العدل أساس العمران الأخوي
لا شك أن مدار الأمر في حياة الإنسان على إقامة العدل في الحكم والقسمة، وتحقيق السعادة له في الدنيا، بما يضمن للناس عيشا كريما ونهجا قويما وسلوكا مستقيما، وبما يساهم في تبديد الفوارق الاجتماعية بينهم، وفي ربط جسور المحبة والتآخي بين الناس، والتطلع إلى الإحسان. إنها المطالب التي يتردد صداها في كل الأرجاء والآفاق، وتؤكدها المواثيق والعهود على الصعيد العالميّ، وتسعى إليها النّظريات التّربوية، وتستشرفها الأمم والشعوب المتطلّعة للنّماء والتّقدّم والتّحرّر، والتي أجمعتها الآية الكريمة من قوله تعالى: إن الله يامر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى. وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي [ref]سورة النحل: 90.[/ref]
ويرتبط العدل في الحكم مع العدل في القسمة ارتباطا وثيقا فهما:“عدلان متلازمان: عدل الحكم وعدل القسمة.”[ref]ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، ص:254.[/ref] وعليه، يتأسس بحثنا هذا على مستويين اثنين هما: العدل في الحكم والعدل في القسمة، مستخلصين عناصرهما مما جاء في كتب الإمام المجدد عبد السلام ياسين – رحمه الله –
العدل في الحكم
يستحضر الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله في تحديد المعنى اللغوي للعدل تعريف الراغب الأصفهاني له : فالعدل هو التقسيط على سواء ويبين أن مادة عدل ذكرت في القرآن بمعنى العدل ضد الجور في مثل قوله تعالى: إن الله يامر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى. وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي(سورة النحل: 90).وقوله سبحانه: إن الله يامركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل (سورة النساء: 57). وجاءت بمعنى الميلان عن الإنصاف والاعتراف بالله إلى الشرك في مثل قوله عز من قائل: ثم الذين كفروا بربهم يعدلون…(سورة الأنعام:1). ويورد كلمة قسط التي تفيد الإنصاف في الحكم والقسمة في مثل قوله تعالى: وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين(سورة المائدة: 42). وقوله تبارك وتعالى: وأن تقوموا لليتامى بالقسط(سورة النساء: 127). وقوله سبحانه: وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لكنه يخصص كلمة العدل للحكم والقضاء وكلمة قسط للإنصاف في القسمة، ويبرر هذا التخصيص بقوله:“لكيلا يختلط حديثنا عن العدل الحكمي والعدل الاجتماعي الاقتصادي.”[ref]في الاقتصاد، ص: 190.[/ref]
فيجعل العدل عدلين :“عدل القاضي والحاكم، يطبقان شرع الله عز وجل في إعطاء حقوق العباد وإنصاف بعضهم من بعض، وعدل القسمة الاقتصادية الاجتماعية”[ref]في الاقتصاد، ص: 189[/ref] . و هما“)عدلان متلازمان عدل الحكم وعدل القسمة.”[ref]المنهاج النبوي، ص:250.[/ref] بل هما مطلبان شرعيان :“كلا الكلمتين تدل على التسوية بين طرفين. لكن نخصص لنلح على أن القسمة العادلة للمال والأرزاق مطلب شرعي لا يقل أهمية عن مطلب العدل الحكمي والقضائي.”[ref]في الاقتصاد، ص: 190.[/ref] ويعتبر الإمام المجدد أن: “العدل من صلب الدين، العدل أمر به الله وحثّ عليه الحاكمَ والمختصِمَ في الحقوق.”) [ref]ياسين عبد السلام، الشورى والديمقراطية، ص: 174.[/ref] وأن “العدل كلمة جامعة ومطلب أساسي في عصر أصبحت فيه قسمة الأرزاق وإنتاجها وتمويل عملية التنمية وتنظيم ذلك تحديا قاتلا في وجه الأمة.”[ref]ياسين عبد السلام، نظرات في الفقه والتاريخ، ص: 77.[/ref] فالعدل من أحبّ الأعمال إلى الله وأقربها، وأكثرها ظهورا، وأوسعها شمولا، وأبلغها أثرا في حياة الأمة، والإمام العادل من أحبّ الناس إلى الله وأدناهم منه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أحبّ الناس إلى الله يوم القيامة، وأدناهم منه مجلسا إمام عادل. وأبغض الناس إلى الله تعالى، وأبعدهم منه مجلسا إمام جائر” [ref]رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدري، وقال حديث حسن غريب. وللحديث شواهد تقويه.[/ref] .
ويقول الله تعالى: إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (سورة المائدة: 44).“وهم الذين إذا حكموا حكموا بالعدل، وحكموا باجتهاد، وحكموا بصواب، وحكموا حكما يكفل لهم ولعامة الناس وخاصتهم، لدنياهم وآخرتهم، حسنة الدنيا وهي الاستخلاف والتمكين، وحسنة الآخرة وهي سكنى دار النعيم والنظر إلى وجه الله الكريم.”[ref]ياسين عبد السلام، الإحسان ج2، ص : 109.[/ref]
وقد وصف الله تعالى نفسه بالعدل والقسط يقول تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفسِهِ وَمَن أسَاءَ فَعَلَيهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ(سورة فصلت: 46)وفي قوله تعالى: ليجزي الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ.(سورة يونس: 4).وفي فصله بين العباد: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ.(سورة يونس: 47). ومن أسماء الله الحسنى: العدل والعادل والمقسط.
العدل في القسمة
يعتبر الإمام المجدد – رحمه الله – العدل في القسمة أساسا هاما من أسس العمران الأخويّ، ومدخلا للأخوة بين الناس، وعنصرا بارزا في تأليف القلوب وجمعها على كلمة سواء استنادا إلى الحديث النبويّ الشريف:” لا قُدِّست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غيْرَ مُتَعْتَع” [ref]رواه ابن ماجة بسند صحيح.[/ref] يقول الإمام المجدد – رحمه الله -: ” إن العدل في القسمة والقدرة على الإنتاج أساس بديهي لبناء العمران الأخوي. وما تُتَصوَّرُ أخوة على الإطلاق إن كان سكان الحي قاسيةً قلوبُهم لم تتبوأْ الإيمانَ فتلينَ برحمة الله لعباد الله.”[ref]ياسين عبد السلام، العدل الإسلاميون والحكم، ص: 249[/ref] .
والعدل في القسمة هدف أول وأمر يومي وواجب دائم لقوله تبارك وتعالى: إن الله يأمر بالعدل و الإحسان وإيتاء ذي القربى و ينهى عن الفحشاء والمنكر و البغي يعظكم لعلكم تذكرون.(سورة النحل: 90.)
وهو “فرض وأمر إلهي يحتاج إلى القوة في التنفيذ قال الله تعالى:)لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط. وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس.وليعلمَ الله من ينصره ورُسلَه بالغيب. إن الله قوي عزيز (سورة الحديد: 24). “)فرضٌ أكيدٌ به بعث الله الرسل يدعـون إليه. وأنزلَ معهم الكتاب والبينات تؤكد الدعـوة وتلح عليها.” و” أمرٌ إلهي مؤكد. ما جاء تكليف في القرآن بصيغة “أمر” كما جاء في شأن العدل. وما خالف العدل من قول وعمل فهو من أمر الشيطان ووسوسته.”[ref]العدل، ص: 202.[/ref]
ويستند في إقرار العدل في القسمة إلى أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله، وأقوال الصحابة وتطبيقاتهم لمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك “وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يَفتح باب العدل في القسمة بلا حدود: “من كان معه فضل ظهر(أي دابة زائدة عن حاجته)فَلْيَعُد به على من لا ظهر له. ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له”. قال الراوي أبو سعيد الخدري: وذكر من أصناف المال ما ذكره، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل. أخرجه الإمام مسلم في صحيحه وأبو داود في سننه.”[ref]الإحسان ج1، ص: 475.[/ref]
ومن القواعد والمرتكزات المعتمدة في سياسة عمر رضي الله تعالى عنه انتهاج المبادئ المعتبرة في العطاء وهي: الرجل وبلاؤه في الإسلام، والرجل وقدمه في الإسلام، والرجل وغناؤه في الإسلام، والرجل وحاجته في الإسلام. يقول الإمام المجدد رحمه الله مستحضرا قول عمر رضي الله عنه: ” وهكذا رأي خليفة رسول الله أمير المؤمنين عمر حيث قال: ” والله الذي لا إله إلا هو ما أحد إلا وله في هذا المال (مال المسلمين) حق، أُعْطِيَهُ أو مُنِعَه. وما أحد أحق به من أحد إلا عبد مملوك. وما أنا فيه إلا كأحدكم. ولكنا على منازلنا من كتاب الله عز وجل وقسمنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالرجل وبلاؤه في الإسلام، والرجل وقدمه في الإسلام، والرجل وغناؤه في الإسلام، والرجل وحاجته في الإسلام. والله لئن بقيت ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظُّه من هذا المال وهو مكانه قبل أن يُحَمَّرَ وجهه (أي خجلا من ذل المسألة”[ref]الإحسان ج1، ص: 475.[/ref] .
ويذهب الأستاذ رحمه الله إلى أن:“رأى عمر صواب أمرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببذل الفضول من كل أصناف المال، بذلا واجبا بوازع السلطان، موافقا لفهم أبي سعيد والصحابة رضي الله عنهم حيث قال وهو خليفة في آخر عهده رضي الله عنه: “لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول الأغنياء فرددتها على الفقراء”. [ref]الإحسان ج1، ص: 475.[/ref]
ويرى الإمام – رحمه الله – أن “الانتقال من الملك الجبري إلى الخلافة إنما محكه العدل في القسمة. محكه إنصاف المستضعفين. محكه جمع المال العام بحق، وصرفه بحق.”[ref]المنهاج النبويّ، ص: 449.[/ref]
وأنه “لابد للتنمية والاقتصاد والإنتاج والتوزيع والكم والإحصاء أن تأخذ مكانها الشرعي، في مقدمة المطالب، في مرتبة الأهداف الدنيوية المسهلة لرحلة المؤمن والمؤمنة إلى ربهما.”[ref]نظرات في الفقه والتاريخ، ص: 77.[/ref] و ” إنما يعالج بأساء الفقر وضراء الرذيلة العدل. والعدل الدرهم. والدرهم وطنه السوق. والسوق اقتصاد وسلع وإنتاج وصناعة ومنافسة وتسويق. السوق عالمية، والعالم يسيطر عليه الأقوياء الأغنياء. العدل الشريعة والقضاء وسلطان الحكومة. لكن الشريعة والقضاء والحكومة مطاحن بلا طحين إن كسدت بضاعتك في السوق، وشَحَّ الدرهم، واختفت ضروريات المعاش اليومي من الأسواق، وارتفعت الأسعار.”[ref]ياسين عبد السلام، تنوير المومنات ج1، ص: 124.[/ref] .
وأن القرآن لا يتنكب“حقائق الاقتصاد، والعدل في القسمة، والجد في العمل المنتج، بل يعطيها حقها باعتبارها شروطا مادية لحياة الإنسان العابر المسافر لا بد له من زاد، ولا بد من إنتاج هذا الزاد، والسهر على حسن قسمته، لئلا يمضي العمر في النـزاع حول الوسائل، ولئلا تحجُبَ عن الإنسان أهدافُ المعاش غايةَ المعاد.”[ref]ياسين عبد السلام، إمامة الأمة، ص: 87.[/ref] ويحدد دور الدولة في أن “من واجبها، أن تحل العدل في القسمة محل احتكار الأغنياء، وظلم الحكام، وتبذير السفهاء، والعدل يضمن الحد الأدنى الضروري، يتناول مجال الضروريات والحاجيات حسب التقسيم الشاطبي. والزكاة عماد من أعمدة هذه القسمة العادلة.”[ref]في الاقتصاد، ص: 110 – 111.
[/ref]
مستلزمات العدل
يستلزم العدل الإسلاميّ المرجو بشقيه أمورا منها:
-الإخلاص: ودعامة إقامة العدل والقسط هو الإخلاص لله تعالى: ” فمن هذا نأخذ أن عمدتنا ولسان ميزاننا في إقامة العدل والقسط هو إخلاصنا الوجهة لله عز وجل، ذلك الإخلاص الذي يعصمنا من الميل مع الهوى ومن الظلم في الحكم والجور في القسمة.”[ref]في الاقتصاد، ص: 192. [/ref]
-العلم الكلي:
” العلم الكلي النافع الذي نحتاج إليه هو ذاك الذي يخط لنا ويعلمنا كيف ننفذ حكم الله في إقامة الدولة وتسييرها، في تنظيم المجتمع وإقامة العدل فيه.”)[ref]المنهاج النبويّ، ص:217. [/ref]
-الشورى:
يرى الإمام المجدد – رحمه الله – “بأن العدل والشورى هو دين الأمة الذي تحترمه، وأمل الأمة الذي يَـبْرُق في خيالها، ووعدُ الله ورسـولهِ الذي تُصَدِّقه.”[ref]العدل، ص: 638.[/ref] وأن” الشورى مهما كانت منظمة وأصيلة لن تكون إلا حواراً بين مفلسين إن لَم يعالج المتشاورون قضية الرّخَاء مقرونة بقضية العدل”.[ref]العدل، ص: 653.[/ref] و” حاجتنا الأولى إلى الشورى نستبدل بها الاستبداد، والعدل في القسمة نستبدل به واقع التفاوت المزري في التملك.”)[ref]ياسين عبد السلام، الإسلام وتحدي الماركسية اللينينة، ص: 118. [/ref]
-القوة والأمانة:
قوة في التنفيذ ومواجهة العقبات الاجتماعية والاقتصادية ومكائد المتربصين، وأمانة في حمل الأعباء ومواصلة البناء والإصرار على تطبيق العدل وإيفاء الناس حقوقهم بالانتقال من التبعية إلى المسؤولية: ” ندفع المؤمنين لميدان التطوع، يعطون الشعب من أموالهم، ووقتهم، وجهدهم. فينتقلون بذلك من الموقف التابع إلى الموقف المسؤول، ومن ذهنية الذي يبحث عمن يحل مشاكله، إلى عقلية القوي الأمين، يتعلم القوة والأمانة في الميدان لا في الأحلام، يحل هو مشاكل الناس، لا يكون عالة على الناس.)هناك في الشعب المسلم بطالة متفشية من جراء فشل الجاثمين على صدورنا. هذه البطالة يمكن أن تتحول طاقات للبناء لو جاء العدل، ودخل وسط الشعب أمناء أقوياء يدهم في يد المحروم، ومجلسهم معه، ووجههم باسم في وجهه، وأخوتهم مبذولة له، عطاء من مال ووقت وجهد واهتمام وإكرام.”[ref]المنهاج النبويّ، ص:204-205. [/ref]
-المحاسبة والمراقبة:
ما يعاب على الحكم الجبريّ المستبد، وما يجعله مرفوضا، أنه يستنزف أموال الأمة ويسيطر عليها في كل شؤونها، ويجعل خيراتها مستباحة لا يتقيد بدستور ولا يستجيب لقانون، فتتحول المشاريع إلى مصادر للربح لدى فئة انتهازية محدودة، وتتأذى الغالبية من سوء التدبير والغلو في الانتهازية، فيغيب مبدأ تكافؤ الحظوظ، بينما ” العدل الاجتماعي تحت الإسلام يأتي مع الشريعة الإلهية إن أعيد تركيب أجهزة الدولة، ومنها القضاء والإدارة، بما يتعين من امتحان الرجال ومراقبتهم الصارمة، حتى يتصدر أمور المسلمين مؤمنون يخشون الله ويرجون حظهم في ظل الله وجنته وبركته ولا يرون في المراقبة الصارمة إلا تطبيقا لقوله عز وجل:وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون.(سورة التوبة: 105) [ref]المنهاج النبوي، ص:254.[/ref] .كما أن:” في الشريعة السمحة سعة لإنصاف المستضعفين، وإقامة توازن إسلامي في الاقتصاد إن كان الحاكم مقسطا وموفقا. فجند الله يوم يلون السلطان موفقون إن شاء الله بتأييد من عند مولاهم، وعليهم بذل الجهد ليؤسسوا مراقبة صارمة تمكن من تطبيق حكم الله.”[ref]المنهاج النبوي، ص:254.[/ref] وقد عالج أمير المؤمنين عمر بن الخطاب هذا الأمر بادئا بنفسه، ومن ذلك أنه لما نزلت بالمسلمين شدة أيام خلافته، كان طعام عمر الزيت وكان مداوماً على أكله حتى اصفر وجهه، حتى صارت بطنه تحدث أصواتا فكان يقول لبطنه صوتي أو لا تصوتي لن تذوقي اللحم حتى يشبع أطفال المسلمين. وعن ابن عباس أنه قال: قدم عمر بن الخطاب حاجًّا، فصنع له صفوان بن أمية طعامًا، فجاءوا بجفنة يحملها أربعة، فوضعت بين يدي القوم يأكلون وقام الخدام فقال عمر: أترغبونه عنهم؟ فقال سفيان بن عبد الله: لا والله يا أمير المؤمنين، ولكنا نستأثر عليهم، فغضب عمر غضبًا شديدًا، ثم قال: ما لقوم يستأثرون على خدامهم، فعل الله بهم وفعل. ثم قال للخدام: اجلسوا فكلوا، فقعد الخدام يأكلون، ولم يأكل أمير المؤمنين. وعن الأوزاعي، أنّ عمر خرج في سواد الليل، فرآه طلحة، رضي الله عنه، فذهب عمر فدخل بيتاً ثم دخل بيتاً آخر، فلمّا أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت، وإذا بعجوز عمياء مقعدة، فقال لها: ما بال هذا الرجل يأتيكِ؟ قالت: إنّه يتعاهدني، منذ كذا وكذا، يأتيني بما يصلحني، ويخرج عنّي الأذى، فقال طلحة: ثكلتك أمّك طلحة أعثرات عمر تتّبع.
-الابتعاد عن المحسوبية:
ومن تمام إقامة العدل في الأمة الابتعاد عن المحسوبية والزبونية التي تميز بين الناس وتفرق وحدتهم وتجلب سخط الله، وبيان ذلك أن: ” العدل الاجتماعي والاقتصادي والقضائي ينافي المحسوبية، ينافي إرضاء الناس بما يسخط الله، ينافي الظلم وهو ظلمات يوم القيامة، ينافي التدخلات لخرق الحقوق وهي شيء آخر غير قضاء الحوائج.”[ref]المنهاج النبوي، ص:253.[/ref]
-الإحسان:
يعتبر الإمام المجدد – رحمه الله – أن ” المكمل المحسن للقسمة فهو الإحسان بعد العدل، الذي يغطي مجال التحسينيات. والإحسان لا تستطيع الدولة الوفاء به، لأنه من دقائق الأرفاق، يتعلق بذمم المؤمنين، ويكون اللحمة المادية للولاية بين المسلمين. أمر الله عز وجل بالعدل والإحسان، ليسد الإحسان التطوعي ثغرات العدل الإلزامي. فإن الدولة لا تستطيع أن تزور المريض، وتواسي الحزين، وتهرع إلى إغاثة الملهوف، وحمل الكل، والإعانة على نوائب الحق. إنما يستطيع ذلك ذو القربى، والجار، والصديق، والشفيق. روى الإمام أحمد والطبراني والحاكم بسند صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:“قال الله تعالى : وجبت محبتي للمتحابين في والمتجالسين في، والمتزاورين في” [ref]رواه الإمام أحمد وابن حبان والحاكم والقضاعي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.[/ref] . وبذلك فإن“قاعدة العدل الواجب عليها يقوم الهيكل الاجتماعي، ثم يكسى هذا الهيكل، ويجمل، وينتعش، وتدب فيه الحياة الأخوية، بالعطاء المحب. لا تستطيع الدولة بسلطانها أن تعوض الناس عن الحنو الأخوي والتعاون بينهم، حتى ولو توفر لها من الأموال ما تسدد به نفقات ما يسمى بلغة العصر دولة الرخاء العام. مال وزع بالقسطاس، هذا عدل. لكن الإنسان لا يعيش سعيدا بمقياس ما لديه من مال. لا تقدر الدولة أن تنكب على الحالات الشخصية، ولا أن تعطي مع الحوالة بسمة ومساعدة محبة رحيمة. في الإسلام حق الزكاة تستخلصه الدولة، وفي الإسلام حق أخوي فرضه الإيمان، تقتضيه يد الحاجة من الإحسان الذي أمر الله به.”[ref]المنهاج النبوي، ص: 210.[/ref]
وهذا ما يشيع العمران الأخويّ بين الناس ويبني مجتمعا متضامنا أفراده متجانسة فئاته، متحابة أعضاؤه. “ونقول : لا نجاة للإنسان في ديارنا ولا حقوق إلا برخاء أخوي…)اقترحنا على أنفسنا، وعلى الإنسان الرخاء في الأرزاق، والعدل في القسمة، ومعهما الإحسان والأخوة الإنسانية.)وهذان لا يجمعان في ضمير فرد، ولا في نظام اجتماعي، ولا في قانون دولي، إلا بباعث إيماني يحرر النفس من غائلة أنانيتها، ويحرر العقل من قبضة ركامه.”[ref]ياسين عبد السلام، حوار مع الفضلاء الديمقراطيين، ص: 219.[/ref]
و ” إن مَحْوَ الطبقية ورفعَ الحواجز المادية والنفسية بين طبقات الأمة هدف إسلامي. تحقَّقَ مرة في تاريخنا، ونرجو أن يمُنَّ الله الغني الحميد علينا بالحضارة الأخوية التي تنشُدُها البشرية فيتحقَّقَ مرة أخرى.”[ref]إمامة الأمة، ص: 19.[/ref]
رحم الله الإمام المجدد عبد السلام ياسين واضع نظرية المنهاج النبويّ، ورفع مقامه عنده بما هو أهله، ونفع بها أمة الإسلام وجمعها بما يرضي الله تعالى على كلمة سواء، وصلى الله وسلم وبارك على الرحمة المهداة سيدنا محمد بن عبد الله وآل بيته وصحابته وإخوانه وحزبه، آمين والحمد لله رب العالمين.
أضف تعليقك (0 )