مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسينمدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين
مدرسة الإمام المجدد
عبد السلام ياسين

التزكية والدعوة

تجديد التوبة إلى الله

0
تجديد التوبة إلى الله

تجديد التوبة إلى الله

  التوبة حالة قلبية تمثل صدق الارتباط والتعلق بالله عز وجل ، لأن الإنسان لا سعادة له ولا استقرار لروحه إلا في رحاب المولى سبحانه تعبدا ومحبة وأوبة مستمرة، فتصبح التوبة بعد تجديد العهد والعزم وصحبة المنيبين مشروع حياة وبرنامجا لا تنتهي فقراته إلا بمفارقة الروح الجسد. فهي نداء رباني للإنسان يرن في سمع الفطرة، يوقظ من الغفلة ويحذر من ظلمة البعد عن الله عز وجل، ومن قسوة القلبِ مستودعِ الرحمة ومحل نظر المولى عز وجل. ولبيان فضل التوبة وتجديدها نحاول بسط القول وتفصيله من أربع نقاط وهي:

مفاهيم ذات صلة؛ التوبة والإنابة والأوبة، وآداب التوبة، وشروط التوبة، ثم قصة وعبرة.

أولا: مفاهيم ذات صلة

1- مفهوم التوبة: هي؛ “ترك الذنب لقبحه والندم على ما فرَط منه والعزيمة على ترك المعاودة وتدارك ما أمكنه أن يتداركه من الأعمال بالإعادة”[1]. عرفها ابن قدامة الحنبلي رحمه الله بقوله: “التوبة عبارة عن ندم يورث عزما وقصدا، وذلك الندم يورث العلم بأن تكون المعاصي حائلا بين الإنسان وبين محبوبه”[2].

     وعرفها الأستاذ المربي عبد السلام ياسين بكونها: “العقد مع الله أننا رجعنا إليه نادمين، والإقلاع عما كنا فيه من الفواحش والعصيان، وترك الإصرار بعد رد المظالم إلى أهلها”[3].

    نستنتج مما سبق أن معاني التوبة لا تخرج عن قصد تجديد العهد مع الله عز وجل عبوديةً وأسفاً على التقصير والعصيان إذا تعلق الأمر بحق المولى عز وجل، ويضاف إلى ذلك رد المظالم والتخلص منها إذا تعلق الأمر بحقوق الآدمي.

2- مفهوم الإنابة: عرفها الراغب رحمه الله بقوله: “الإنابة إلى الله تعالى الرجوع إليه بالتوبة وإخلاص العمل”[4]. قال تعالى: “منيبين إليه واتقوه”. (الروم : 31). وقال سبحانه: “وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له”، (الزمر : 54). وقال عز وجل: “واتبع سبيل من أناب إلي”.(لقمان : 14). فالإنابة منحصر في الرجوع الدائم إلى الله عز وجل والخضوع له بالطاعة والتعلق به سبحانه، فهي درجة من درجات التوبة.

3- الأوبة: شرعا هي كثرة الطاعة والعبادة والإنابة، مدح الله بها صفوة خلقه عليهم السلام، كما في قوله سبحانه :” نعم العبد إنه أواب”.(ص : 44). يقول الراغب رحمه الله: “الأواب كالتواب وهو الراجع إلى الله تعالى”.(ص : 37).

        مما سلف نهتدي إلى أن التوبة بداية والإنابة واسطة والأوبة نهاية وشامة، جاء في الرسالة للقشيري رحمه الله: (التوبة صفة المؤمنين قال الله تعالى: “وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون”،(النور:31). والإنابة صفة الأولياء المقربين قال الله تعالى: “وجاء بقلب منيب”،(ق:33). والأوبة صفة الأنبياء والمرسلين، قال الله تعالى: “نعم العبد إنه أواب” (ص:30).)[5].

ثانيا: آداب التوبة

     تقترن بالتوبة خصال حسنة وأخلاق سامية، جاء ذكرها في كتاب الله عز وجل وسنة النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، نذكر بعضها:

1- الإسراع وترك التسويف: قال تعالى: “إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما” (النساء: 17).

2- صحبة المنيبين: لذلك كانت وصية الله تعالى للإنسان بالكينونة مع الصادقين واتباع  طريق المنيبين، يقول عز وجل: “واتبع سبيل من أناب إلي”. (لقمان: 14).

3- تجنب اليأس، ووسوسة الشيطان، وأن يحدثك باليأس واستحالة الرحمة والمغفرة.

4- التجديد، والاستمرارية، والمداومة عليها.

ثالثا: شروط التوبة

1- الندم على ما فات: ويفهم منه عدم الرضى على الفعل القبيح ونفي الإصرار، كأن النادم مقر ومعترف بضعفه البشري، فالمعصية لم تصدر عنه للاستخفاف بالله عز وجل أو إنكارا للاطلاع سبحانه.

2- الإقلاع في الحال: فلا معنى للتوبة بما هي رجوع إلى الله تعالى ووقوف بين يديه، والمرء مقارف للذنب ملازم له.

3- العزم على ألا يعود إلى مثل ذلك في المستقبل: جاء في حدائق الحقائق: (إسقاط مظالم العباد وحقوقهم عن ذمته بالإبراء -كأن يعفو عنك من أخطأت في حقه- أو بالأداء، فإن عجز عن  ذلك يكون أبدا عازما على إيصال ذلك الحق إلى مستحقيه، متى قدر عليه)[6].

4- أداء مظالم العباد وحقوقهم[7].

رابعا: قصة وعبرة

       عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسع وتسعين نفسا، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدُل على راهب فأتاه فقال: إنه قتل تسع وتسعين نفسا فهل له من توبة؟ فقال: لا. فقتلته فكمَّل به مائة. ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس فهل من توبة؟ فقال: نعم ومن يحول بينه وبين التوبة ، انطلِق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسا يعبدون الله، فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء. فانطلق حتى إنا نَصفَ الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة جاء تائبا مقبلا إلى الله، وقالت ملائكة العذاب إنه لم يعمل خيرا قط. فأتاهم ملك في صورة آدمي، فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيهما كان أدنى فهو له، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة)[8].

العبرة: يعين على التوبة صحبة العابدين المنيبين، كان بإمكان الناصح أن يدل المذنب على موضع يعتصم به ويعلمه كيف يعبد الله تعالى ويستغفره ، لكنه دله على الكينونة مع الصالحين، تقتبس روحه من روحهم وتتحرك فيه مشاعر الخزن والأسى على ما ضاع من عمره عندما يشاهد صلاح حالهم ونور بصيرتهم.  

خاتمــة

      التوبة حركة قلبية مستمرة ما دام في العمر بقية، حافزها الشعور بالندم، والمعين عليها بيئة الصلاح والخير، تعاونا على البر والتقوى، من أجل الصلاح في الأنفس وفي الأمة بإذن الله عز وجل. ومن مقاصد التوبة تجديد العهد مع الله عز وجل، والانكسار بين يديه سبحانه اعترافا بالتقصير ورجاء في رحمته، عسى يكتبْ لنا من لدُنْهُ توبة فنؤوبُ إليه سبحانه محبة وشوقا.

     ونستخلص أن للإنسان عند  الله عز وجل كرامة وفضل، فمهما ارتكب من ذنوب وأسرف وضيع وابتعد عاصيا، أو جاحدا فرحمته جلت عظمته وتقدست صفاته تسع التوابين المنيبين، فالله تعالى أعلم بنا من أنفسنا، يعلم سبحانه أن من صميم بشريتنا أن نقع في الخطأ، لذلك حضنا سبحانه ألا نمل من تجديد التوبة والعكوف على بابه  متضرعين مستغفرين طمعا في رحمته سبحانه، وحياء منه عز وجل. فهو القائل سبحانه في الحديث القدسي: “يا عبادي إني حرمت الظلم  على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطؤون بالليل والنهار وأنا  أغفر لكم ذنوبكم جميعا، فاستغفروني أغفر لكم ،يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم  كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم و آخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم  قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان منهم مسألته ما نقص ذلك عندي إلا كما ينقص المخيط إذا دخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله عز وجل، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه”[9].

والحمد لله رب العالمين.

 

[1] – المفردات، للراغب الأصبهاني.
[2] – مختصر منهاج القاصدين. (مؤسسة الكتب الثقافية ، الطبعة الخامسة). صفحة: 246.
[3] – الأستاذ عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، (الطبعة الثانية 1410ه-1989م). صفحة: 165.
[4] – المفردات، للراغب الأصبهاني.
[5]  الرسالة القشيرية. (مؤسسة الكتب الثقافية، الطبعة الأولى: 1420 – 2000م). صفحة: 95.
[6] – حدائق الحقائق. لأبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي الخنفي. (دار الكتب العلمية 2002م ــ 1423ه). الصفحة: 14. بتصرف.
[7]  حدائق الحقائق. الصفحة: 16. (مرجع سابق).
[8] – حديث متفق عليه.
[9] – رواه الإمام مسلم، في صحيحه.

أضف تعليقك (0 )



















النشرة الإخبارية

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لضمان حصولك على أفضل تجربة ممكنة. تعرف على المزيد