفظ، خافوا على وحدة المسلمين أن تتشتت فخضعوا، يعني فضلوا هذا على الفتنة، وفي هذا كلام طويل، طويل. فإذن الملك العاض والجبري نحن ضدّه، لسنا فقط ضد الحكم المغربي (العلويين)، العلويون وقبلهم المرينيون، والمرابطون وكانوا رجالا وأي رجال، كانوا رجالا عظماء، والموحدون أسسوا أعظم دولة في تاريخ المغرب. كانوا يحكمون من هنا إلى ليبيا إلى الأندلس إلى شمال الأندلس إلى الصحراء إلى بلاد السودان، على كل حال، نحن لسنا ضد النظام المغربي فقط، نحن ضد الحكم الجبري، من يحكم بغير ما أنزل الله، والذي أنزل الله عز وجل هو الشورى “وأمرهم شورى بينهم”، وقد كتبتُ لست أدري هل هذا الكتاب جاءوا به، كتاب “الشورى والديموقراطية”.

د. عزام: ليس هنا

الإمام: على كل حال، تكلمت عن الديمقراطية وعن الشورى، وما الذي يجمع بينهما، فالناس الذين يقولون أنتم ظلاميون لا تستفيدون من علوم القوم، وقد تقدم القوم، وأنتم تريدون أن ترجعوا بنا إلى حضارة الجمل، وما يُقال هنا يقال في بلدان أخرى، الحركة الإسلامية توصف أنها تريد أن ترجع الأمة إلى حضارة الجمل، نحن نقول هنالك شيء يسمى الديموقراطية، ما هي هذه الديمقراطية، ومن أين جاءت؟ كنتُ كتبت أنها جاءت جاءت من السوق. في آتينا كان هنالك تجمُّع في مكان يسمى آكورا، آكورا تجمع في السوق، فمن هنالك بدأت الديمقراطية. والديمقراطية نظامٌ لاستعباد الناس منذ اليونان، بينما الشورى جاءت من المسجد، جاءت من القرآن: “وأمرهم شورى بينهم”، وشروط الشورى هي كذا وكذا وكذا وكذا، فهذا من الأمور التي لا يوليها المسلمون انتباها، والذي لا ينظر إلى أصوله لن تكون له النظرة الفاحصة الواضحة النيرة إلى مستقبله شخصيا وإلى مستقبل الأمة، إلى أين نحن ذاهبون، إما أن يخيم علينا التشاؤم ونقول الأمة مشتتة، لكن قل لي من شتتها؟ لماذا هي مشتتة؟ من كان سببا لتشتتها؟ الحُكم. لتُنقضنَّ عرى الإسلام عروة عروة، نُقض الحكم عندما نزا ووثب بنو أمية، ثم توالى ذلك التطاحن جيلا بعد جيل، وتفتت القوم، وتفتت أمر الأمة فتاتا.

د. عزام: آه يفتت تفتيتا

الإمام: كلمة فتة أظنها كلمة مصرية، وفتتت الأمر حتى أصبحنا شتاتا، وأصبحنا ركاما، وأصبحنا لا نرى، لا نعرف ما نريد، وبعض الناس يتهموننا بالسذاجة وبالبله الفكري عندما نقول نحن نريد الخلافة على منهاج النبوة. وكأننا قوم أغرار نسير بالعقلية الخرافية، نريد الخلافة على منهاج النبوة، نريد عمر بن عبد العزيز، نريد صلاح الدين الأيوبي، لكن صلاح الدين الأيوبي هل نزل من السماء؟ هل كان أمره بين عشية وضحاها؟ كان هنالك نور الدين زنكي رحمه الله الذي وحد المسلمين في الشام، وكانت دويلات، ثم كان نجم الدين ثم صلاح الدين، كان تهييء، فبعضنا يظن: أنتم تريدون الخلافة على منهاج النبوة كأننا نحلم بشيء ينزل من السماء. الله عز وجل جعل لنا أسبابا لابد من احترامها، فهي سنته في الكون، ولي كتاب عنوانه “سنة الله”، وفي “سنة الله” كتبت عن اليهود وعن الصهاينة ما شاء الله، صفحات طويلة.

د. عزام: كل المسلمين يتمنون أن تعود الخلافة الراشدة. الإشكال بين العاملين للإسلام هو ماهي الوسيلة؟ ماهي الطريقة الأفضل؟ يعني هذا الحكم الذي ورثناه، وفيه كثير من العَور، وكثير من النقص والفساد، ما هو السبيل إلى إصلاحه؟ هنا تختلف الاجتهادات. لكن في ظني أن كل الذين يعملون للإسلام وجهتهم في نهاية المطاف أن يُحكم شرع الله.

الإمام: نعم

د. عزام: وأن تحل الشورى محل هذا الحكم الجبري العاض، ألا ترى ذلك؟

الإمام: هكذا نعم، ولكن كيف؟ كيف يقوم نظامٌ مومن بالله وبرسوله يحكم قوما أشتاتا؟

د. عزام: آه لابد أن يتوحدوا أولا.

الإمام: لابد من تربية أولا، لابد أن ننظر إلى الشخص الفرد، نقول: يا عبد الله إنك لم تخلق لهذه الدنيا، بل خُلقت لأمر عظيم، خلقت للآخرة وجزائها ودرجاتها، إذا كنت تريد الآخرة ﴿وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ (الشورى:20)، فإذا من يقول: نريد الحكم الإسلامي، ولكن هذا حرث من حرث الدنيا إذا كنا لا نُدخل في ذلك هم الآخرة، وهمُّ الآخرة غائب عن المسلمين إلا من رحم ربك. فالتربية تقتضي أساسا اليقظة، أن نوقظ النائمين من سُبات غفلتهم، نقول يا عبد الله إنك ستُحشر غدا إلى الله عز وجل، فبماذا تزودت من دنياك؟ لا بد لك من عمل صالح، يقول الله عز وجل ﴿ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ﴾ (الرعد:29) فما هي الصالحات؟ فمن الناس من هِمته لا تعدوا شُخيصَه، يقول أنا أصلي وأصوم، ولا أظلم أحدا، وأزكي وحدي فردا، هذا جيد، هذا نجا بنفسه، هنالك حديث عثرت عليه أخيرا منذ شهر أو… عند الإمام الدارمي، يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: “من طلب العلم ليحيِيَّ الإسلام كان بينه وبين النبيئين درجة”. والفرق هنا لأن هنالك أحاديث كثيرة تقول: “من طلب العلم” “والملائكة تبسط أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع” كثير من الأحاديث تحثنا على طلب العلم، “طلب العلم فريضة على كل مسلم”، لكن حديث الدارمي الذي رواه يتميز بهذا “من طلب العلم ليحيي الإسلام” يفكر في الأمة، إذا كانت همتك لا تعدوا شُخيصك وتقوم بما أمرك الله به خير، وهذا نسميه خلاصا فرديا، نسميه عملا فرديا، ولكن فضَّل الله المجاهدين، وأيُّ جهاد أفضل من أن تريدَ لأُمتك الخير وأن تجتهد وأن تبذل جهدك لكي تحيي الأمة من موات.

د. عزام: وقت هذه المراجعة انتهى، نوقف الحديث الآن، ونكمل الحديث بتوسع حول منهج جماعة العدل والإحسان وتصوراتها ومواقفها في المراجعة القادمة إن شاء الله.

الإمام: إن شاء الله.


[1] يقصد رسالة (Mémoire à Sa Majesté le Roi) في أبريل 1977م.
[2] أخرجه الإمام أحمد، باقي مسند الأنصار، حديث أبي أمامة الباهلي، رقم: 22160.
[3] مسند الإمام أحمد بن حنبل، مسند الكوفيين، حديث النعمان بن بشير، رقم 18406.

أضف تعليقك (0 )



















يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لضمان حصولك على أفضل تجربة ممكنة. تعرف على المزيد