post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

<h2>ثالثا: الحداثة من النقد إلى البناء والتأسيس.</h2>
في سياق عدم التوافق بين الشعارات الأولى للحداثة التي بشر بها  العقل الحداثي الغربي وبين تشكلاتها العلمية عبر التاريخ الحديث لأروبا ظهرت عدة مدارس  نقدية  كمدرسة فرانكفورت الألمانية التي استطاع علماء الاجتماع فيها عبر رؤاهم النقدية أن يكتشفوا مثالب الحداثة ومخاطرها، والانفصام الذي أحدثته تجربة الحداثة الأوربية بين القيم والمعرفة، كما كانت لهم الريادة في طرح عصر الأنوار والحداثة للنقد عندما ناقش هوركهايمر وأدورنو في كتابهما &#8220;جدل التنوير&#8221;  العلاقة الجدلية بين أفكار عصر التنوير وبين تطبيقاتها العملية في الواقع الاجتماعي.
كما لا تخفى انتقادات آلان توران للحداثة التي فقدت –في نظره- قدرتها على تحرير الإنسان، يقول: &#8220;بقدر ما تنتصر الحداثة بقدر ما تفتقد قدرتها على التحرير&#8221; ويضيف: &#8220;لقد انتزعتنا الحداثة من الحدود الضيقة للثقافة التقليدية المحلية التي كنا نحياها وألقت بنا في جحيم الحرية الفردية، لقد ناضلنا ضد نظم الحكم القديمة الفاسدة وميراثها، أما في القرن العشرين فضد الأنظمة الجديدة والمجتمع الجديد والإنسان الجديد&#8221;.<a id="_ednref1" href="#_edn1">[1]</a>
       وخلافا لما عرفته إشكالية النقد على مدى القرون الماضية في الفكر الغربي والعربي الإسلامي، نجد  الأستاذ عبد السلام ياسين اشتغل على سؤال الحداثة من خلال سؤال الكيف بدل أسئلة الكم التقليدية، أي أنه تجاوز مجرد النقد إلى البناء موضحا كيفية التأسيس لحداثة إنسانية  تستفيد من معطيات الحداثة الغربية لتؤسس لنموذج عمراني إنساني يستجيب لتطلعات الإنسان المعاصر في كل المجالات.
       ينطلق الأستاذ عبد السلام ياسين في إطار تأسيسه لرؤيته التجديدية ككل من مرجعية إسلامية واضحة، لكن برؤية تجديدية نقدية بنائية، فهو يعتبر أن بداية تحرير الإنسان ينبغي أن تتشكل في نموذج جغرافي وبشروط وإمكانيات مرحلية ريثما يتسع الأفق لتحقيق النموذج العالمي الإنساني الذي يصل إلى كل إنسان على وجه الأرض على اختلاف لسانه وحاله، &#8220;فأفقنا أوسع ورؤيتنا أبعد! إن نظرتنا غير محدودة بنطاق الدولة القومية التي تخنق أنفاسنا، لأن غايتنا مهما طال الزمن هي توحيد الشعوب الإسلامية في كيان واحد. واجبنا توحيد الأمة. قد يبدو هذا حلما أجوف وأمنية فارغة، لكن قرآننا -كلمة الله الحية- يأمرنا بأن نكون أمة واحدة موحدة، والزمن يدفعنا -كما تدفعنا الضرورات الاقتصادية- إلى التقارب. ثم إن هذا الذي يبدو اليوم مجرد حلم أجوف لن يلبث أن يصبح واقعا يوم أن يَأذَنَ الله وتتفق الأمة على شكل التنظيم الوحدوي الملائم&#8221;.<a id="_ednref2" href="#_edn2">[2]</a>
وتبعا لذلك يفصل الأستاذ عبد السلام ياسين القول في الإمكان العملي للتطبيق الحداثي على عدة مستويات نذكر منها:
1-المستوى الاجتماعي: يعتبر الأستاذ ياسين أن البنية المجتمعية تشكل حلقة مهمة في مسلسل التغيير الحضاري الإنساني لا الدوابي في مسلماته التطورية الصراعية والعبثية الوجودية، لأن تحديث الأسرة وفي مكوناتها الطفولة التعسة والمرأة الدمية المعبودة المكدودة تنغيص وتفويت للحقوق وخنق للحريات وعدوان على حقوق الإنسان.إذ يعتر أن الأصل في التنمية الحضارية هو التنمية الاجتماعية التي تقوم على بناء المجتمع المتماسك بأواصر الرحم الإنسانية، وفي هذا السياق يقترح قضية التعبئة الاجتماعية لتأهيل العامل البشري وتوعيته بأهمية الانخراط في مشاريع تحرير الإنسان من قبضتي الحداثة الغربية والجمود الذاتي، لتحيى قيم الروابط الآدمية الإنسانية وتختفي النزعة الفردانية الشرسة التي فككت الكيان الإنساني إلى كيانات متعددة ومتباعدة يسودها الجفاء.
يقول الإمام ياسين: &#8220;حرفتنا التربية. هي وسيلتنا لتغيير الإنسان حتى يتبنى موقفا ونظرة وإرادة تتعالى على الظرفيات التاريخية، وتتجاوز الحدود الجغرافية الضيقة التي تحيطنا بها سياسة المنـزل الإقليمي الصغير، وذهنية الهوية التجزيئية. نظرتنا وحرفتنا اللتان نجتمع عليهما وننتظم، تميزاننا عن الأحزاب السياسية التي لا يتعدى طموحها المدى القريب، ولا غاية لأعضائها إلا الحقيبة الوزارية. مشروعنا بعيد المدى، والتغيير العميق الذي يتم بواسطة التربية والإقناع لا يمكن أن يعاش إلا بعد مخاض عسير&#8221;<a id="_ednref3" href="#_edn3">[3]</a> ويضيف: &#8220;إن الحركة التربوية وتغيير الذهنية والسلوك لا يرتجلان، كما أن ابتكار المستقبل وشكل النظام لا يقومان على أرضية انتخابية أو برنامج حكومي. وإنما يقتضي الأمرُ مَشروع عُمرانٍ واضح الخُطَّة ونظرة بعيدة تبني مشروع مجتمع يستجيب للحاجات الدائمة التي تفتقر إليها الشعوب الإسلامية، ويُؤَمِّنُ العدل والسلام الذين تتوق إليهما. لابد لهذا المشروع أن يصاغ وأن  يجسد في إرادة عامة. لابد أن ينطلق من دستور حازم لا يميل مع الأهواء كما يميل الغصن مع أدنى هبة ريح&#8221;<a id="_ednref4" href="#_edn4">[4]</a>
2-  المستوى الاقتصادي: إن من بين أهم مقومات الحياة المعاصرة هي قوة الجانب الاقتصادي إذ لا يمكن أن نتكلم عن تحرير للإنسان مما ألحقته به الحداثة والعولمة، بعودته إلى عصور ما قبل التاريخ وتخليه عن الجانب التحديثي الذي بالغ العقل الحداثي في تشكيله. فقد أصبح الإنسان المعاصر شديد الحرص على العيش وفق ما وصل إليه العقل من تطوير لوسائل العيش، والعبرة ليست بنقد آليات التحديث وإنما في كيفية الاشتغال بها، ولذلك فتقوية الجانب الاقتصادي والرفع من أدائه من أكبر تحديات مشاريع التغيير الإسلامية وقبل ذلك تطهيره من ما علق به من أثار الجشع المادي والتشيئي، فـ&#8220;الاقتصاد الحديث العهد الإمبراطوري الخاضع للشركات الدولية العملاقة لا يدع لنا منفرجا ضيقا لنتسلل عبره إلى فضاء الكفاية والعيش الكريم إلا بتركيز جهودنا وتجميع قوانا الذاتية.&#8221; ص 282، ويضيف &#8220;لِذلك يجب أن يكون لمستقبل المجتمع الإسلامي الذي علينا أن نبتكره استراتيجية مختلفة تكيف وسائل الحداثة لأهداف الإسلام المتميزة. ونحن نعلم أن النفوذ السياسيَّ هو الذي يحدد بنسبة غالبة مستقبل أي مجتمع: اقتصاده وتطوره وقدرته على بلوغ غاياته والتغلب على انحرافات الواقع. لأن السياسة -بما تملك من سلطة- قادرة على التأثير في كل مظاهر الحياة العامة والخاصة. يجب إذن أن تلتحم السياسة الاجتماعية والصناعية والزراعية والتربوية والإعلامية بالبحث العلمي وبخطط التنمية والاستثمار، لتندرج في استراتيجية شاملة تحدد الأولويات وتقيس الحصيلة بالمعايير الأساسية للفعالية المقترنة بطمأنينة الإنسان الروحية، طمأنينة المومن بالله واليوم الآخر، تخدُم راحتُه في الدنيا هَمَّهُ الأخروي. لابد للانطلاقة الجديدة -إذا أرادت أن تتم تحت لواء الإسلام- أن تبني تصورا جديداً للحكم وتنظيماً جديداً للسياسة. لابد من نظام جديد يلائم الطموحات الجديدة. لابد أن يرحل المجتمع التقليدي المكون من ذرات حيَّدتها قبضة الحكم المطلق المتقمص بذلة الديمقراطية لتحل محله أمة حية مشاركة.&#8221;<a id="_ednref5" href="#_edn5">[5]</a>
3-  المستوى السياسي : الجانب السياسي لا يقل أهمية عن الجوانب السابقة في مشروع التغيير  والتحرير بل يعتبر الجانب المركزي والمهم بل والمسؤول تاريخيا عن تدهور أوضاع الأمة وضياع الإنسان، وفي الوقت الراهن يتصف مجال التدبير السياسي بأكبر وأخطر المشاكل فإذا كان خطر الجانب الاجتماعي والجانب الاقتصادي واضح على فضاعته فإن الخطورة في الجانب السياسي تكمن في الغموض الذي يكتنفه حيث تستخدم فيه أمكر المناهج و أدهاها وتتجاذبه تيارات تعترف بكونها تكاد تتفق على عدم جدوائية التدبير السياسي الحالي وإن كانت في غالبيتها لا تعلن عن ذلك صراحة.
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: &#8220;إذا رضينا بتلقي الصفعات التي توجهها الرأسمالية المتوحشة إلى اقتصادنا وتجاهلنا المبادئ التي تحكم علاقة الفرد المسلم والمجتمع المسلم بالمال، فسنبقى مجرد لقم سائغة بل سنكون شركاء في جريمة اغتيالنا. فما الثمرات الخبيثة التي تولدت عن الرأسمالية المُنتجة للمظالم إلا أعراض للتشوهات الملازمة لاقتصاد السوق. مهما نددنا إذن بالسارق، فلن نمسك به أبدا ما دمنا لم نتمكن من تشخيص العاهة الوراثية المخزية للرأسمالية، عاهةٍ أصبحت بادية لعين كل محلل بصير: الربا وعبادة العجل الذهبي. ففي عرف الرأسمالية لا تعتبر الفائدة ربوية إلا إذا تجاوزت النسب القانونية، لأن القوانين المالية للبنوك المركزية الرأسمالية وللمؤسسات المالية الدولية تعين للمال حدا معينا لا يجوز لنسبة الفائدة تجاوزه حتى تحقق توازن الموازين الاقتصادية الكلية، وذلك يجعل المال يستفيد من المردود الثابت في مأمن تام. لذلك يضطر العامل والمقاول إلى الكدح لأداء الفائدة وتحمل الخسائر المحتملة وحدهما. أما الحلم الكينـزي الكبير الذي كان يقرن التشغيل التام لليد العاملة بنسبة الفائدة الصفر فلم يتحقق ولن يتحقق أبدا مادام الإنسان حبيس ميولاته الأنانية، ومادامت المجتمعات الحديثة لا تحركها إلا الحسابات الأنانية ولا تمتثل إلا لقاعدة الربح الرأسمالي.&#8221;<a id="_ednref6" href="#_edn6">[6]</a>
  وفي الختام هل استطاعت مقاربة الأستاذ عبد السلام ياسين أن تخرج مفهوم الحداثة من قواعد مجالها التداولي الغربي إلى مجال التداول الإسلامي؟ وهل استطاعت تقديم مساهمات لمستقبل الإنسان والإسلام؟ مستقبل  هادئ ومستريح من الاضطراب الجنوني الذي يحرم الناس من العيش في سلام، متصالحين مع الله، منفتحين بالمودة والرحمة على الإنسان، مهمومين باجتياز إعصار الحداثة الصاخب، وبالعبور من هذه الدنيا إلى الآخرة وكلهم رجاء في السعادة الأبدية؟
<a id="_edn1" href="#_ednref1">[1]</a>الان توران، نقد الحداثة، ص 242 <a id="_edn2" href="#_ednref2">[2]</a>ياسين عبد السلام، الإسلام والحداثة، ص 325 <a id="_edn3" href="#_ednref3">[3]</a>الاسلام والحداثة ص 312 <a id="_edn4" href="#_ednref4">[4]</a>الاسلام والحداثة، ص 326 <a id="_edn5" href="#_ednref5">[5]</a>الاسلام والحداثة ص308 <a id="_edn6" href="#_ednref6">[6]</a>الإسلام والحداثة، ص 266

العلوم الشرعية في تراث الإمام عبد السلام ياسين اهتمام وإسهام

معالم التجديد عند الإمام وسؤال الحداثة 3/3

صورة تخيلية للإمام الغزالي بالذكاء الاصطناعي

الإمام الغزالي: المنقذ من ضلال السفسطة

معالم منهجية في قراءة كتب الإمام

الإمام الغزالي بيداغوجيا : تعريف وملاحظة وتمرين

قضايا فكرية

معالم التجديد عند الإمام وسؤال الحداثة 3/3

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

معالم التجديد عند الإمام وسؤال الحداثة 3/3

معالم التجديد عند الإمام وسؤال الحداثة 2/3

معالم التجديد عند الإمام وسؤال الحداثة 1/3

مقالات ذات صلة