post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

<p>رحم الله الإمام عبد السلام ياسين المعلم الألمعي والمجاهد الثابت والرجل الرباني، رحمه الله تعالى رحمة واسعة دائمة فضلا منه ومنة وكرما، وجزاه عن أفواج كان لها صوتا صادحا بالحق: من هنا الطريق، من هنا البداية، خيرَ الجزاء.</p>
<p>نقف في هذا المقال في سياق ذكرى الوفاء التاسعة، مع بعض معاني الوفاء نستقيها مما خط رحمه الله، تتلمُذا له وتعلما منه، وهو الذي كان يقدُر الكلمةَ قدرَها ويُحيط بمعانيها من كل جانب، بل ويُترجم عنها تنزيلا وعملا.</p>
<p>ما الوفاء؟ ما صوره ومعانيه؟ ما حدوده ولمن يكون وكيف يكون؟</p>
<p>يروم هذا المقال بحث هذه الأسئلة استنادا إلى مكتوبات الإمام رحمه الله، دلالة على « ثغور الوفاء »  تصورا، وإرشادا ل « واجب المرابطة » عمليا إجرائيا.</p>
<h2>1ـ الوفاء للميثاق:</h2>
<p>الميثاق عند الإمام رحمه الله تعالى ميثاق فطرة وعهد مع الله عز وجل، يتردد صداه منذ بيعة ﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى﴾ [1]، ويتنزل ويتجدد، بتوبة العبد وإنابته وتجديده إيمانَه وعهدَه، ودوام اتصاله بربه سبحانه ذكرا وعبادة وبنبيه صلى الله عليه وسلم، الحبل الواصل، تأسيا واتباعا.</p>
<p> يتنزل هذا المعنى بمداومة العبد على أوراده، إذ هي « بمثابة نَذْر يقطعه العبد الصادق على نفسه يجب عليه الوفاء به » [2] وهي بصيغها المسنونة كلمة طيبة وصلاة على المصطفى صلى الله عليه وسلم « وسيلتنا إلى ربنا إذ هي ميثاق وفاء ومحبة » [3]</p>
<p> حادي هذا السير والباعث عليه الصدقُ المسؤول، إذ «  الصدق المسؤول وفاء بالميثاق مع الله عز وجل » [4]</p>
<h2>2ـ وفاء المحبة والإخلاص:</h2>
<p>ينقل الإمام رحمه الله تعالى صورة ناصعة لوفي أمين، عاهد فوفى، وترجم وفاءَه بناء وعملا، وهو الإمام حسن البنا رحمه الله تعالى، ويجدر بنا أن نقول بأنّ الإمام رحمه الله تعالى يذكر  في مكتوباته رجالا كثر ا في مجالات شتى، وغرضه من ذلك ترسيم نماذج للاقتداء، وهو القائل في رسالة تأسيس مجالس النصيحة، منبها إلى مقاصد هذه المجالس و سبب ذكر سير الرجال فيها: « مقارنة تخاذلك باجتهاد غيرك أحياء وأمواتا »[5].</p>
<p>يرسم الإمام رحمه الله تعالى معالم هذا الوفاء، وفاء المحبة والإخلاص، دالا على الخطة العملية، فيخبرنا أن البنا رحمه الله « أستاذ هذه الأجيال الخيِّرة، (كتب صفحات) يُخبِر فيها بصدق ووفاء وثقة لا تتلَجْلَجُ عن صحبته، وعن كريم خصال شيخ الطريقة، وعن استفادته منذ طفولته حتى اكتمالِه من رصيد محبتِه للذاكرين » [6] ، مؤكدا مرة أخرى على معنى الوفاء والإخلاص باستحضار عمل هذا المريد المحب المخلص، الإمام البنا رحمه الله تعالى، بقوله رحمه الله: « من وفاء هذا المريد المحب المخلص أنه كلما عرَّف بجماعة الإخوان المسلمين ذكر أنها، من بين وظائفها، حقيقة صوفية. ومن وفائه ما رواه الشيخ سعيد حوى رحمه الله عن شيخه محمد الحامد رحمه الله أن البنا كان يدَرِّس حِكَمَ ابن عطاء الله رحمه الله في مجالِسَ خاصَّةٍ لِخاصَّةِ أصحابِه. كان البنا رحمه الله مجددا للدين، هذا لا ريبَ فيه. كان مبارَكا على الأمة بنعمة الله عليه بصحبة أهل الله. وحاول أن يُدْمِجَ التربية الصوفية في مناهج جماعته بما كان معه من خبرة في الموضوع وبما كان معه من وفاء وإخلاص للطريقة شأنَ المريد المحب » [7] ليؤكد في سياق استحضار نموذج البنا رحمه الله تعالى على معنى للوفاء عظيم، هو سعة الأفق والخطة العملية، وترك الجدل، يقول رحمه الله تعالى: « يجب النَّظر الدقيق. لكن من علماءَ واسعي الأفق، منهاجُهم الخطة العملية لا الوراثة الجدلية. وما يزال المدققون الموفَّقون الذين صبروا مع الذاكرين الصادقين الأعوام الطويلةَ يُدْلُون بشهادة المحبة والوفاء لمشايخهم إلى جانب توصيتهم بالحذر والتدقيق من أحوال المنافقين والشيطانيين. ضَع البنا في امتداد الغزالي وابن تيمية رحمهم الله بهذا الصدد ولا تُبالِ » [8]</p>
<h2>3 ـ وفاء التجديد والإبداع:</h2>
<p>ظل الإمام المجدد رحمه الله تعالى حريصا على تطوير فكره وتحصينه من التحجر والانغلاق، وقد ذم رحمه الله تعالى التقليد الحرفي  ووفاء البلادة، يقول: « قد يكون من التلاميذ الذكي الألمعي مثل الجيل، بل الأجيال، الذين ثوروا القرآن بعد أن اتخذوه إماما. وقد يكون التلاميذ البلداء لا يحسنون مجالسة القرآن، ولا الفهم عنه، ولا تحويل أوامره لصيغ تطبيقية. وقد كان ولا يزال من المسلمين الصادقي العقيدة من كانوا أقصر من أن يترجموا عن القرآن. لا عن خيانة بل عن وفاء حرفي بليد » [9] . إن الإمام ياسين رحمه الله تعالى بذمه الوفاء الحرفي البليد، يدل على معنى وفاء التجديد والإبداع وعدم الجمود، الذي تحدث عنه صراحة في أحد حواراته قائلا: « أما سؤالك هل هذه نهاية التفكير المنهاجي، فأقول لك كلا ثم كلا. فما كان قصدي ولا ينبغي أن يكون قصدي أن أقف حجر عثرة أمام أي كان، الآن وبعد الآن، فأمنعه من التفكير الحر في ما فيه مصلحة الناس، في ما فيه مصلحة المسلمين فرادى وجماعة. ما كان لي وما يكون لي وما ينبغي أن أزعم للناس وأن أدعوهم هلموا، اتخذوا هذا الفكر وثنا، وقفوا عنده وتحجروا، فأنا أقصد عكس هذا. وإن الرجل الذي يحدث نفسه بأن يتخذ فكره مرجعا دون ما قال الله وقال رسول الله، وأن يقال بعد موته، لقرون أو لسنوات أو لما شاء، قال المصنف رحمه الله، ونقف عندما قاله المصنف، هذا رجل متحجر ميت قبل أن يحشر في قبره. فأنا أرجو الله عز وجل وأسأله جلت عزته أن تكون هذه القواعد التي بسطتها في متناول الجميع، يؤخذ منها ويترك حسب الوقت وحسب الظرف، حسب الزمان وحسب المكان. وما هي إلا محاولة لجمع شعب الإيمان وتصنيفها، وشعب الإيمان من جاء بها؟ ليس لهذا العبد إلا تبسيط المنهاج، وتوصيل الفهم للناس. وعلى الناس – في زماني وبعد زماني، في هذه الجماعة وفي غيرها- أن ينتقدوا، وأن يحللوا، وأن يردوا، وأن يأخذوا، وأن يطوروا، وأن يحوروا، فذلك ما أريده. وأرجو الله ألا يقف أحد معي فأنا أحاجه عند الله عز وجل إن اتخذ فكري وثنا وصنما.</p>
<p>أما أن يكون شيئا يستأنس به، شيئا لا يؤخذ بخفة، يقال هذا كلام… فأنا بذلت فيه عصارة فكري وعصارة رغبتي في نصر كلمة الله عز وجل «[10] </p>
<h2>4 ـ الوفاء للمشروع:</h2>
<p>يقف الإمام رحمه الله تعالى مع قوله عز وجل: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾[11] مشيرا إلى أن هذه الآيات دستور للأمة، معلقا على أمر الوفاء فيها بقوله: « هذا أمر عام بالوفاء والعدل. يخصصه أمر آخر يُلزمنا بوَلاَيَةِ المستضعفين، والوَفاءِ لهم، ونصرتهم، والجهاد من أجلهم. قال الله تعالى: ﴿ وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ﴾[12]. مَنْ وَلِيُّ المستضعفين ونصيرُهم مِنْ ظلم جَبّاري القُرَى وطغاتِها إلاَّ نحنُ؟ من للأرملة والضعيف من الرجال والوِلدَان إلا نحن؟ كتابا من عند الله، والتزاما يُطلب إلينا الوفاءُ به بدمائنا وأرواحنا »[13]</p>
<p>من مقتضيات الوفاء لمشروع « العدل والإحسان » الوفاء للمستضعفين، ومن مآلات هذا الارتباط، الثبات أمام الزعازع والصعوبات والطوارئ، تشبثا بعقد الولاء ووفاء له، يرسم الإمام رحمه الله تعالى صورة لهذا العقد، بين الدعوة والقاعدة بقوله رحمه الله: « في البناء الإسلامي يجب أن يكون عَقْدُ الولاء بين الدعوة والقاعدة عقدَ وفاء ورباطَ دين لا تنال منه ولا تُوهِنُه أخطاء الدولة المنفِّذَة، ولا صعوباتُ الاقتصادِ ولا أزمات الطوارئ (…)كل هذا يُظهر أهمية عقد الولاء بين الدعوة والقاعدة، والقدْرَ الواجب من الوفاء له مهما كانت الزعازع » [14]</p>
<h2>5 ـ الوفاء للإنسانية:</h2>
<p>من معاني الوفاء عند الإمام رحمه الله تعالى، الوفاء للإنسانية، وللرحم الآدمية، يقول رحمه الله تعالى راسما بعض صور هذا الوفاء: « لن نكون إن شاء الله إلا كما كان الأولون أهلَ وفاءٍ ونجدة وثقة. وما نجده من أعراف دولية، وقوانين تضمن حقوق الإنسان والشعوبِ، وما نُبْرِمُ من اتفاقيات، فلَنْ يزداد ما يتضمنه من مروءة وخير إلا شدة واستحكاما بمساندتنا ووفائنا، لا سيما الوفاء للمستضعفين في الأرض، والأمانُ للخائفين، والكَفالةُ لكل ذي عَيْلَةٍ » [15].</p>
<h2>خاتمة</h2>
<p>تتلبس القيم معاني ليست منها في زمن السنوات الخداعات، وجناية المصطلحات، بعبارة الإمام رحمه الله تعالى، فقد تغدو دعوى الوفاء ذريعة لنقض حقيقته، تيها وغرورا، أختم هذا الجلوس بين يدي الإمام رحمه الله تعالى، باقتباس مفتاحين منيرين مباركين، كفيلين أن يضخا في « الوفاء » روحا ويرسما له وجودا عمليا، أشار إليهما في العدد 16 من مجلة الجماعة، أولهما، مفتاح أخلاقي معنوي، ورد في قوله رحمه الله تعالى: « قال الأحنف بين قيس رحمه الله تعالى: الكذوب لا حيلة له، والبخيل لا مروءة له، والحسود لا راحة له، والملول لا وفاء له، ولا يسود سيئ الأخلاق»[16]، وثانيهما مفتاح عملي إجرائي، دلت عليه عبارته: «من كان ذا وفاء لم يعدم المقدرة »[17] </p>
<p>[1] سورة الأعراف، الآية 172<br />[2] الإحسان ج 1 ص 253<br />[3] الإحسان ج1 ص 255<br />[4] الإحسان ج1 ص 221<br />[5] رسالة إلى مجالس النصيحة مؤرخة في الخميس 5 رجب 1418<br />[6] الإحسان ج2 ص 292<br />[7] الإحسان ج2 ص 294<br />[8] الإحسان ج 2 ص 295<br />[9] القرآن والنبوة ص 18<br />[10] عبد الكريم العلمي ومنير الركراكي، حوار شامل، ص 40.<br />[11] سورة النحل، الآية 90<br />[12] سورة النساء، الآية 75<br />[13] إمامة الأمة ص 241<br />[14] الإحسان ج 2 ص 448<br />[15] إمامة الأمة ص 241<br />[16] مجلة الجماعة &#8211; العدد السادس عشر ص 54<br />[17] المصدر السابق ص 53</p>


ثغور الوفاء

الكتابة عند الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى

غلاو غلاو .. كالتبر صارو يسواو

سؤال التنمية موضوعا للجلسة الحوارية الختامية لندوة الذكرى التاسعة "المغرب وسؤال المشروع المجتمعي"

في ذكرى الوفاء التاسعة خبراء وباحثون يتدارسون سؤال المشروع المجتمعي في المغرب

دَعانِي شَوْقي

الدكتور أحمد الإدريسي

أسس الدعوة إلى الله عند الإمام عبد السلام ياسين

مجلس الإرشاد في زيارة جماعية لقبر الإمام عبد السلام ياسين

ثغور الوفاء

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

ثغور الوفاء

طبيعة المنهاج النبوي من خلال «نظرات في الفقه والتاريخ»

لماذا “الإسلام أو الطوفان”؟

المقلدة وصفاتهم

نظرات منهاجية في قيمتي التطوع والتكافل

القومة أو آلية التغيير في التصور المنهاجي

مقالات ذات صلة