يقول الأستاذ عبد السلام ياسين:الدين شرعة ومنهاج. الشرعة ما جاء به القرآن، والمنهاج ما جاءت به السنة كما قال حبر الأمة سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. الشرعة خاطبت الإنسان، والمنهاج حقق النموذج الإنساني.
“المنهاج” هو اللفظة القرآنية لا المنهج، المنهاج التطبيقي العملي المفصل المنظم المتدرج[1]، فهو اسم آلة تفيد بعد التقصي في تحليل سماته الدلالية والتداولية نظرية في العلم والعمل والتغيير.
وبالنظر إلى صفاته البنيوية يمكن أن نتكلم على مرادات ومقاصد خمسة تتوالج فيما بينها، نفرع عن كل واحدة ثلاثة معان لا للحصر التقييدي وإنما للبيان البرهاني التأييدي، فيكون مجموعها خمس عشرة سمة نبينها كالتالي:
أولا: هو منهاج تطبيقي:
وليس المراد من”التطبيق” أنه برنامج تقني يتناول”كيفيات” الحصول والتركيب والبناء على النحو الذي يوافق لدى الفاعل التاريخي بين الزمن والمحل والفعل الكيفي، وإن كان لا يستبعدها، ولكن المراد بالتطبيقي معان ثلاثة فيما نرى:
أولها:”المطابقة” الواصلة بين “النظر” السابق و”العمل” اللاحق، أو قل معي بين العلم والعمل
ذلك أن الأستاذ ياسين يرى كما جاء في المنهاج أن العمل بلا علم تخبط وجنون. والعمل في الغموض اضطراب لا يسير إلى غاية صالحة، فمن الناس من يفضل أن يعلم ماذا سيعمل قبل أن يبدأ في العمل، ومنهم من يكتفي بالظن فيبني عليه بناء لا يلبث أن ينهار، ومن الناس من يسطر الخطة لينجزها، بينما تجد من يعد إنجازا مجموعة من الأعمال المبعثرة، يحسب أن حجمها وما تحدثه من ضوضاء هو العمل. وتجد آخرين يحسبون أن العلم المرقوم على الأوراق كاف لتنتقل تلك المبادئ النيرة إلى واقع ينزل من السماء ويتلقاه الناس بتلهف. إنما -وهي حرف حصر- يكون عملا صالحا ما كان على الصراط المستقيم. والصراط المستقيم في كتاب الله تعالى مسطور، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم متمثل.[2]
ثانيها: القابلية والإمكان للتنزيل والتحقق الواقعي متى توفرت شروطه
ذلك أن المنهاج بني بناء يستلهم فيه إطار السيرة النظرية والعملية في نموذجها النبوي الذي تحقق فعليا في التاريخ، والذي أخبرت بتحققه السنة النبوية في المستقبل، يقول الأستاذ ياسين: وكلمة “منهاج” وردت في حديث نتخذه إماما، هو قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد بسند صحيح ينتهي إلى حذيفة، قال : “تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا عاضا فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا جبريا فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة. ثم سكت”.
قال الحافظ العراقي : حديث صحيح. فنحن على موعد إن شاء الله مهما طال الزمن و مهما تعسرت الطريق ومهما تعوصت الأسباب.[3]
ثالثها: أنه تطبيق إنساني واجتهاد بشري للنموذج النبوي الأمثل (على منهاج النبوة)
ومعناه أنه داخل في دائرة الفهم والاجتهاد لا المطلقية التي تسقط المسافة بين النص والإدراك أو النص والتأويل، فيصبح التأويل نصا، ويمتنع الاختلاف ويُجرم، والأستاذ ياسين ما لبث يحذر من هذا المنزلق، يقول: والحكمة قبول الخلاف ظاهرةً بشرية، وقبول تنوع الاجتهاد، وتنظيم هذا التنوع. وبداية الحكمة أن نضع خلافات علمائنا الأولين مواضعها النسبية، لا نتخذ رأي فلان أو فلان مرجعا نهائيا ومطلقا لا تسمو العقول لمناقشته.[4]
ثانيا: هو منهاج عملي: والمراد بذلك ثلاثة أمور:
أولها: أنه اقتحامي في الواقع
فالعمل هنا ليس أي عمل وإنما هو المفهوم القرآني “اقتحام العقبة” بما هو “الاقتحام” مكابدة وبحث عن الحلول لأزمات الحياة ومشكلاتها اجتهادا وجهادا، و”العقبة”تحرير وعدل وسيادة” [5]، وبما هو أيضا مشروع عملي للفرد والجماعة والأمة تحمله قوة اقتحامية تصانع الواقع، يقول الأستاذ ياسين: اقتحام العقبة إذن تحرك إرادي تتعرض له العقبة فتمانعه ويغالبها حتى يتم الاقتحام. حركة الفرد المؤمن في سلوكه إلى الله عز وجل، وحركة الجماعة المجاهدة في حركتها التغييرية، وحركة الأمة في مسيرتها التاريخية.[6]
ثانيها: أنه تجديدي
وليس كل عمل تجديدا، فقد يكون العمل تكرارا لسابق ونسخا أصم له فلا يدخل فيما نحن بصدده، وإنما المقصود أن المنهاج عملي تجديدي؛ أي متجدد في الزمان والمكان باجتهاد أجيال الإيمان كما يقول الأستاذ ياسين [7]، ومستند التجديد في المراد بوصف “العملية” في المنهاج أحاديث الرسول الأكرم صلوات الله عليه في تجديد الإيمان للأفراد وتجديد الدين للأمة.
ثالثها: أنه تحريري
يقتضي الفقه المنهاجي الواسع أن يكون “العمل” في المنهاج دعوة عملية للتحرير بمعناه الشامل الذي تكلمت عليه آيات البينة، فيفيد فك الرقبة بما هي تحرير الإنسان من العبودية لغير اللّه عز وجل، وهو مقتضى التحرير النفسي، ثم هناك إطعام اليتيم والمسكين، بما هو تحرير لطاقاته لينتج ما به يستطيع أن يطعم المعوزين ابتداء من إطعام نفسه، وهو مقتضى التحرير الاقتصادي، وأخيرا الكينونة مع الذين آمنوا بما هي تحرير للإنسان المؤمن الفرد من العزلة والخمول والانفراد، وإدماج له في الجماعة ليتحزب لله عز وجل، وهو مقتضى التحرير السياسي. ثلاثة مجالات : المجال النفسي، والمجال الاقتصادي، والمجال السياسي [8] .
ثالثا: هو منهاج مفصل، وتفصيله على ثلاثة مستويات:
أولا على مستوى المبادئ:
وهي في مجملها مبادئ القرآن وقيمه وقواعده التي جاء المنهاج مرتكزا عليها ومستندا إلى قوتها وتماسكها، وهي أنواع: مبادئ معرفية اعتقادية كالتوحيد واليقين في موعود الله، ومبادئ تربوية سلوكية كالتواضع والخدمة الإيمانية، ومبادئ سياسية كلية كنصرة المظلوم والتواصي بالحق. غير أن المنهاج يتناول إلى جانب المبادئ، وهي عامة في بنائها، أحكام الضرورة التي تعطي للمنهاج واقعيته. والإصرار على المبادئ عند الأستاذ ياسين يأتي احترازا من فلسفة الفوضى، يقول: لا نمل من التأكيد على المبادئ حتى لا تجتاحنا الفوضى.[9]
ثانيا على مستوى المقاصد:
حيث المنهاج جاء طلبيا مستشرفا ومتطلعا لمقصدين كليين اثنين، تحتهما تندرج مقاصد فرعية، الأول مقصد العدل والثاني مقصد الإحسان، وهما مقصدان لا ينفصلان في المنهاج إلا انفصالا اعتباريا، وإلا فإنالحديث عن الأهداف الدنيوية التي يحققها الشرع مع إغفال الغاية الأخروية تَشَتُّتٌ وضياع، بل تحريف للكلم عن مواضعه.[10] كما يرى الأستاذ ياسين.
ثالثا على مستوى الوسائل:
ذلك أن المنهاج في هذا المستوى يبدو أكثر تحررا وإفادة من كل التجارب والأدوات التي يوفرها العصر، فَبِعَيْنَيْنِ مفتوحتين على الدنيا والآخرة، على صنع الله في الكون وعلى كسب العباد، تصِلنا بجوهَرِ المسألة، وهي مصير الفرد إلى الله ومصيرُ الأمة إلى العزة والاستخلاف، نحقق الجوهـر بالوسائل العارضة في زماننا كما حقق من سبقونا بالإيمان بوسائل عصرهم.[11]
رابعا: هو منهاج منظم، على ثلاثة أركان كبرى:
أولها:التربية
ويستهدف هذا الركن تدبير الإصلاح النفسي باستلهام سنن الله في الأنفس، تربية شاملة متكاملة للجسم والعقل والروح تتوخى الحفاظ على الفطرة والرقي بالسلوك في مدارج الإسلام فالإيمان فالإحسان، محاربة لما يتهددها من مرض الوهن المتجسد في فتنتي حب الدنيا وكراهية الموت، ولا يكون ذلك إلا بالتصدي لأسباب هذا المرض وما يستتبعه من أعراض، وأي علاج لا يعمد إلى القلوب بالتربية ليعقّمَ فيها جرثومة الفساد فإنما هو دُهن سطحي وطِلاء وَقْتِيٌّ. وأيُّ علاج لا يعتمد التربية الإيمانية القلبية التي تُحِل في باطن الأفئدة طمأنينة الإيمان وسكينة الله فإنما هو حَوَمان حول زَريبة الشر وتدخينٌ لَطيفٌ في وجهه كما يخبرنا الأستاذ ياسين [12].
ثانيها: التنظيم
ويستهدف هذا الركن تدبير الإصلاح الاجتماعي باستلهام سنن الله في التجمع، إذ يحتاج المسلمون أن يتعلموا في مدرسة الحكمة البشرية أسس التنظيم بما هو قوة واجبة [13]وخبرة الإدارة للنهوض من جديد، والمعرفة والتربية لا تستقيمان خارج الإطار المنظم، فمعركة البناء للخروج من حالة الغثائية تحتاج لتنظيم وحشد وخبرة وعلم بالتعبئة، والتنظيم لابد له من تربية وهو لا ينفصل عنها وإلا فهو جسم بلا روح كما يقول الأستاذ ياسين [14].
ثالثها، الزحف
ويستهدف هذا الركن تدبير الإصلاح السياسي باستلهام سنن الله في التغيير، وعلم الزحف في المنهاج هو علم الانتقال الرصين والصادق بعلم وإيمان عبر كل وسائل الجهاد والاجتهاد لتحقيق النهوض والقومة والريادة والقيادة والحكم عبر مراحل ووفق شروط. وللزحف كما يقول الأستاذ ياسين: محجة لاحبة وهدف معلن، ومرونة ضرورية، وثمن معلوم.[15]
خامسا: هو منهاج متدرج، وتجليه في ثلاثة معان:
أولها: حكمة التنزيل
ذلك أن التدرج يقتضي ملاينة بلا ضعف وقوة بلا عنف، ولهذا نجد الأستاذ ياسين يركز في المنهاج لا على تنزيل الشريعة كما يذهب كثير من مفكري الإصلاح وإنما على حكمة التنزيل التي أنارت الطريق أمام عملية التجديد. وبيننا نحن وبين تلك الحكمة الأصلية حجُب القرون المتراكمة. كلما ازددنا انحطاطا ازدادت الكثافة الحاجبة وازداد العنف باستفحال دواعي العنف.[16]
ثانيها: تريث في التحويل
ذلك أن المنهاج في أصله المستمد من الوحي يؤمن بمنطق التدرج في التحول لا الطفرة كما يقرر الأستاذ ياسين [17]،وفي التغيير يكون التدرج صبرا ومصابرة [18]، وليس التحويل الإسلامي كما يشير الأستاذ ياسين مسرحا يُرفع معه ديكور ليوضع ديكور، ويخرج المجرمون ليدخل الأتقياء البررة.كان محمد صلى الله عليه وسلم رسولا مؤيدا معصوما، وكانت مزايلة الجاهلية وهي ظلام بين، والخروج إلى الإسلام وهو نور ساطع، بنزول الوحي وحضور المصطفى القائم بالقسط، أمرا فاصلا له حدود واضحة. أما التجديد من فتنة وهي غبش معتم غامض، إلى إسلام يختلف الناس في فهمه، ويتفاوتون في إدراك ما يعنيه بالنسبة للفرد والمجتمع والسياسة والاقتصاد والحياة اليومية، فأمر شاق يطلب رفقا وتدرجا.[19]
ثالثها: تعقيل لا تعطيل، والتعقيل هنا بالمعنى الذي ينتج عنه الوعي بالمسؤولية
إذ إن التدرج لا يعني تهوين المهمات، أو التدحرج إلى النعاس والإهمال، أو قبول الفشل والاستسلام للعجز بما يفضي إلى تعطيل العقل وشل الحركة والاستسلام للانتظارية السلبية أو للجبرية، بل هو أخذ بالأسباب وحذر دائم من الاسترخاء والتسويف، يقول الأستاذ ياسين: نقرأ مع قانون التدرج خطر الاسترخاء والتسويف والتعويل على الأجيال المقبلة لتحمل عنا تبعات يمكن أن نتحملها أو نصيبا منها نحن.[20]
[1]ياسين، عبد السلام. محنة العقل المسلم بين سيادة الوحي وسيطرة الهوى، ص 31.
[2]ياسين، عبد السلام. المنهاج النبوي، ص218.
[3]ياسين، عبد السلام. تنوير المومنات، ص21.
[4]ياسين، عبد السلام. الإحسان، ص150.
[5]ياسين، عبد السلام. الإسلام والقومية العلمانية، ص22.
[6]ياسين، عبد السلام.مقدمات في المنهاج، ص16.
[7]ياسين، عبد السلام. العدل، ص23.
[8]ياسين، عبد السلام. مقدمات في المنهاج، ص57.
[9]ياسين، عبد السلام. الإسلام والحداثة، ص257.
[10]ياسين، عبد السلام. نظرات في الفقه والتاريخ، ص64.
[11]ياسين، عبد السلام. العدل، ص 348.
[12]ياسين، عبد السلام. العدل، ص495.
[13]ياسين، عبد السلام. القرآن والنبوة، ص28.
[14]ياسين، عبد السلام. المنهاج النبوي، ص 77.
[15]ياسين، عبد السلام. المنهاج النبوي، ص 28.
[16]ياسين، عبد السلام. تنوير المومنات، ص75.
[17]ياسين، عبد السلام. المنهاج النبوي، ص208.
[18]ياسين، عبد السلام. سنة الله، ص 300.
[19]ياسين، عبد السلام. المنهاج النبوي، ص290.
[20]ياسين، عبد السلام. تنوير المومنات، ص332.
أضف تعليقك (0 )