post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

تشكل مسألة الإرادة بما هي أداة ضابطة لحركة الإنسان فعلا وتركا، مسألة جوهرية في فقه الإقدام والإحجام [ref]هذا الفقه هو االذي أعوز كل الحركات، بما فيها الإسلامية، وبغيابها تتم إضاعة مكتسبات احتيج لسنوات وتضحيات أجيال لمراكمتها&#8230;[/ref] ، وتحديد ال &#8220;متى، وكيف&#8221;، وأخواتهما مما يعطي للفعل استقلالية وفعالية، تعوز الحركات الانفعالية المتشنجة. 
وقد كانت هذه الاستقلالية من أهم خصائص حركة النبوة وسط مجتمعاتها، بالرفق والتؤدة والرأفة بخلق الله، كل خلق الله، الموافق والمخالف، المحب والمبغض، وهذه أيضا من أهم خصائص &#8220;المسلك الإيماني&#8221;) [ref]مفهوم منهاجي يلخص الخصائص الأخلاقية المبادئية لحركة حملة رسالة الله زحفا نحو أهدافهم.[/ref] ، الإشفاق على خلق الله والعفو عند المقدرة، وهاتان الصفتان تنمَّان عن كمال التجرد من عوامل الهوى واتباع خطوات الشيطان. 
فنجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تمكن إلا أنصف، ولا قدر إلا عفا تصديقا لقوله صلى الله عليه وسلم: &#8220;&#8230; وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ&#8221; [ref]رواه مسلم وغيره.[/ref] . 
فتجده صلى الله عليه وسلم ينصف يهود المدينة فور تأسيس الدولة الإسلامية الجديدة، أداء للأمانة فيقدم لهم حقوقهم كاملة غير منقوصة بدون اضطرارهم لأية مفاوضات أو إعنات (كما هو حال الصهاينة اليوم في فلسطين المحتلة)، ولم يحوجهم للنضال من أجل حقوقهم المدنية، كما تفعل الديمقراطيات الجاهلية اليوم في الغرب مع أتباع الديانات الأخرى، خاصة المسلمين منهم، الذين تحاك المؤامرات من أجل تأخير حركتهم على المستوى الاجتماعي، والمدني، والحقوقي، والزج بهم في مجموع من القضايا لأجل إبقائهم في قفص الاتهام، ليبقوا عقودا في مواقع الدفاع عن أعمال إجرامية ما هي إلا جزء من مؤامرة شاملة ضد الإنسانية جمعاء يعلم الله مدى انتساب الماسكين بخيوطها إلى الإسلام! 
ونسوق نموذجا جميلا لعفوه الجميل صلى الله عليه وسلم الذي لم يغب في موقف من المواقف حيث يتجلى هنا بأسمى التجليات حين أسلم ثمامة بن أثال، أمير اليمامة وأحد سادة بني حنيفة، في السنة السادسة للهجرة، ثم ذهب إلى العمرة فكادت قريش أن تقتله لولا أن نبهها أحدهم أنه سيد اليمامة، المُمَوِّن الوحيد لقريش من حيث الحبوب، فأطلقوه فقال لهم: &#8220;وَاَللهِ لَا تَصِلُ إلَيْكُمْ حَبّةٌ مِنْ الْيَمَامَةِ حَتّى يَأْذَنَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمّ خَرَجَ إلَى الْيَمَامَةِ، فَمَنَعَهُمْ أَنْ يَحْمِلُوا إلَى مَكّةَ شَيْئًا، فَكَتَبُوا إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنّك تَأْمُرُ بِصِلَةِ الرّحِمِ وَإِنّك قَدْ قَطَعْت أَرْحَامَنَا، وَقَدْ قَتَلْت الْآبَاءَ بِالسّيْفِ وَالْأَبْنَاءَ بِالْجُوعِ&#8221; [ref]ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عاشقا للحرب، ولا كانت حالة الاضطراب تخدم أهدافه، ولكنها الجاهلية حتى تبعات تصرفاتها الخرقاء تلقيها على الأخ الكريم ابن الأخ الكريم صلى الله عليه وسلم![/ref] &#8220;. فَكَتَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِ أَنْ يُخَلّيَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْحَمْلِ&#8221; [ref]الروض الأنف[/ref] . وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم: &#8220;خَلِّ بين قومي وبين ميرتهم&#8221;. 
ولثمامة مع الاهتداء قصة جديرة بالاطلاع، غير أن الاستطراد لا يناسب المقام! وعموما فقد كان بإمكان الحبيب صلى الله عليه وسلم أن يمسك قريش من أمعاءها فيقودها قيادة الجمل الأُنُف، ولكن! هل يستقيم هذا في &#8220;منهاج النبوة&#8221;؟ 
بل العفو أليق بالأخ الكريم، ابن الأخ الكريم، ابن الكرام عليهم السلام. فما كان الحبيب المصطفى إلا ابن الأكارم كابرا عن كابر، رسول كريم من رب كريم، يعفو ويصفح صلى الله عليه وسلم، ليرسم خط العمل الإسلامي على مر العصور المتمثل في تحرير الإرادة من نوازع هوى النفس، واستقلاليتها وترفعها عن مستنقع ردود الأفعال. 
يفعل الحبيب صلى الله عليه وسلم هذا مع قوم يعلم يقينا ويخبر أصحابه بأنهم قوم في الجملة لا يرجى خيرهم، ولا يؤمن شرهم، ولكنه صلى الله عليه وسلم يعامل الخلق بما يليق بأحواله ومقاماته السنية، وليس بما يليق بأحوالهم الدنية! وهذا هو الذي يضفي صفة الربانية على الموقف الرسالي من الآخر. فتحييد العوامل النفسية لحامل الرسالة فردا أو جماعة، يعطي للحركة على الأرض مرونة وسعة أفق، وقدرة على المبادرة، تعوز أصحاب التشنجات والانفعالات النفسية، فهذا فرعون، النموذج الخالد للخبال والخسران، والغباء والخذلان، يقول الله تعالى عنه: فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ، إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ، وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ، وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَذِرُونَ، فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ، كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [ref]سورة الشعراء، الآية: 57-59[/ref] . 
فبعد أن اتفق مع سيدنا موسى عليه السلام أن يرسل معه بني إسرائيل، أعربت نفسه الخبيثة عن مخبوءها في قوله: وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ، ليبرز لنا تمكن العامل النفسي. فاتبع فرعون نفسه وهواه حتى أوردته وقومه المهالك، وما كان لهم من حجة إلا قوله: إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ، وكأني بإمام الأغبياء ورائد المخذولين يصيح فيهم بلسان الخسران: &#8220;من أنتم؟ ثورة، ثورة، ثورة&#8221;. 
وكان عاقبته وقومه: فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ، كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ. ويا ليت بني إسرائيل كانوا أهلا لهذا المدد والتأييد الرباني، ولكن سبق وعد الله جل جلاله: فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ. وعموما فقد رأينا نموذجا لاستقلالية الإرادة عند إمام الأنبياء صلى الله عليه وسلم: آفاق للفعل الإيجابي الرفيق المتئد والقاصد مفتوحة لا تنسد إلى يوم القيامة. ورأينا غياب هذه الاستقلالية عند فرعون إمام الأغبياء، ونتيجتها الحتمية: تقحم في سرداب الانفعالات المتشنجة المنذرة لأصحابها بالويل والثبور والفناء. 
هذه الاستقلالية هي التي تعطي حركة الفاعل صفة الفعل الحقيقي والتي يخلط البعض بينها وبينه انفعالاته وتشنجاته، إنها ذلك المكون الذي يعطي لحامل الرسالة إمكانية الحفاظ على حرية المبادرة، فيرى المتفرج والمتحمس إقداما حيث يتوقع الإحجام، ويرى الإحجام حيث يتوقع الإقدام، والأمر لله. كثيرة هي الدروس من حياة الإمام في استقلالية الإرادة، لكن مناسبة &#8220;الواجهة الجديدة&#8221; في مطلع التسعينيات من القرن الماضي تبقى درسا عاليا، خاصة في تلك الظروف! 
نكتفي بالإشارة إليها، لأن الاستفاضة في وصف ظروفها الذاتية والموضوعية، المحلية والإقليمية شروط لاستيعاب دروسها، وليس هدفنا الآن ولا بمقدورنا إلا أن نبرز أهمية استقلالية الإرادة عند حملة رسالة الله تعالى، وسنة الله خافضة رافعة. ترفع من لاذ بجلال الله ولو بعد حين، وتخفض من اعتمد على حوله وقوته وجبروته ولو بعد حين كذلك! قال الإمام رحمه الله: وَاخَيْبتي إنْ دَخلتُ صَفّاً ** أزعم للنفس ما تمنىمِن أنَّني فارسٌ شُجاعٌ ** يَقتَحمُ الموتَ إنْ تسنَّىثُمَّ أولِّي الأدْبارَ ركْضاً ** إذا سَمعْتُ الذُّبابَ طَنَّا [ref]ديوان شذرات[/ref]

التزكية والدعوة

خطوات على منهاج النبوة..استقلالية الإرادة

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

الصبر على… والصبر عن

خطوات على منهاج النبوة..استقلالية الإرادة

مقالات ذات صلة