مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسينمدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين
مدرسة الإمام المجدد
عبد السلام ياسين

قضايا فكرية

مرتكزات التفكير المستقبلي عند الإمام ياسين رحمه الله

0
مرتكزات التفكير المستقبلي عند الإمام ياسين رحمه الله

التفكير المستقبلي عند الإمام المجدد عبد السلام ياسين..المرتكزات والتجليات 

أولا-المرتكزات: 

يُعدّ الإمام عبد السلام ياسين واحدا من رواد التجديد الكبار الذين عرفهم القرن الخامس عشر الهجري، وقد استهدف الرجل من خلال جهوده العلمية والدعوية التي تواصلت لبضعة عقود:
-بعث الروح الإيمانية في أجيال الأمة واستنهاض الهمم لطلب وجه الله تعالى ونصرة الدين.
-صياغة نظرية منهاجية أصيلة للتغيير ترتكز على مبدأي التزكية والاقتحام، تسترشد بها الحركة الإسلامية لتحقيق المعادل المعرفي الذي ظلت تفتقر إليه معظم تيارات الصحوة الإسلامية المعاصرة في ترشيد مسارها.
-خوض جدلية النظرية والواقع من خلال إشرافه على القيادة الدعوية والتنظيمية وسعيه لتنزيل التصورات النظرية على أرض الواقع.
-تحقيق المصالحة بين أبناء الأمة والمستقبل من خلال التبشير بغد الإسلام ووضع التصورات والرؤى المستقبلية والخطط الإجرائية التي يستلزمها التمكين للإسلام.

والذي يهمنا في هذا المقام هو مقاربة التفكير المستقبلي للإمام المرشد رحمه الله الذي شكل أهم السمات المنهجية والموضوعية التي وسمت فكره، ولذلك نجده يؤكد في الفصل الأول من كتاب المنهاج النبوي: “يجب أن نصنع فكرا مستقبليا يلقي على آفاق هذا القرن الخامس عشر، قرن الإسلام بإذن الله، ومن بعده نور القرآن ونور الهدي النبوي… وإننا لفي سباق مع الثورة الصناعية التي سبقونا بها، ومع الثورة الإعلامية-أقصد ثورة الإلكترون وآلات العد والتنظيم والضبط- التي لا يقدر ما ستحدثه في حياة الناس من آثار إلا الله تعالى وتبارك.”[1] ينبه الإمام المجدد هنا على المتغيرات العاصفة التي ستحدثها التكنولوجيا عموما وهذا قبل صدور أول كتاب يرصد الظاهرة لعالم المستقبليات الأمريكي إلفين توفلر الموسوم ب: الموجة الثالثة، ثم بعده كتاب: صدمة المستقبل، الذي يتحدث فيه عن خطورة المتغيرات التي سيحدثها تطور التكنولوجيا وأساليب التقانة على البيئة الإنسانية وعلى السلوك البشري لا سيما في ظل عدم التوازن بين التطور المادي التكنولوجي وتطور العلوم الإنسانية هذه الأخيرة التي باتت عاجزة عن مواكبة آلة التسارع التكنولوجي، وتعيش بالفعل أزمة حقيقية.
إن خاصية المستقبلية إحدى السمات الكبرى التي طبعت فكر الإمام المجدد كما تنطق بذلك نصوصه ومكتوباته، ويتمثل ذلك في المرتكزات الآتية:

1-امتلاك الرؤية المستقبلية:

ويعتبر امتلاك الرؤية هو مفتاح أي تفكير مستقبلي، وبافتقادها تصبح عملية الاستشراف والتطلع إلى المستقبل عبثية وليست ذات قيمة، فهي كما يرى أحمد صدقي الدجاني حصيلة جهود مضنية من الاستجلاء والاستطلاع وإمعان النظر.
والرؤية هي ذروة عملية الدراسة المستقبلية وهي النظر بالعين والقلب، والنظر بالعين والعقل، وإدراك المرئي بطرق عدة، فهي الحاسة والتخيل والتفكر والعلم. [2]
ويعبر الإمام المجدد عن عمق رؤيته المستقبلية بقوله: “فلا يمنعنا تشبثنا بسنة نبينا صلى الله عليه وسلم أن نفكر ونخطط ونطرح مشاكل للمستقبل بوسائل الحاضر، لا سيرا مع الخط الذي تسير فيه الحضارة المادية الصائرة إلى الهاوية، لكن إعدادا لقوة العلم والتنظيم كي نحل مشاكل التنمية، ونحل معها مشاكل الحضارة المادية المفروضة علينا، ريثما نقيم حضارة أخوية على مستوى حاجة الإنسانية للحرية وطمأنينة العيش والنفس، ونرد السلام للعالم، إننا لا نرضى بهيمنة الدول العظمى على العالم، ولا باستعباد الإنسان وهضم كرامته وحقوقه الآدمية، ولا بطحن جسم الإنسان ووقته بين عجلات الإنتاج والاستهلاك، ولا بتشويه نفس الإنسان وحياته الفكرية والعاطفية بالثقافة المنحلة المخدرة العنيفة.”) [3]

وتوضح هذه المقولة العناصر الأساسية للرؤية المستقبلية التي فصلت في شأنها باقي كتابات الإمام المرشد، وتتجلى في:
-الجمع بين أصالة المنهج، من خلال اقتفاء السنة النبوية، والتخطيط لمستقبل الأمة بوسائل الحاضر المتجددة، فالماضي يصبح قوة دفع نحو المستقبل، والرجوع إليه إنما يكون لالتماس حكمة السلف ومزجها بحكمة العصر، وليس بالانكفاء على وسائله المتجاوزة بفعل تغير الزمن وتجدد الوسائل.
-الخط الإسلامي المستقبلي اللاحب، المزايل لخط الحضارة المادية دون تنازل عن اكتساب القدرة العلمية والتنظيمية التي تعد إحدى سمات القوة المميزة لهذه الحضارة.
– اقتضاء المرونة السعي لمعالجة مشاكل الحضارة المادية في أفق إقامة حضارة العمران الأخوي التي تعيد للإنسان آدميته وكرامته المهدورة وتخلصه من ثقافة الانحلال.
إن وضوح الرؤية التي يلح عليها رواد المستقبلات الحضارية وعلى رأسهم المنجرة تكمن أهميتها في تجاوز التصورات اليوتوبية الحالمة والتفسيرات التقليدية الساذجة، بحيث “يجب أن تمس الرؤية مستوى اللاوعي العميق، والرمزي غالبا، لما يعنيه كوننا بشرا ودورنا كبشر – وكمسلمين – في التاريخ والمستقبل .”) [4]
ووضوح الرؤية هو أول خطوة لبناء أي إستراتيجية حضارية وأي عملية استشرف مستقبلية، وبدونها لن يكون الاهتمام بالمستقبل سوى هروب إلى الأمام وفرار من الحاضر نحو المجهول.

2-المرتكز التاريخي:

تقدم مكتوبات الإمام المجدد نظرية متكاملة في تفسير التاريخ الإسلامي، تميزت بالأصالة والعمق من خلال استمداد قواعدها وأسسها من الوحي والانفتاح على آليات التحليل والتفسير والنقد التاريخي، ومع ذلك نجده يتجاوز الاتجاهات الغربية الثلاثة لتفسير التاريخ وهي: المثالية والمادية والحضارية، لكونها لم تأت بجديد في جوهر تصوراتها على الإطلاق، من خلال تأكيدها على أن محور الفاعلية الحضارية وأسُّ الأسس في الحركة التاريخية هو الصراع، والجدل (الديالكتيك) أو تحاور النقائض المتقابلة.

ورغم أن القرآن يؤكد على وجود فكرة الصراع بأبعاده المختلفة، إلا أنه يرفض أن يكون ذلك أداة للانتكاس والرجوع للوراء. [5]ولذلك يلح الإمام المجدد على أن “المنهاج النبوي ضروري لتفسير التاريخ والواقع، ضروري لفتح النظرة المستقبلية، ضروري لرسم الخطة الإسلامية دعوة ودولة، تربية وتنظيما وزحفا، ضروري لمعرفة الروابط الشرعية بين أمل الأمة وجهادها، ضروري لمعرفة مقومات الأمة وهي تبحث عن وحدتها، ضروري لإحياء عوامل التوحيد والتجديد، ضروري لمعالجة مشاكل الأمة الحالية قصد إعادة البناء.”) [6]

ولما كان جوهر نظرية المنهاج النبوي وأساس استمداها يكرع من منابع الوحي الذي لا ينضب معينه، فإنه يقرر ويؤكد بوثوقية المؤمن ويقينه: “عن مطلق القرآن لن نحيد بتوفيق الله جل شأنه، وما كسبه السلف الصالح من علم وفقه روافد تغني تجربتنا. لا يضيرني أن أتخذ عالما وفقيها ومذهبا دليلا في سفري العقلي، مادامت الدلالة والتفقه والتأصيل عمليات تتم تحت ضوء القرآن ونور السنة. يضيرني أن أقبل تقدير غيري، من زمانه ومكانه ونيته وظروفه لقضايا خطيرة مثل قضايا الشورى والعدل والإحسان، والزمان زماني والمكان والظروف والعزم.)لكيلا تسبقنا الأحداث، لكيلا يُنَحِّينا إلى الهامش حماس ثائر، أو كراهية لتاريخنا، أو قبول لمأثورات الفتنة غير مشروط، ينبغي أن نوطن الأقدام على مواقف راسخة برسوخ إيماننا بالله ورسوله وموعوده المنهاجي، وأن نرفع الهمة على هامة الزمان، ننتعل الثريا، لنستحق أن نكون تلامذة راشدين بين يدي) [7]﴿رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة. وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة. وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويوتوا الزكاة. وذلك دين القيمة [8]

وبالإضافة إلى ذلك فإن هناك منطلق أساسي لتفسير التاريخ الإسلامي وسبر أغواره وفهم الكثير من أحداثه وانكساراته، يتمثل في النظر من أعالي التاريخ، “يهبنا الوهاب بفضله همة عالية لننظر إلى الواقع من أعالي التاريخ لا من أسافله، لنفهم من مكاننا العالي، بين يدي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يتلو علينا القرآن ويشفعه بالبيان، لم انحلت عرى الإسلام تباعا بانحلال العروة السلطانية؟ لم سكت من سكت وقام من قام واختلف من اختلف؟ لم مرضت الأمة المرض المهلك لما جاءت عهود الأُغَيْلِمَة يسقون الأمة الحِمام بالسيف، يقتلون فيها الشهامة والمروءة؟ لم طردت إرادة الأمة من التاريخ؟ لم اغتيلت الشورى وتاهت على الكون إرادة المستبد ؟ لم غاب العدل وطغى المترفون ونشأت واستمرت واستفحلت في عصرنا تقاليد “ألف ليلة وليلة”؟ لم تفتت الدين حتى بلغنا إلى درك الإسلام الفردي، إسلام “المتدين” لا يرى الدين شيئا آخر غير رُكَيعات ينقرهن إن كان أو رحلة يتمتع بعدها بلقب “حاج”؟) [9]

ومع كل هذه الأسئلة العميقة عن حال الأمة وعن سبل إنهاضها من جديد، يحذر الإمام من استمرار ضياع جهود الأمة في الخلاف المذهبي والمراء الكلامي العقيم الذي عبره يتم استئناف معارك الماضي، ويدعو إلى الابتعاد عن التقليد والخنوع، وتجاوز الذهنية التبسيطية والتجزيئية، التي لا يمتلك أصحابها الآليات والمعالم المنهاجية للفهم والتحليل، بحيث لا يميزون بين تاريخ الإسلام وتاريخ المسلمين، وتتألف رؤيتهم الإسلامية ليس من أصول الوحي ومن النظر من أعالي التاريخ، بل من خلال النظر من أسافله وعبر الثقافة المترسبة في الأذهان بما تنطوي عليه من إخفاقات وانكسارات عرفها تاريخنا الموروث، “من كانت ترسبات تاريخنا الحافل تشغَل منه العقل والخيال، وكانت أنقاض ما نقض من عرى الإسلام تتمثل لديه معالم هادية، وكان ثقل الأحداث الماضية يحمله على رأسه، وكانت تحديات الحاضر والمستقبل تحاكَم في تقديره إلى التراث الفقهي الثري العظيم لا غير، فذاك ينظر إلى الأمور من أسافلها، يظن أن صناعة التاريخ لا تتأتى إلا بوضع نفوسنا تحت كلْكَله. ذهنية التي لا تميز تاريخ الفتن، وهو تاريخ المسلمين، عن تاريخ الإسلام الذي كان نموذجا رائعا في اتجاهه وإنجازاته على عهد النبوة والخلافة الراشدة، تكيل في صواع أعداء الدين من بني جلدتنا دون أن تشعر. تكيل في صواع القوميين العلمانيين الذين يعتبرون تاريخنا كتلة واحدة، نسبية كلها، جدلية كلها، تحمل بداياتها جراثيم تطورها وانجرافها، تفسر نهاياتها في زمن التخلف والهزيمة هذه، محدودية الدعوة المحمدية وإقليميتها ومكانها في سلم التطور الاجتماعي الساري في المجتمعات البشرية المؤتمِر بحتمية مادية جدلية.”) [10]

إن النظر من أعالي التاريخ يتيح لنا التخلص من أسار الأحداث والأشخاص مهما عظم شأنهم، كما يمنحنا الرؤية الكلية والشاملة، بحيث نستجمع أجزاء الصورة المبعثرة نحو تأليف موقف كلي، يعطي لعملية التفسير زخما حقيقيا، ويجعل تعاملنا مع نصوص الوحي أكثر تحررا من ثقل الخلفيات والرواسب الثقافية التي انتجتها المجتمعات الإسلامية في تفاعلها مع الثقافات والحضارات الأخرى، ومن ثم استطاع الإمام المجدد أن يعيد قراءة تاريخ الأمة عبر منظار الوحي، مسترشدا بنصوص القرآن والسنة الصحيحة، وسنن الله في الخلق، فكان حديث الخلافة الذي أخرجه الإمام أحمد عن النعمان بن بشير منطلقا أساسيا في تحقيب التاريخ الإسلامي إلى وحدات موضوعية يحددها عاملين أساسيين:
-طبيعة نظام الحكم وسلوك الحكام.
-حاكمية الشريعة وسيادتها على الأمة.

ليخلص بشكل دقيق إلى توصيف للمراحل التي مرت بها مسيرة الأمة، وإلى تفسير صيرورة الأمة في الحاضر، حيث جرى تحولها من فترة الملك العاض إلى فترة الحكم الجبري. وللتدليل على خطورة الانكسار الذي حدث في تاريخ الأمة بانفراط عهد الخلافة والتحول نحو نظم حكم شمولية واستبدادية تقوم على التوريث والغلبة بالسيف بدل الشورى واختيار الأمة، ساق الإمام الكثير من الشواهد النبوية المخبرة بذلك وعلى رأسها حديث “لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضا الحكم، وآخرهن الصلاة.”) [11]

وبنفس الاتجاه في تعميق الرؤية واستجلاء معالمها سار الإمام المجدد في مختلف القضايا والإشكالات التي خاض غمارها، وكلما كانت الرؤية التاريخية أوضح –لاسيما بالنسبة للأمة الإسلامية التي يشكل زمن النبوة والخلفاء الراشدين مصدر إلهام لها ونقطة ارتكاز أساسية- كان بالإمكان الانطلاق نحو المستقبل بروح وفاعلية أكبر.

3-المرتكز الإيماني:

شكل المرتكز الإيماني أقوى زوايا نظرية المنهاج النبوي لدى الإمام المجدد، ومن ثم كان هو المحرك الأساسي للتفكير المستقبلي، ويعتبر دارسو المستقبل أن “النمط الاعتقادي” يعتبر من أقدم أنماط الاهتمام بالمستقبل والتنبؤ به، وهو “عميق الجذور في الحياة الإنسانية بادي الأمر عند مختلف الشعوب. إنه يعود أيضا إلى أقدم الأزمنة التاريخية. وقد ماشى حضارات في نشوءها وتطورها، ولم يخف أثره، كما كان شأن التنبؤ البدائي، بل ظل قويا وفاعلا، وما زال كذلك في هذه الأيام … هذا (النمط لاعتقادي) لأنه يقوم على عقائد أو نظرات شاملة إلى الكون والحياة تنسحب على الماضي والحاضر والمستقبل، فمنذ فجر التاريخ، حاول الإنسان حيثما وجد، أن يتخيل أو يتصور أو يتفهم علل الأحداث الطبيعية والبشرية والقوى المسيطرة عليها.”) [12]

وعلى الرغم مما انتهى إليه الإنسان من سيادة النهج الاختباري والتعليل العلمي الريادي، فقد ظل للتعليل العقائدي غير الاختباري سلطته وانتشاره، وتجلى بمظهرين متميزين أحدهما ديني والآخر فلسفي، مع تلاق وتفاعل بينهما، وما زال الأمر كذلك إلى الوقت الحاضر .

وفي حين يؤكد بعض الدارسين أن الدراسات المستقبلية فيها نزعة إيمانية لا يمكن أن تقوم بدونها، ونزعة طوباوية تخيلية، رغم تميزه بالصفة العلمية والطابع الاختباري المعياري. [13] لكن دراسة المستقبل شأنها شأن أي اختبار علمي لا بد له من الانطلاق من رؤية تحكمه، “وتتميز مقاربة الدراسات المستقبلية برؤية مومنة مسلمة، ببعدها الروحي وأساسها الإسلامي العقيدي، فهذا الأساس يحث على الاهتمام بدراسة المستقبل، والالتفات إلى الزمن … وتتردد في القرآن الكريم كلمات (الدهر والغد والحين والوقت وقبل وبعد) وجميعها تدعوا إلى الالتفات للزمن والاهتمام المستقبلي،كما تتردد كلمات (البصر والبصيرة ورأى والرؤيا والحلم) وهي تدعوا إلى النظر فيما هو قادم مقبل . “) [14]

وقد شكلت الرؤية الإيمانية أساس الفكر المستقبلي عند الإمام عبد السلام ياسين، يعكس ذلك إيمانه بأن المستقبل ليس حتميا تتحكم فيه القوى الكبرى عالميا، أو القوى الجبرية محليا، بل إن المستقبل بيد الله الواحد الأحد، وخاضع لقدَرِه سبحانه وقُدْرته، كما أنه مفتوح على احتمالات ومسارات تتحدد حسب جهودنا وسعينا ودأبنا، وجهادنا وتدافعنا مع قوى الهيمنة والاستكبار المحلي والدولي، ولذلك نجده يرفض فكرة الواقعية بمعنى الاستسلام للواقع، كما يرفض التواكل والفكر القدري الاستسلامي الانتظاري الذي ساد في المجتمعات الإسلامية، وعشش في العقول المسلمة خلال قرون التخلف والانحطاط الأخيرة، وعطل من مفاعيلها النهضوية. وفي معرض تعقيبه على حديث نزول عيسى عليه السلام ينبه الإمام ياسين على أن “الخطر كل الخطر في الفهم العامي لقيام المهدي الموعود. رجال قاوموا في تاريخنا وتسموا مهديين ونفع الله بهم. معذورون إن اشرأبت أعناقهم للمزية الفريدة، ومعذور من قاتل عن الإسلام إلى جانبهم. وما هي إلا هبات متتابعة التقى فيها الداعي المقتنع بقضيته بجمهور ينتظر. أما الانتظار البليد فهو الخطر. أن تبقى العامة في أحلام الانتظار وخموله دون النهوض والتشمير، ومن الفهم العامي أن يتصور الناس رجلا –بلغ ما بلغ من التوفيق والشجاعة والحيوية- يبرز فجأة والناس من حوله نيام خاملون فتحدث المعجزة. ولن يبلغ أحد معشار ما خص الله به محمد صلى الله عليه وسلم من التوفيق وكل خصال الخير. ومع خاصية النبوة والرسالة والعصمة فإن قيامه صلى الله عليه وسلم تدرج على سنة الله في النبيئين قبله، واندرج جهاده في تاريخ الأرض وهو صراع ومدافعة مغالبة.”) [15]

وتتميز الرؤية المستقبلية للإمام المجدد رحمه الله باعتصامها وانبناءها على نصوص القرآن وصحيح السنة المطهرة، ومن ثم جعل من حديث الخلافة (الذي أخرجه الإمام أحمد بسند صحيح عن حذيفة بن اليمان) محور تفكير لما يبعثه من أمل في نفوس أجيال الأمة اللاحقة، وما يحمله من بشارة عظيمة بانتصار الإسلام واستعادة الأمة لحيويتها وفاعليتها في التاريخ، ولذلك يقرر بأن “الحديث يتضمن الوعد الصادق بأن الخلافة الراشدة تعود. يتشبث وهم التاريخانيين بنظرية الحتمية التاريخية التي لا سند علميا لها والتي انتهى أجلها مع موت الإديولوجيات في عصرنا، ويملأ هذا الوهم في تفكير الماديين فراغا خلّفه كفرهم بالقضاء والقدر. وهذا هو الحديث يجمع لنا:)1-شرع الله الذي يضمن الخلافة في الأرض لمن اتبع الهدي النبوي.)2-قدر الله الذي يكشف أطوارَه الوحي، وتبلغ بشارته عمر بن عبد العزيز رحمه الله فيُسَرُّ، وتبلغنا فنُشمِّر احتفاء بالبشرى، وتأهبا لورود القدر الموعود، توكل منا، مع إعداد القوة، واتخاذ الأسباب، لا نعاسا وأحلاما.”) [16]

ويوجه الإمام المجدد نقده للمستقبليين الذين لا يسترشدون بالوحي ولا يستحضرون قدر الله النازل وقدرته التي تتجاوز حسابات الخبراء والفنيين: “وما أشد ظلمة حسابات المستقبليين الذين يتخيلون (سيناريوهات) لمستقبل البشرية، إذ يعتمدون على تدبيرهم وحذقهم. والمستقبلي المؤمن بين يديه وعد الله ورسوله ينير أمامه، فإن حسب واحتاط وقدر وخطط –وكل هذا واجب شرعي- فإنما يفعل على بينة من قدَر ربه. وهذا فرق ما بين الذي يخبط في ظلام الأرقام والأوهام والذي تلقى كلمة الحق فهي له إمام.”) [17]

وبهذا تأتلف مرتكزات التفكير المستقبلي عند الإمام المجدد من عناصر متماسكة تتأسس على قاعدة نظرية المنهاج التي تحقق كسبها من الوحي ممثلا في القرآن والسنة، وتتجلى هذه العناصر في الرؤية اللاحبة التي تجمع بين التفسير المنهاجي للتاريخ والإدراك العميق والمتزن لمتغيرات العصر، وكل هذه العوامل في تضافرها وتكاملها شكلت عنصرا مساعدا على تبلور التفكير المستقبلي عند الإمام المجدد رحمه الله، وهو ما تظهر تجلياته في مختلف إنتاجاته الفكرية والعلمية.

[1]ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي، ص26
[2]الدجاني أحمد صدقي: الدراسات المستقبلية وخصائص المنهج الإسلامي فصلية المستقبلية العدد 2، السنة 2001، المركز الإسلامي للدارسات المستقبلية بيروت لبنان، ص22
[3]ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي، ص26
[4]إسلامية المعرفة، مجلة فكرية فصلية محكمة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فرجينيا الولايات المتحدة الأمريكية، عدد 17 سنة 1999، ص 51
[5]خليل عماد الدين: التفسير الإسلامي للتاريخ ، دار العلم للملايين بيروت ، الطبعة الخامسة 1991، ص 237
[6]ياسين عبد السلام، نظرات في الفقه والتاريخ،دار لبنان للطباعة والنشر، ط1، 1428هـ/2007م، ص 12
[7]المرجع نفسه، ص 63
[8]-سورة البينة الآيات (2-5)
[9]-المرجع نفسه، ص 60-61
[10]-المرجع نفسه، فقرة: ص 62
[11]-أخرجه الإمام أحمد في مسنده والحاكم في المستدرك والطبراني في المعجم الكبير وابن حبان في صحيحه بسند جيد
[12]– زريق قسطنطين: الأعمال الفكرية العامة ، نحن والمستقبل ، ص 58
[13]-المرجع نفسه، ص 74
[14]– الدجاني أحمد صدقي: الدراسات المستقبلية وخصائص المنهج الإسلامي ، فصلية المستقبلية العدد الثاني، بيروت، لبنان، ص 28-29
[15]– ياسين عبد السلام، مقدمات لمستقبل الإسلام، ص35-36
[16]-المرجع نفسه، ص27-28
[17]-المرجع نفسه، ص33

أضف تعليقك (0 )



















يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لضمان حصولك على أفضل تجربة ممكنة. تعرف على المزيد