مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسينمدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين
مدرسة الإمام المجدد
عبد السلام ياسين

التزكية والدعوة

منارات مقتبسة من فتح مكة

منارات مقتبسة من فتح مكة

منارات مقتبسة من فتح مكة:  

       كان فتح مكة حدثا عظيما غيّر مسيرة الإسلام، إذ دخل الناس في دين الله أفواجا، وأعطى للمسلمين وغيرهم دروسا كبيرة في حسن الخلق ومنارات تهتدي بها الأمة في سيرها إلى الله، وفي مسيرتها نحو القوة والعزة.

أولا: أسباب الفتح وأهم الأحداث[1]:

       كان فتح مكة في رمضان من السنة الثامنة للهجرة، وهو تتويج لمسار سنوات البناء؛ مسار تنوعت فيه أشكال التدافع والمناورة مع الاستثمار المناسب للظروف والمناسبات، إلى أن هيأ الله تعالى أسباب صلح الحديبية في السنة السادة للهجرة، ومن خلالها جاء هذا الفتح.

      ومن بنود صلح الحديبية، أن تدخل قبيلة “خزاعة” في عهد المسلمين، وتدخل “بنو بكر” في عهد قريش. وكانت بين هاتين القبيلتين حروب مستمرة فأراد “بنو بكر” أن ينالوا من “خزاعة” ثأرا قديما لهم فأغاروا عليهم ليلا وقتلوا منهم جماعة، وأعانت قريش في الخفاء “بني بكر” بالسلاح والرجال خارقة بذلك بنود الصلح مع الرسول الأمين، فأرسلت “خزاعة” إليه تخبره بالأمر وأن قريشا غدرت بحلفائه، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين بالاستعداد للخروج إلى مكة نصرة لحلفائهم خزاعة، وأوصى بكتم الأمر عن قريش حتى يباغتها جيش المسلمين. بعدها أدركت قريش خطورة ما أقدمت عليه وأنها دخلت في ورطة، فسافر زعيمها أبو سفيان بن حرب إلى المدينة المنورة لعلاج المشكلة وتجديد الصلح مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه وجد أن فرصة ذلك فاتت لأن الرسول عزم على الغزو وأمر بالتجهز له.

     ولما وصلوا وادي “مَرّ الظهران” القريب من مكة، ركب العباس بغلة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم البيضاء وانطلق يبحث عن أحد يخبره بمقدم جيش المسلمين لفتح مكة، ليبلغ قريشا بذلك يحثهم على طلب الأمان من الرسول قبل أن يدخلها عليهم محاربا بقوة السلاح. وكان أبو سفيان خارج مكة يتجسس الأخبار فلقيه العباس ونصحه بأن يأتي معه ليطلب له الأمان من الرسول فجاء معه، ولما دخلا عليه قال الرسول الأمين مخاطبا أبا سفيان: “ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟ ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟”. في حينها أعلن أبو سفيان إسلامه، فقال العباس:‏ “يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا”، فقال الرسول‏:‏ “‏نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن”.

    ولما اقتنع أبو سفيان بأن خسارة قريش ستكون محققة إن هي حاولت منع المسلمين من دخول مكة، أسرع إلى قومه صارخا بأعلى صوته: “يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن”، فتفرق الناس واحتموا بدورهم وبالمسجد الحرام. فدخل المسلمون مكة ولم يواجهوا محاربا من أهلها باستثناء اشتباك محدود وقع بين جيش خالد بن الوليد ومجموعة قليلة من قريش بقيادة عكرمة بن أبي جهل رفضت الأمان وأرادت التصدي للمسلمين بالقوة، وقتل في هذا الاشتباك  أفراد قلائل من الجانبين، ثم انتهى بفرار فلول مجموعة قريش إلى بيوتهم ليأمنوا من القتل.

     ودخل الرسول مكة من أعلاها وسار حتى وصل المسجد الحرام، فأقبل إلى الحجر الأسود فاستلمه ثم طاف بالبيت، وكانت في يده قوس يطعن بها الأصنام، وهو يردد قوله تعالى: “وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا”[2]، “قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد”[3]. وتجمعت قريش تنتظر ما سيفعله بهم الرسول الأمين، فتوجه إليهم وقال: (يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟”، فقالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، قال: “فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوانه: “لا تثريب عليكم اليوم”، اذهبوا فأنتم الطلقاء”)، وأمر بلالا أن يصعد فيؤذن للصلاة على ظهر الكعبة وقريش تسمع. وفي اليوم التالي لفتحه مكة ألقى النبي محمد صلى الله عليه وسلم خطبة عظيمة بين فيها بعض معالم الدين وحرمة بلده الأمين مكة، ثم بايع الرجال والنساء من أهل مكة على السمع والطاعة، وأقام بها بعد ذلك تسعة عشر يوما، وضح فيها معالم الإسلام وتعاليمه ورتب فيها الشؤون الإدارة للمدينة.

ثانيا: فوائد ومنارات من فتح مكة؛

     يقول ابن القيم رحمه الله: (هو الفتح الأعظم الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحزبه الأمين… وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء، ضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس به في دين الله أفواجا)[4]. لذلك ينبغي أن نستنير بهذا الفتح العظيم، ونستنبط منه فوائد وعبرا، ومنها:

* تجلِّي النبوة المحمدية والوحي الرباني في الإخبار بالمرأة حاملة خطاب حاطب بن أبي بلتعة؛ إذ أخبر عنها وعن المكان الذي انتهت إليه في سيرها وهو.

* المبادرة إلى التوبة من التسلط وحب المال والجاه، ومن البغي والإفساد.

* برهن المسلمون بالقيادة النبوية الرحيمة على سمو أخلاقهم وأخلاق الإسلام من عفو وسماحة، التي تتنافى وسفك الدماء. ولم يقتل من أعدائه سوى أربعة رجال وامرأتين. لذا استفدنا أن العفو طلب رباني لأجل الحفاظ على البناء الأسري والبناء المجتمعي، خصوصا إذا كان مع القدرة، فإن المؤمن يتنازل عن حقه لوجه الله، وهو قادر على أخذه.

* بيان الكمال المحمدي في تواضعه لربه شكراً له على آلائه وإنعامه عليه إذ دخل مكة وهو مطأطئ الرأس، وعدله ووفائه، تجلَّى ذلك في رد مفتاح الكعبة لعثمان بن أبي طلحة، ولم يُعطه مَن طلبه منه، وهو صهره وابن عمه.

* وجوب تصافي القلوب وتجنب أسباب النزاع، قال تعالى: “ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم”.

* تقرير مبدأ الجوار في الإسلام، ومعه بيان واضح لإكرام المرأة، حين قال صلى الله عليه وسلم: (قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ)[5].

*  إنزال الناس منازلهم، خلق عظيم، وقد تجلَّى في إعطاء الرسول صلى الله عليه وسلم أبا سفيان كلماتٍ يقولهن، فيكون ذلك فخراً له واعتزازاً، وهي: “من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل داره وأغلق بابه فهو آمن”.

* بيان عاقبة نكث العهود، إذ نكثت قريش عهدها فحلت بها الهزيمة، وخسرت كيانها الذي كانت تدافع عنه وتحميه.

* بدأ الشورى ثابت وآكد في الإسلام: “فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر”.

* إعداد العدة والأخذ بالأسباب الممكنة، قال عز وجل: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ)[6].

        وأختم بالتأكيد على ضرورة مدارسة السيرة النبوية وتدريسها للأجيال المؤمنة وتربيتهم تربية تغرس في القلوب الولاء لله تعالى ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وتنمي فيهم الوازع الإيماني للاعتزاز بأنفسهم، وليسارعوا لخدمة دينهم وتحقيق غاياته السامية. يقول الإمام عبد السلام ياسين: (فالسيرة النبوية العطرة هي نموذج القومة ووصفها ومدرستها. عليك في عصرك ومَصرك وظروفك وحظك من الله وقوة من معك من حزب الله، قوة الإيمان قبل قوة العدد، أن تترجمها واقعا حيا تتعرض به لأمر الله)[7].

والحمد لله رب العالمين.

[1] – انظر: سيرة ابن هشام. (دار الفكر –بيروت. طبعة: 1419هـ-1998م). ج: 4 / ص: 21 وما بعدها.
[2] – الإسراء : 81.
[3] – سـبأ، الآية: 49.
[4] – ابن القيم، زاد المعاد. ج: 2 / ص: 160.
[5] – رواه الإمام البخاري، كتاب الجزية. حديث رقم: 2935.
[6] – الأنفال : 60.
[7] – الأستاذ عبد السلام ياسين، “سنة الله”. الصفحة: 300.

أضف تعليقك (0 )



















يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لضمان حصولك على أفضل تجربة ممكنة. تعرف على المزيد