مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسينمدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين
مدرسة الإمام المجدد
عبد السلام ياسين

التزكية والدعوة

همُّ الآخرة هو البداية الصحيحة

4
همُّ الآخرة هو البداية الصحيحة

وأنت تتابع مضامين الخطاب الإسلامي بشقيه الثقافي والسياسي، في المشرق والمغرب، تلاحظ ضمورا في “ثقافة الآخرة” وتضخما في “ثقافة الدنيا”،  فقلَّما تجد من يتحدث عن الآخرة والموت ولقاء الله تعالى، إذ يغلب على الكثير من المتصدرين للكلام في منصات التواصل ومنابر التأطير والتوعية التركيز على مزايا الإسلام وأركان الإيمان ومصالح الناس في الدنيا إن هم طبقوا شريعة الإسلام.

إن الآخرة هي دارنا الباقية، وهي الوطن الأم، وهي الوطن المرجع، وفيها المصير والخلد، وبذكرها والمذاكرة فيها والاستعداد لها يتجدد إيماننا وتستقيم أحوالنا وتُقوَّم أفهامنا، وإذا تسطح فهمنا وتقلص خطابنا في جلب المصالح الدنيوية المشروعة ودرء المفاسد الدنيوية المترعة، وبيان خصائص الشريعة ومزاياها عن غيرها من الشرائع، ومقارنة الأرضي بالأرضي، نخشى أن نمسي دنياويين باسم الشريعة.

بعض المتحدثين في مزايا دين الإسلام، ومنهم قادة في الحركات الإسلامية وهم يرفعون شعارات جميلة من قبيل “الإسلام هو الحل” “الإسلام دين ودولة” “الإسلام دين العالمين”، لا تكاد تسمع لهم حديثا عن الله والآخرة والموت والاستعداد للرحيل والسفر الطويل، بل منهم من يعدُّ التذكير بالآخرة والحديث عن الموت انهزاما ومرضا نفسيا وهروبا من الواقع وفشلا في التواصل. ومنهم من يؤجله إلى مناسبة خاصة بوفاة قريب أو جارٍ أو صديق. ومنهم من لا يميز خطابه عن الخطاب اللائكي سوى البسملة وتوظيف بعض الآيات والأحاديث. أما المضمون فدُنيا في دُنيا.

إن العمل للإسلام وبيان خصائصه وغاياته، والاطلاع على تاريخه وما وقع فيه وكيف وقع ما وقع، والاجتهاد من أجل التمكين لدين الله حاضرا ومستقبلا، ونصرة المستضعفين وتوحيد أمة المسلمين، ودفع الشُّبه عن الدين بالمحاججة والمجادلة والمحاققة، أمرٌ مطلوب ومرغوب، بل واجب من أهم الواجبات في كل عصر ومَصر، وفيه من الأجر والثواب ما لا يعلمه إلا الله، غير أن البداية الصحيحة والوحيدة لتوبة الفرد ولدعوة الناس -كل الناس- إلى ما يحييهم حياة طيبة خالدة هو زرع همِّ الآخرة ولقاء الله في القلوب. ولهذا قال معاذ ابن جبل رضي الله عنه في وصيته: “إنه لابد لك من نصيبك من الدنيا وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج. فابدأ بنصيبك من الآخرة فخذه، فإنه سيمر على نصيبك من الدنيا فينظمه لك انتظاما، ويزول معك حيثما زلت”[1]. ذلك أن “الآخرة تنظم الدنيا. ومن يكدر آخرته لعاجل دنياه فنصيبه الخسران، وإن كان يظن أن ما يخوض فيه من متاع الدنيا قسمة له مقسومة. والاستقامة في الدنيا تنظم الآخرة. فإن من لا يأوي إلى ركن أمين، ولا يجد من بدنه عافية تمكنه من الكسب، ولا يترك له هم القوت اليومي فسحة لتدبير عاقبته بعد الموت لفي كبد، يذهله تدبير دنياه المضطربة عن تدبير آخرته”[2].

هَمُّ الآخرة أولا، وباقي الموضوعات والاهتمامات والمهام على كثرتها هي تبع لهذا الركن الأساس. والغفلة عن هذا الأصل أو تأجيله أو تهميشه يُلحق أضرارا كبيرة بالفهم والسلوك والعمل، يقول الإمام رحمه الله: “إن سكوت الإسلاميين، سكوت كثير منهم، عن الذي جاءت من أجله الرسل وهو دعوة العباد إلى ربهم وتذكيرهم بالمصير الأخرويِّ، أدَّى إلى ضُمور الحِسِّ الدعويِّ، فإذا بالإسلام المنطوق به الـمُعلنِ المكتوبِ مذهبٌ في الحكم، رائع متفوق. وهم عن الآخرة هم غافلون. 

بأنفسنا صدْع خفي، بعضه مِنْ بِلَى الإيمان، وبعضه من «منطق الساحة» الذي يجرفنا فلا نشعر إلا ونحن نتحدث حديثا هو بحديث اللاييكيين أشبـه لولا كلمات تَحنُّ حنينَ الثكلى إلى وليدها. ينعكس في خطابنا الافتراق بين السلطان والقرآن، نقضٌ مرَدُّه إلى ما في النفوس. وكلُّ إناء بالذي فيه يرشح.”[3]

وما لم يكن همُّ الآخرة مهيمنا على تفكيرنا وخطابنا فإننا سنتسطح على أحداث الواقع ونُدَنْيِنُ ديننا من حيث نشعر أو لا نشعر، حتى يصير الواعظ دنياويا والعالم دنياويا والفقيه دنياويا والمتكلم دنياويا…وعلى الآخرة السلام. والله تعالى يقول: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} (الضحى:4)، ليعلم المؤمنون والمؤمنات أن الآخرة هي دار القرار، وهي خير وأبقى، وقلَّة اهتمامنا بها ونُدرة حديثنا عنها وضعف استحضارها في قلوبنا وخطابنا مؤشرات على غفلتنا وتفريطنا، عافانا الله.

إن المتكلم المليئ الوطاب بالنقول والمثقف الذي تجرفه السيول، وغيرهم من محترفي الكلام والألقاب قد يكونوا وبالا على الأمة الإسلامية إن هم تدثروا بدثار “العلم” و”الفكر” و”الثقافة” على حساب التقوى والتوبة والربانية وتجديد الإيمان، وصاروا قدوة لغيرهم من الشباب والشواب في سطحية الفهم وتقلصه.

يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله: “إن ذكر الآخرة في سياق ذكر الله انطلاق من أسْرِ المادة وارتفاع عن حضيض الحياة الدنيا إلى الحياة العليا. من شأن هذا الانطلاق أن يحرر طاقات المؤمنين حين تصبح الآخرة عندهم هي حقيقة الحياة، وحين يَكون العمل الصالح هنا في الدنيا هو الزاد المطلوب هناك، والعُمْلَة الرائجة إن كان عليها طابع الإخلاص، ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ (الشعراء:88-89) زاد المؤمنين إلى هناك العمل الصالح، زادُ قوم تقربوا إلى الله وذكروه كثيرا فخرجوا منها وقد فازوا بالله، وصحبوا في سفرهم إلى الآخرة الله، ونظروا بعين قلبهم هنا وينظرون بعين رأسهم هناك الله.”[4] لا إله إلا الله.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه

والحمد لله رب العالمين.

12 جمادى الأولى 1446ه/13 دجنبر 2024م


[1] – عبد الله بن أبي شيبة، المصنف، كتاب الزهد، دار الفكر، بيروت، د.ط، 1414ه/1994م، ص 186

[2] – عبد السلام ياسين، في الاقتصاد: البواعث الإيمانية والضوابط الشرعية، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، ط 4، 2018م، ص 210

[3] – عبد السلام ياسين، العدل: الإسلاميون والحكم، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، ط 3، 2018م، ص 74

[4] – عبد السلام ياسين، الإحسان، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، ط 2، 2018م، 1/275

أضف تعليقك (4 )



















4
يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لضمان حصولك على أفضل تجربة ممكنة. تعرف على المزيد