post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

<h2>تمهيد</h2>
 ذكرت في الحلقة الأولى من هذه السلسة أن مدرسة المنهاج النبوي اجتهاد في فقه التجديد الإسلامي المعاصر يروم إلى إحياء الإيمان في القلوب، والعزّة في النفوس، والعزم والإرادة في الفرد والجماعة والأمة. كما عرضت النقاط الرئيسية التي سأتناولها بإذن الله في بقية الحلقات. وفي هذه الحلقة أقدّم الإطار التاريخي العام الذي ظهرت فيه مدرسة المنهاج النبوي، والخاصية الأولى المميزة للإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله وهي الربانية والعمق التربوي الروحي. 
 
<h2>1. الإطار التاريخي العام لمدرسة المنهاج النبوي</h2>
 من نعم الله العظيمة على هذه الأمة أن بعث فيها رسولا رؤوفا رحيما بها -صلى الله عليه وسلم- دلّها على الحق، وهداها إلى صراط الله المستقيم، وبيّن لها سنن الهدى. ومن فضل الله عزّ وجلّ على أمة الإسلام ورحمته بها أنه يبعث لها على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها كما جاء في الحديث المشهور الذي رواه أبو داود والبيهقي والحاكم بسند صحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: &#8220;إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها&#8221;. هذا التجديد عرفته الأمة عبر القرون، وكان له أثر بالغ في إحياء عوامل الإيمان فيها وإبقاء أغلب عرى الإسلام حية في كيانها. لقد كان رواد عملية التجديد يتمثلون أساسا في العلماء الربّانيين والقادة الصالحين الذين عرفهم تاريخنا واحتفت بهم أمتنا أيما احتفاء. 
 إيثارا للإيجاز ورغبة في التركيز أنتقل إلى أقرب مرحلة زمنية إلينا لأشير إلى الأثر الطيب الذي خلفه رواد مدرسة الإصلاح في العصر الحديث من أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا ومحب الدين الخطيب وغيرهم رحمهم الله. هؤلاء الرواد ساهموا في إيقاظ المسلمين وتوعيتهم، وتذكيرهم بالتمسك بقيمهم النبيلة، وضرورة الاعتزاز بإسلامهم وانتمائهم لخير أمة أخرجت للناس. وجاء من بعدهم رجال أفذاذ أسّسوا- بفضل الله وتوفيقه- الحركة الإسلامية على قواعد متينة وأصيلة، وأرشدوها إلى سبل التربية الإيمانية والتغيير المرغوب. تضم هذه الكوكبة المجيدة أخيارا أذكر منهم حسن البنا وسيد قطب وأبو الأعلى المودودي، وعلماء ربّانيين أحيوا الدعوة وسمت الصالحين منهم محمد إلياس الكاندهلوي وبديع الزمان سعيد النورسي وأبو الحسن الندوي وغيرهم رحمهم الله جميعا رحمة واسعة. نصل إلى الطبقة الثالثة من الدعاة المعاصرين ممن شاركوا -كل حسب إيمانه وعلمه واجتهاده وجهاده- في عملية الإحياء والتجديد، وهم بحمد الله كثر ويصعب حصرهم في هذه الإشارة السريعة أكتفي بذكر بعضهم منهم مصطفى السباعي وسعيد حوى ومحمد الغزالي وأحمد ياسين وعبد السلام ياسين رحمهم الله رحمة واسعة، ويوسف القرضاوي ومحمد أحمد الراشد وراشد الغنوشي وعصام البشير وغيرهم، بارك الله في أعمارهم، وختم لنا ولهم بخاتمة السعداء. 
 في هذا السياق التاريخي التجديدي العام للدعوة الإسلامية المعاصرة ظهر مؤسس مدرسة المنهاج النبوي الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله .<a id="_ednref1" href="#_edn1">[1]</a> سأحاول في الفقرات التالية أن أتحدث بإيجاز عن أبرز الخصائص المميزة لهذا العالم الرباني المجاهد، وأركز كلامي في ثلاثة أبعاد: البعد التربوي الروحي والبعد العلمي الاجتهادي والبعد القيادي الجهادي. 

<h2>2. الخصائص المميزة للإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله</h2>
&nbsp;&nbsp;&nbsp;&nbsp;يعد الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله من أبرز قياديي الحركة الإسلامية المعاصرة الذين يتميزون بالجمع بين خصال رفيعة أهلته &ndash;بفضل الله وتوفيقه- ليقوم بدور طليعي وازن في الساحة العلمية والحركية للعمل الإسلامي. وسأذكر أهم هذه الخصال في الأبعاد الثلاثة التالية: 

<h2>2.1 البعد التربوي الروحي</h2>
&nbsp;&nbsp;&nbsp;&nbsp;لقد وهب الله عز وجل للأستاذ المرشد عبد السلام ياسين رحمه الله تأثيرا إيمانيا وروحيا يشعر به ويعيشه كل من صحبه أو زاره أو استمع أو قرأ له. إننا أمام رجل رباني ذي همة عالية. أنهضه الله جلّ شأنه لمعرفته، وأعانه على اقتحام شتى أصناف العقبات للتعرف عليه، وسخّره لدلالة الخلق عليه جلّ وعلا. ويشهد كلّ من صحبه أنه شديد التعلق بالله سبحانه وتعالى، دائم الذكر له والتذكير به. لقد وقّف داعيتنا حياته ليدلّ الخلق على الحق جلّ في علاه، ويشوّقهم إلى محبته. فلا يمر عليك مجلس معه أو زيارة له، أو قراءة لأي من مكتوباته، أو استماع لأي من مسموعاته، أو مشاهدة لأي من مرئياته إلا وتجد هذا الإلحاح الشديد والفريد على ذكر الله عزّ وجلّ، والترغيب في معرفته، والنصح بالوقوف الدائم بباب المولى الكريم تبتلا وتضرعا وأنسا به وشوقا إلى لقائه جلت عظمته. وهذه الربانية التي يتصف بها علاّمتنا رحمه الله جعلته داعية ومرشدا بامتياز. لنقرأ فرحه الجمّ وأمنيته الغالية: 
 &#8221; وأنا أسعد الناس إن كان لشهادتي سامعون واعون هبّوا من سبات الغفلة لصرختي هذه الهادئة، وتيقظوا يقظة القلب، وتجافوا عن الحياة الدنيا، وفزعوا إلى من يدلهم على الله حتى يعرفوا الله. أنا أسعد الناس إذاً إن حصل في ميزان حسناتي أفواج من المحسنين كنت لهم صوتا يقول: من هنا الطريق، من هنا البداية)&#8220;.<a id="_ednref2" href="#_edn2">[2]</a> كما أنه عبّر بوضوح عن مراده من تأليف موسوعته &#8220;الإحسان&#8221; -في مجلدين يضمان 1040 صفحة &#8211; وهي من أنفس ما كتب في عصرنا في فقه التربية والتزكية والسلوك إلى الله عزّ وجلّ. يقول رحمه الله مبيّنا مرماه من كتابة تلك الموسوعة: &#8220;قصدي في هذه الصفحات أن أدلّ على الله وعلى الطريق إليه. قصدي أن أستنهض الراقد وأستحث الفاتر وأنادي ذوي الهمم العالية إلى مأدبة الله)&#8220;.<a id="_ednref3" href="#_edn3">[3]</a> لقد سمعت منه في لقاء خاص جمعني به كلمة معبّرة مفادها أن من أسبق الأولويات لديه في التأليف هو تصنيف كتابه &#8220;الإحسان&#8221; لأنه يعتبر دعوة الناس إلى الله سبحانه وتعالى، وإرشادهم إلى معرفته، و حثّهم على طلب رضاه هي وظيفته الأساسية.<a id="_ednref4" href="#_edn4">[4]</a> وقد عاش أستاذنا رحمه الله تجربة روحية خصبة أشار إليها بقوله: &#8220;واحد أمضى بحول الله وتوفيقه تسعا وعشرين سنة في رحاب عمل الليل والنهار، وجُهد العقل والجسد والقلب &#8230;) &#8220;.<a id="_ednref5" href="#_edn5">[5]</a> قال هذا الكلام عام 1414هـ/1994م أي تاريخ كتابته لمقدمة الجزء الأول من كتاب &#8221; الإحسان&#8221;.مما يستحق التنويه في هذا الباب أن الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله بعد غوصه في فقه السلوك ذي المنحى الفردي، وفّقه الله تعالى إلى الجمع بين طبّ القلوب والجهاد لإعلاء كلمة الله ونصرة قضايا الأمة ذي المنحى الجماعي. هذا ما يسميه ضرورة &#8220;الربط بين المصيرين&#8221;: أي المصير الفردي والمصير التاريخي والجماعي للأمة كما يتضحّ ذلك في قوله:&#8221; والمؤمن الكامل الإيمان هو ذاك الذي لا يهرب من الميدان مخافة التلوث، لا يدع العالم وصراعاته ليتفرغ للتقوى والعبادة، لا يفصل مصيره في الآخرة عن مصير أمته التاريخي. وها هنا مظهر من أهم مظاهر تفتت المجتمع الإسلامي ووهنه : الانفصال في وعي المؤمن بين مصيره الشخصي في الآخرة وبين مصير أمته في التاريخ. والربط بين المصيرين في وعي المؤمن وعمله من أهم أهداف التربية إن لم يكن أهمها)&#8220;.<a id="_ednref6" href="#_edn6">[6]</a> 
 خاتمة
وخلاصة القول أن الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله ساهم في إحياء معاني الربّانية وتزكية النفوس وترقيق القلوب، وجدّد في الجمع بين هذه المعاني الإيمانية الفردية وبين اقتحام العقبة والجهاد الجماعي لتحقيق مطالب الشورى والعدل والإحسان بمضامينها الجامعة والشاملة في الفقه المنهاجي. 
 ظهر الخميس 25 ربيع الآخر 1434هـ 
 الموافق ل 7 مارس 2013م 
 جدة/ الحجاز 
 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
<a id="_edn1" href="#_ednref1">[1]</a> تعرف الباحث على الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله عام 1407هـ/1986م، وكانت أول زيارة له في صيف1408هـ/ 1987م. ومنذ ذلك الوقت وهو يقرأ ويبحث باستمرار في التراث المجيد لمدرسة المنهاج النبوي. <a id="_edn2" href="#_ednref2">[2]</a> ياسين، عبد السلام، الإحسان ، موسوعة سراج الإلكترونية، 1998م، 1/23. <a id="_edn3" href="#_ednref3">[3]</a>نفس المصدر، 1/27 <a id="_edn4" href="#_ednref4">[4]</a> كان هذا اللقاء المبارك في شهر شعبان 1415هـ/ 1996م في منزله آنذاك بمدينة سلا بالمغرب. <a id="_edn5" href="#_ednref5">[5]</a> ياسين، عبد السلام، الإحسان، 8/1. <a id="_edn6" href="#_ednref6">[6]</a> ياسين، عبد السلام، مقدمات في المنهاج، موسوعة سراج، 1989م، 64-65.

المعالم الكبرى لمدرسة المنهاج النبوي.. البعد التربوي الروحي

صورة تخيلية للإمام الغزالي بالذكاء الاصطناعي

الإمام الغزالي: المنقذ من ضلال السفسطة

معالم منهجية في قراءة كتب الإمام

الإمام الغزالي بيداغوجيا : تعريف وملاحظة وتمرين

قضايا فكرية

المعالم الكبرى لمدرسة المنهاج النبوي.. البعد التربوي الروحي

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

المنهاج النبوي وبعض قضايا الساعة

المنهاج النبوي والتيارات الفكرية المعاصرة

مطالب المنهاج النبوي

إمام ورسالة

قيادة ومنهاج

وظائف ومقاصد المنهاج النبوي

مقالات ذات صلة