مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسينمدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين
مدرسة الإمام المجدد
عبد السلام ياسين

حوارات

حوارات: الدرس الأخلاقي وقضاياه مع ذ. علي تيزنت

0
حوارات: الدرس الأخلاقي وقضاياه مع ذ. علي تيزنت

حوارات: الدرس الأخلاقي وقضاياه مع ذ. علي تيزنت

    يسرّ موقع الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله إجراء سلسلة حوارات مع باحثين ومختصين في قضايا متنوعة: تربوية ودعوية وفكرية واجتماعية واقتصادية وسياسية. تُقدم الحوارات قراءة لرؤية الإمام لهاته القضايا، وتنفتح على ما يعرفه العالم من رؤى وأفكار، وما يقع فيه من وقائع وأحداث.

    وحوار اليوم مع فضيلة الأستاذ علي تيزنت الباحث في علم الاجتماع الديني، يبسط  معالم من فقه الإمام وسلوكه في موضوع الدرس الأخلاقي وقضاياه. وإذ يشكر له الموقع تفضله بقبول دعوة الحوار، يمتن للقراء الكرام حسن القراءة والتفاعل.

س ـ بداية أستاذنا الفاضل، كان لموضوع الأخلاق حضور مركزي في مكتوبات الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله ومحاضراته ومجالسه. ما طبيعة هذا الحضور؟

ج- إن المتتبع الحصيف للمنتج الفكري الغزير والمتنوع للإمام عبد السلام ياسين رحمه الله، يلحظ من غير كثير عناء أن “الأخلاق” شكلت قضية مركزية إن لم نقل مصيرية في مشروعه التجديدي. كما كانت الجانب الأبرز في سيرته الدعوية والجهادية، بل وفي سلوكه اليومي وتربيته وتوجيهاته لمن معه من المؤمنين، ونصحه لأئمة المسلمين وعامتهم، يقول رحمه الله: “إننا لن نكون مسلمين إن أبطلنا في حساب الرجولة خُلُق الرجل والمرأة وعقلهما ومروءتهما. أي إنسانيتهما بما تعارفت عليه الإنسانية من شِيَمٍ فاضلة. إن البكائين في المساجد العاكفين على التلاوة والذكر لَنْ يكونوا هم أهل النور والربانية إن لم يكن سلوكهم العملي مع الناس، الأقرب فالأقرب، سلوكا أخلاقيا مروئيا، يزنون بميزان العقل واللياقة والكفاءة والجدوى وحسن الأداء كل أعمالهم” (سنة الله، 281).

     ولعل ما يميز النظر التجديدي لقضية الأخلاق في فكر الإمام رحمه الله، أنه يعطي لمفهوم الأخلاق بُعدين متكاملين، أحدهما شرعي تعبدي والآخر إنساني مروئي، فالأخلاق وفق المنظور الأول ليست مجرد تجمل ظاهري،  ولا مصانعة للواقع وتملق مصلحي، بل هي أمر تعبدي و استجابة شرعية،  وهي وفق المنظور الثاني، في ارتباطه بالبعد الأول، ليست معاملة مقصورة على فئة دون  غيرها، بل يتسع مجالها ليشمل عامة الموجودات وكافة الناس، المسلم وغير المسلم، والصديق والخصم، يقول رحمه الله في رسالته التوجيهية في موضوع الأخلاق، بعدما مهد له بتأصيل من حيث اللغة ومن جهة الشرع: “نخلص من هذا أن الخلق والدين مقرونان في اعتبار الشرع، وأن المروءة إنسانية وخلق وعقل وحرفة”.

    لقد كان رحمه الله لا يُفَوت أية فرصة من لقاء مباشر أو مكتوب أو مُسجل للتذكير بأن حسنَ الخُلق لمن أعظم القربات وأفضل الحسنات، وأن التحلي بمحاسن الأخلاق لهو السبيل الذي لا محيد عنه في السلوك إلى الله، فهو سلم الترقي في مدارج الإيمان، ومصعد العروج إلى ذرى الإحسان، ولطالما  كان يتمثل -رحمه الله-  بالحديث النبوي الشريف: “خيرُ ما أعطِيَ الناسُ الخلُق الحسن“ (رواه الإمام أحمد وغيره بسند صحيح). 

    كما كان لا يمل من التذكير والتأكيد في كل لقاء يجمعنا به على ضرورة الإحسان إلى الوالدين، وحسن التعامل مع الزوج والأبناء، فكان يوصي كل من يجالسه أو يسمعه بصلة الأرحام والبر بالأقارب والجيران، ويُذكِّرنا بحديث الخيرية الذي روته أمنا عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: “خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي” (رواه الإمام الترمذي والإمام ابن ماجة في السنن، وهو حديث صحيح).

    لقد كان رحمة الله عليه يعتبر حسن الخلق معيارا لازما  في تمييز الرجال وبناء التنظيم، بل ويجعل من التربية على الخلق الحسن المادةَ الأساسَ في بناء الشخصية المؤمنة ونمائها وتأهيلها للبذل والعطاء المستمر والفعل المؤثر في المجتمع، والحضور المسؤول في تغيير مجرى التاريخ والإعداد لمستقبل الإسلام …

   ومما تعلمنا منه أيضا، خلقه الجميل في معاملة الناس، وأدبه الغامر في التعامل مع المخالف والمعارض، بل سعة صدره وجميل عفوه في حق من ناصبه العداء وألحق به الأذى والضرر ظلما أو نكاية أو سخرية، ومما كان يكثر أن يقول: “الفاضل يرى الفضل حيث الفضل، وذو المروءة يقيم المروءات، وسفيه النفس الناس عنده سفهاء”.  

    وقد شهدنا معه مواقف كثيرة من جميل عفوه عمن آذاه ورائع خلقه في حق من بلغه عنه أنه يشتمه أو يحقره وينتقص منه…

س ـ لا شك أن المتصدي لحمل أمانة عظيمة مثل أمانة الدعوة وتبليغ رسالة الإسلام يلزمه التحلي بقدر وافر من الأخلاق، ما هي أهم أخلاق الداعية التي تمكنه ـ بتوفيق الله تعالى ـ من النجاح في دعوته؟ 

ج- الدعوة إلى الله أمر رباني، وتكليف شرعي، وشرف ومسؤولية وأمانة، فهي نيابة عن الأنبياء في هداية الخلق وتذكيرهم بغاية خلقهم ومعنى وجودهم ومناط تكليفهم، ولعل الطريق الأقرب لامتلاك القلوب واجتذاب النفوس، جمال الخلق وجلال الأدب، فدعوة الحال أبلغ من دعوة المقال، والخلق الحسن يضفي جمالا على المرء، ويجعل دعوته نافذة إلى القلوب سالكة إلى وجدان الناس، فالناس تنجذب إلى القدوة الحية والنموذج الرائق الذي ينقلهم من التخلق إلى الخلق، ومن التخلي إلى التحلي، ومن الصلاح الفردي إلى تحمل أعباء الدعوة والبناء الجماعي…    

     فالداعية قبل أن يكون عالما بالأحكام، متقنا لفنون الخطاب وحسن الكلام، لابد أن يعطي من نفسه النموذج اللائق والمثال الرائق، فالناس بحاجة إلى نموذج أخلاقي وقدوة حية تدعو الناس بالحال قبل المقال، وتحببهم في الطاعة، وتأخذهم بالرحمة والرفق إلى حياض التوبة ورياض الإيمان…

     ومما يعين الداعية على ذلك أن يوطن نفسه ويرفع همته من أجل تحصيل النصيب الأوفر والمجموع الأكبر من شعب الإيمان وخصال الخير، والتي من أمهاتها الصحبة والجماعة بما هي محبة وتشرب قلبي واحتضان للواردين بالرحمة البالغة والحدب الكبير، ثم ذكر الله بما هو تطييب للقلوب وتزكية للنفوس حتى تتعلق بالله وبرسوله ، وتنظر إلى الخلق بعين الشفقة والرحمة والهداية، ثم بتدريب النفس وحملها على الصدق في الأفعال والأقوال والمواقف والأحوال، ومجاهدتها لتتخلص شيئا فشيئا من مظاهر النفاق وشعبه من أنانية مستعلية وكذب على النفس وعلى الناس وتكذيب بموعود الله، ومن خيانة للأمانات وإخلاف للوعود، وتخلف في ساعات العسرة،  وتول عن نصرة المستضعفين… 

س ـ سبق أن كانت لكم كلمة مركزة مفيدة في سياق التعليق على كلمة للإمام عبد السلام ياسين تحدث فيها عن الاعتكاف منطلق مسيرة جديدة، وقلتم إن التربية نماء، وتساءلتم كيف ننمي أخلاقنا؟. هلا قدمتم محددات لتنمية الأخلاق على المستوى الفردي والجماعي؟

ج- التربية عملية شاقة ومستمرة، ومعالجة لمادة إنسانية لها ماض واستعدادات، فهي بناء للكيان الإيماني وللهوية الإحسانية، وهذا يحتاج صبرا ومصابرة من جهة الفرد، كما يحتاج صحبة قلبية وبيئة حاضنة تمنحه الدفء الكافي، والتوجيه الرحيم، والتشرب القلبي، والسند المعين، والتربية نماء بما هي انتقال بالوارد من زمن الغفلة والقعود إلى زمن العبادة والعمل الدؤوب، ولا سبيل إلى تحقيق هذه النقلة النوعية في حياة الفرد والأمة إلا من خلال صحبة ربانية وجماعة حانية تفتح المغالق، وتحدو بالركب إلى عالم النور والرقائق كما يعبر الإمام رحمه الله في وصيته، ثم من خلال برنامج تربوي واضح وعملي يستمد من نور الوحي ومشكاة النبوة، وهو ما يصطلح عليه في أدبيات جماعة العدل والإحسان بيوم المؤمن وليلته، ثم من خلال محطات تربوية ومواسم للخير كالرباطات والاعتكافات ومجالس النصيحة والمجالس التربوية والتعليمية الدورية…

    وفي جماعتنا المباركة تتنوع موائد الخير وفرص الترقي الإيماني، حيث تنطلق الإرادات وتسمو الهمم من خلال مشاريع فردية وعزمات جماعية كمشاريع حفظ كتاب الله بالسند المتصل، والختمات المتعددة في كتب الحديث، بالإضافة إلى مشاريع التنافس في تحصيل العلم النافع، والمسارعة إلى فعل الخيرات وبذل المعروف والإحسان إلى الخلق…  

س ـ أعاد وباء كوفيد 19 طرح سؤال حاجة الإنسانية لأخلاق كوكبية، كيف أسهم الخطاب المنهاجي في التأسيس النظري والبناء العملي لأخلاق كوكبية/عالمية بين جميع البشر؟

ج- إن هذا الوباء الذي دهم البشرية وفاجأ الجميع، وذُهلت أمامه أعتى وسائل التكنولوجيا  التي ابتكرها الإنسان، وعجزت عن القضاء عليه أحدث ما تفتقت عنه العلوم والتقنيات، قد وضع  البشرية  بمختلف أجناسها وتباعد أقطارها في حالة ضعف وذعر وتحوط وارتياب، وقد شاهد الناس الدول التي كانت تدعي التحضر والتقدم، وتعطي دروسا في الأخلاق والإنسانية، تنكشف انكشافا فاضحا وتعبر عن أنانية فردية، وجشع مقيت، واستغلال فاحش…

     مما جعل الأنظار تشرئب، والقلوب تتعطش لنموذج عالمي ورسالة حكيمة  تجيب هذه القلوب التائهة والجسوم المعذبة، وتهفو إلى  يد رحيمة  تمتد لتنتشل الحيارى التائهين في دروب الدنيا، السكارى بلذاتها ومتعها المصبوبة عليهم صبا أو المقهورين المستضعفين ممن يلفحهم لظى الحرمان والفقر والقهر ونكد العيش في عالم غير متكافئ تحكمه الأنانية والقسوة والاستغلال…  

    إن مشروع المنهاج النبوي يخبرنا أن العباد رَحِمٌ واحدة، وأن صِلَتها بالشفقة والإحسان خصلة إيمانية إحسانية رفيعة. وأن حاجة الناس اليوم وأكثر من أي وقت مضى إلى أخلاق كوكبية قوامها الرحمة والعدل والكرامة، وإطارها الجامع مشروع مجتمع أخوي وعمران أخوي، عمران يسع الناس أجمعين، ويدعوهم ليتنادوا إلى رفع الظلم عن الإنسان، ودفع القهر عنه، والعمل المشترك لتحقيق كرامته، وحماية بيئته ومحيطه الحيوي… 

   عمران أخوي ينبغي أن يبسُط للناس جميعا بِساطَ الرحمة والحِلم والأناة من غير تضعف ولا استكانة ولا خضوع، للتحرر من سياق الحضارة المادية والعابثة اللاهثة خلف الشهوة واللذة المكرسة للاستكبار والتظالم، والمسرفة في استنزاف الكوكب الأرضي وتدميره. 

   في مثل هذه الظروف نستحضر دعوة الإمام عبد السلام ياسين ونداءاته المتعددة المتكررة لمشروع الحلف الإنساني الرحيم بالإنسان، ومن مستلزماته ومقدماته بناء الرجال الحاملين لهذا المشروع المتمثلين له حالا ومقالا إذ يقول في ذلك: “من أرض البأساء يتطلع المستضعفون إلى رحمة يأتي بها إن شاء الله المقتحمون للعقبة: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ﴾ (سورة البلد: 12-16) .

    يتطلعون إلى تكافل اجتماعي، إلى أخوة باذلة، حانية، محبة، تأسو الجراح وتُطلق السراح” (العدل، الإسلاميون والحكم، ص 201).

س ـ بوصفكم أستاذا باحثا في علم الاجتماع الديني؛ كيف يمكن لهذا الحقل المعرفي الإسهام في دراسة الدين والتدين، ومقاربة القضايا الأخلاقية المعاصرة؟

كان للتغييرات الثقافية التي أفرزتها العولمة، وما ترتب عنها من تداعيات، أثرا كبيرا في إحداث إبدالات وتغييرات في مجموعة من المرجعيات والمفاهيم والرؤى والتصورات والمعتقدات، ولعل من أبرزها طبيعة النظرة إلى الدين ووظيفته في المجتمع، وبحث قضايا التدين، ونوع الأنماط والمستويات التي يتخذها، فقد بينت السنوات الأخيرة حجم التحولات والتغيرات التي طرأت على أنساق التمثلات والسلوكات والمواقف والاتجاهات والقيم وخاصة القيم الدينية. 

   من هذا المنطلق فإن دراسة التحولات في المعتقدات والطقوس، ورصد علاقات الفعل والانفعال، والتأثير والتأثر، شكلت انشغالا حقيقيا للعديد من المشتغلين في حقل العلوم الاجتماعية وعلم الاجتماع الديني بوجه خاص، وذلك بغرض  فهم سرّ هذه التحولات في الحقل الديني، ورصد مظاهرها الكبرى، وبحث أسبابها ونتائجها…

   ولقد شكل سؤال الأخلاق قضية من القضايا التي أضحت تفرض نفسها بإلحاح على مختلف حقول البحث العلمي، فالعودة إلى الدين، وتسيد قيم السوق والاستهلاك، والعبث بالإنسان، وتدمير موارد الكون إشكالات مطروحة على بساط البحث، ومائدة المدارسة، في المراكز البحثية، والأوساط العلمية.

   تعالت الأصوات المطالبة بضرورة البحث عن نظام أخلاقي جديد يسود العالم، ويجيب عن الأسئلة الحارقة التي يضج بها ساكنو الكوكب الأزرق من فقدان البوصلة، وضياع المعنى، والإحساس بالخواء الروحي، والحاجة إلى الدفء الإنساني، في ظل سيادة قيم الرأسمالية المتوحشة التي تقوم على تقديس اللذة، وشيطنة القيم الروحية، والاحتفاء بنمط الاستهلاك الذي حول الناس  إلى صنفين من العبيد: عبيد في خدمة الشهوات وعبيد في خدمة عبيد الشهوات… 

أضف تعليقك (0 )



















يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لضمان حصولك على أفضل تجربة ممكنة. تعرف على المزيد