مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسينمدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين
مدرسة الإمام المجدد
عبد السلام ياسين

حوارات

سنة الله في خلقه وفي التاريخ | حوار مع الأستاذ رشدي بويبري

0
سنة الله في خلقه وفي التاريخ | حوار مع الأستاذ رشدي بويبري

سنة الله في خلقه وفي التاريخ | حوار مع الأستاذ رشدي بويبري 

يسرّ موقع الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله أن يجري حوارا مع فضيلة الأستاذ رشدي بويبري الباحث في علم الاجتماع، وعضو مجلس إرشاد جماعة العدل والإحسان، يخص بسط وتوضيح بعض معالم فقه الإمام في موضوع سنة الله في خلقه وفي التاريخ. وإذ يشكر له الموقع تفضله بقبول دعوة الحوار، يمتن للقراء الكرام حسن القراءة والتفاعل.

أسئلة الحوار:

س1- اجتاح العالم في الشهور الأخيرة، فيروس كورونا المستجد. كيف نقرأ هذا الأمر على ضوء سنة الله في خلقه وفي التاريخ؟

ج: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أكرم المرسلين.

       تعد الأوبئة والأمراض ظاهرة ثابتة في التاريخ البشري صاحبت الإنسان منذ بدايات وجوده على الأرض؛ بل إنها ظاهرة راسخة في العالم الطبيعي ككل. فكل كائن حي وليس الإنسان وحده معرض للإصابة بالأمراض؛ إذ تصاب النباتات والحيوانات بالأوبئة أيضا، بل هناك أمراض أفنت أجناسا من الكائنات الحية غير الإنسان. وكثير من المؤشرات التاريخية تدل على ذلك؛ فحين شرع الإنسان في التأريخ لحياته وأنشطته كان حريصا على تدوين معاناة الجنس البشري مع هذه الظواهر التي طالما اشتدت وطأتها عليه في حقب معينة من تاريخه. ورسمت يد الإنسان صورا متعددة من المآسي التي خلفتها الأوبئة كما رصدت أشكال التعامل معها والأخلاق التي رافقت الإنسان خلالها فضلا عن الخبرات التي راكمتها الممارسة الإنسانية في معالجتها لتلك الظواهر. وهذا ما نجده مسطورا في معظم كتب المؤرخين الأقدمين منهم والمتأخرين، وبهذا نستنتج أن وباء “كوفيد 19” ليس ظاهرة استثنائية أو حدثا غير مسبوق. صحيح أنه يتميز بخصوصية في ذاته وانعكاساته لكنه من حيث المبدأ لا يشكل استثناء. فهذه سنة الله في خلقه أن يبتليهم بالشر والخير لعلل مختلفة ومقاصد متعددة. أولاها افتحاص درجة صبر الصالحين من العباد وتسليمهم لمولاهم في أقداره، وثانيها قهر العصاة والطغاة لئلا يتألهوا على خلقه وليذكرهم بضعفهم وعوزهم وافتقارهم إلى رحمة خالقهم؛ وثالثها جعل المصيبة سببا لما يفتح الله به على خلقه من أنواع الحكمة والمعرفة في مواجهة تحديات الحياة.

       بناء على ما سبق فما يهم المسلمين من دراسة هذه الظاهرة ومثيلاتها، فضلا عن البحث عن حلول لها وعلاج لتبعاتها، هو أخذ العبرة والبحث عن الحكمة الربانية الثاوية في تفاصيلها أو البارزة في تجلياتها. فالله جل وعلا أخبر الإنسان في كتابه المبين أن لا عبث في الوجود وأن الأمور تجري وفق أقدار وبمقادير حددها الحكيم الخبير سبحانه؛ فالله تعالى هو خالق كل شيء وهو المقدر لكل شيء وهو العليم بكل شيء؛ يقول تبارك وتعالى: ﴿إنا كل شيء أنزلناه بقدر﴾(القمر:49) فكل ما يحدث في الوجود لا يقع من تلقاء ذاته بل بعلم الله وإرادته، ويقع لعلة ما، لأن كل الأحداث غائية في طبيعتها. وهذا هو المبدأ الذي ربى النبي صلى الله عليه وسلم الأمة على أساسه وجاء واضحا في سنته وسيرته.

       فالله عز وجل حين يوقِع مثل هذه الأحداث يُنبِّه الإنسان إلى وضعه الوجودي ويثير انتباهه إلى الغايات الأساسية من الوجود وأن حياته في الأرض لا تعدو أن تكون رحلة موجزة في الزمن مهما طالت سنونها وشهورها. فعلى الإنسان أن يعتبر ويتيقظ لرسالته الوجودية التي تسمو به عن دوابيته. وحين يغفل البشر عن هذه الحقيقة تأتي القوارع الفردية والجماعية لتذكره بها وتقيم عليه الحجة.        

س2- أظهر هذا الوباء الحاجة إلى الاهتمام بالصحة، والتعليم، وتوفير العيش الكريم، وتعزيز الأواصر الأسرية، والروابط الاجتماعية. ما الذي يقترحه الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله للنهوض بالمسألة الاجتماعية؟

ج: خلق الله عز وجل الإنسان مكرما وأمده بكل مقومات الحياة وشروط البقاء والتطور، سواء في بعدها المادي أو المعنوي، على أساس هذا المبدأ، وأخبر بذلك تبارك وتعالى بقوله: ﴿ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات﴾(الإسراء:70)، بل إن من المقاصد الأساسية للشرائع الربانية حفظ الحياة البشرية وتوفير شروط السعادة والهداية للإنسان. لكن هذا الأخير كثيرا ما تنكب عن المنهاج الرباني وصَدَّ عنه، خاصة في المرحلة المعاصرة من تاريخه، وبدلا عنه ظهرت نظريات وفلسفات تُعرِّف الإنسان من زوايا مخالفة تماما للنظرة الربانية وتختزله في بعده المادي الشهواني وحده. وهذا ما حول هذا الكائن المُكرَّم، فطرة، إلى مجرد وسيلة، ولم يعد غاية باعتباره خليفة الله في الأرض. وقد كانت هذه النظرة السبب الرئيس في وقوع المآسي التي عانت منها البشرية في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، إذ تولد عنها التفاوت الطبقي والظلم الاجتماعي والاستبداد السياسي وغيره.

فالحديث عن المسألة الاجتماعية هو في العمق حديث عن الشروط الأساسية للكينونة البشرية، هو حديث عن الحقوق الأساسية والضرورية التي باحتجابها لا يمكن أن نتحدث عن الإنسان كما خلقه الله مكرما. فالتعليم والصحة وغيرها حقوق جوهرية تندرج في نطاق حق الحياة الكريمة.

وقد تناول الإمام “عبد السلام ياسين” رحمة الله عليه المسألة الاجتماعية من هذه الزاوية التي تحدثنا عنها؛ إذ اعتبر الخلل فيها مصدر كل الاختلالات، حيث يقول: “في المسألة الاجتماعية تكمن أسباب الزيغ والانحراف؛ في وجود الفقر في جانب والغنى في جانب، في تركب الظلم السياسي على التفاوت الطبقي وتولد هذا من ذاك وفي المسألة الاجتماعية تكمن الغيوم المظلمة التي تلبد سماء النفوس والعقول، فتتعتم الطريق وتتقتم”. كما أكد أن العدل في بعده الاجتماعي يمثل رأس المطالب؛ وأصَّل لرؤيته للقضية الاجتماعية بالحديث النبوي الذي رواه الامام البخاري عن سلمة بن عبيد الله بن محصن الخطمي عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا”. ويقول الإمام شارحا: “العدل والرخاء مقترنان حكمة، وقرانهما هنا الإصباح، وهو مظهر الاستقرار. فإنه لا صباح لمن لا أمن له من عذاب الله، ولا صباح لمن سهر خوفا أو جوعا أو مرضا. العدل والرخاء توأما خير، كما أن الظلم والخراب عديلا شر. في الحديث الشريف مطالب ثلاثة بتحصيلها يحل الرخاء بدل الشدة:

1- الأمن في السرب وهو الاستقرار الاجتماعي. وتأمل استعارة لفظة «سرب» الموحية بانسجام المجتمع كما ينسجم سرب الطيور في تحليقها. هدوء ونظام وحركة لطيفة.

2- العافية البدنية. وهي العناية الصحية، بزيادة معنى السلامة من كل المنغصات الشاغلة للإنسان. فالعناية الصحية قد تكون عن مرض، أما العافية فهي سلامة أصلية.

3- قوت اليوم. وتأمل كلمة «قوت» فهي دالة على الكفاف من الضروري والحاجي لا زائد عليهما من التوسع والتبذير والترف”.

س3- عادة ما تُحدث بعض الأحداث تغيرات اجتماعية واقتصادية وسياسية وتربوية وثقافية… فهل يمكن القول بأن ما حدث في الشهور الأخيرة سيكون له تأثيرات على المديين القريب والمتوسط؟

ج: التغير في واقع الناس وأزمنتهم وعلاقاتهم ظاهرة تاريخية ثابتة، فمن سنة الله تعالى كون الحياة عبارة عن سيرورة متصلة من الوقائع والأحداث. وما حدث خلال الشهور الأخيرة، رغم خطورته، لا يمكن اعتباره تحولاً تاريخيا ولا يُتصور أن ينتج عنه تغيير عميق في الأنساق الكبرى التي تتحكم في الحياة الإنسانية. بل إنها تدخل في خانة ما يمكن تسميته “بالفاعل المسرّع”؛ وهي أحداث تكاثرت بشكل متصاعد منذ عقدين من الزمان، مما يشير إلى أن التاريخ البشري مُقبل على انعطافة عميقة ومهمة. فبعد ظاهرة وباء كوفيد 19 جاءت أحداث العنصرية في أمريكا، وقبلهما كانت الأزمة الاقتصادية سنة 2008، وسبقتها أحداث ضخمة ومن المؤكد أنه ستليها وقائع أخرى، فنحن إذن بصدد سلسلة أحداث تفعّل وتسرع من وتيرة التحول التاريخي المقبل.

       وبشكل عام، في تحليل التحولات التي تحصل في المجتمعات البشرية، يجب التمييز بين ثلاث مستويات، تحول في السياسات وتحول في الخيارات ثم تحول في المسارات. وبين هذه المستويات ترابطا محددا لكن لكل عنصر من هذه العناصر ما يميزه عن الآخر. فحين نتحدث عن التغيير على مستوى السياسات فهو تغيير في المجال التكتيكي، إذ أن كل دولة وكل مجتمع له شأنه العام الذي تتم إدارته بواسطة سياسات تتحكم فيها خيارات؛ وبالتالي فمراجعة السياسات العامة ونقدها وتقويمها يتم بشكل دائم سواء بشكل مرحلي أو بشكل دوري. أما الخيارات فالتغيير فيها يتم على مستوى متوسط المدى، وليس من السهل تبديلها لأنها تنضج عبر الزمن وتغطي مجالات متعددة، بحيث نتحدث عن خيارات اقتصادية وسياسية وثقافية ودينية وغيرها. فالتحول على مستوى الخيارات يحتاج إلى حكمة وإلى تدبير وتخطيط عميق. وقد تعمد بعض الدول والمجتمعات إلى تغيير بعض خياراتها وتقوم بمراجعتها حسب الظروف والمناسبات والضرورات. أما التغيير الأعمق، فهو ما يسمى بالتغيير في المسارات وهذه الأخيرة هي المحددات الكبرى والمقومات الأساسية التي تحدد وجهة مجتمع ما ودولة ما، مثل اتجاهاتها الإيديولوجية وأسسها القيمية ومرجعيتها الهوياتية، الدينية والحضارية. فالتغيير على مستوى المسارات لا يحدث بشكل دائم ومستمر بل يقع في مراحل تاريخية متباعدة ويحتاج إلى وقت كبير وجهد كثير وتدبير حكيم فهو بمثابة انعطافة تاريخية على مستوى وجهة مجتمع ما أو مساره التاريخ البشري ككل..

س4- من المفاهيم التي نادى بها الإمام عبد السلام ياسين، الأخلاق الكوكبية، ليسود الإخاء والتراحم الإنساني بين البشر جميعا، لاشتراكهم في الرحم الإنسانية. هل يمكن أن يُقرب ما وقع المسافة بين الشعوب، ويُنمي أواصر الأخوة الإنسانية بينها؟ ويقلل في الآن نفسه إمكانات الصراع بين الدول واندلاع الحروب؟

ج: حققت الحضارة المادية المهيمنة على العالم منذ قرنين الكثير من المنجزات المادية العظيمة النفع للبشرية، وساهمت في ذلك جهود شعوب متعددة في العالم. لكن لهذه الحضارة أيضا مخازي ومصائب كثيرة عانى منها الإنسان وما يزال، ومنها، بل في مقدمتها، غلبة الحروب والصراعات على العلاقات بين بني البشر فرادى وجماعات من جهة وبين الإنسان والعالم الطبيعي من جهة أخرى. ولا تتخذ هذه الصراعات طابعا عفويا بسبب النزعات العدوانية للإنسان بل بفعل اعتبارها استراتيجية أيديولوجية وصناعة سياسية واقتصادية للمهيمنين على العالم. وقد خلفت هذه السياسات الداهية عددا متناميا من المآسي الخطيرة كانت لها أثمان عظيمة من الأرواح والثروات. لأجل ذلك ارتفعت أصوات كثير من الحكماء تنادي بضرورة إنهاء هذا المسار المدمر وتأسيس منظومة قيم جديدة وأصيلة تنتصر لإنسانية الإنسان وتشيع أخلاق الرحمة والأخوة والتواصل والتعاون بما يطمئن عن مصير البشرية ومستقبلها.

       ومن ضمن هذه النداءات الحكيمة ما تفضل به الإمام المجدد “عبد السلام ياسين” رحمه الله. فحديثه عن ضرورة تأسيس جماعي للأخلاق الكوكبية جاء في إطار تحليله لمساق تصاعد المخاطر المهددة لكل حي على وجه الأرض؛ إذ الكل يركب سفينة واحدة وهي مهددة بالغرق باستمرار. فلا بد إذن من التقاء موضوعي لإرادة الفضلاء وذوي النيات الحسنة والغيرة على الكرامة الآدمية؛ وفي مقدمة هؤلاء المسلمون المطالبون باعتناق أخلاق النجدة والمروءة لمد يد العون لكل الناس مسلمهم وغيره. فالمقصود بالأخلاق الكوكبية مجموع الأخلاق الإنسانية التي تتغيى تحقيق كرامة الإنسان وضمان استفادته من حقوقه الأصيلة أيا كان أصله وشكله ومعتقده، في إطار ترسيخ مبدأ العدل والمساواة. وحين تسود هذه الأخلاق وتصير عملة رائجة في العلاقة بين الناس والبلدان تنتفي الدوافع المولدة للصراعات والحروب وينتشر السلم والأمان.

       قد يبدو هذا النداء لحظة صدوره بمثابة حلم بعيد التحقق، لكن تنامي التهديد واتساع دائرة المخاطر المهددة للوجود البشري والطبيعي ستلجأ العقلاء لا محالة إلى البحث عن حلول جذرية ولا مناص من الالتقاء والتعاون آنئذ. وقد كشفت جائحة “كورونا” الحاجة إلى القيم الإنسانية الراقية التي جاء بها الاسلام ونادى بها من تضامن وتراحم وتساكن وتعاون على البر والخير ونبذ الصراع والتوحش والتهافت على الاستهلاك.

س5- تعيد هذه الجائحة العالمية، وما خلفته من نتائج بشرية ونفسية، وآثار اقتصادية، طرح سؤال المعنى. فكيف يمكن مقاربة هذا البعد الذي كشفته هذه الظاهرة؟

ج:    من القضايا التي برزت خلال هذه الفتنة، التي عمت المجتمعات، وشغلت تفكير الناس وصارت محور حديثهم اليومي، قضية الموت.  فإذا كانت الغالبية العظمى من الناس تكره سماع الحديث حول الموت ويتشاءمون به وينفرون منه، فإن هذا الوباء خلف ملايين من المصابين ومئات الآلاف من الموتى، وإذا بالموت والحديث عنه يصبح فجأة ملء سمع العالم وبصره، ولا حديث للبشر خلال الشهور الأخيرة إلا متابعة إحصاءات الموتى والمصابين بالداء. فجأة ودون سابق إنذار انتبه الإنسان الغافل والسادر في شهواته إلى أنّ الموت حق وأن الحياة قصيرة، وفُرض على الجميع أن يعيشوا تحت تهديد الخوف من الموت مما نغّص على غالبيتهم معيشهم.

       ومن المعلوم أن ذكر الموت يكتسي أهمية كبيرة للإنسان، فهو كفيل بإحداث التوازن في حياته بين شهواته وقيمه، بين الدنيا والآخرة. فالغفلة عن قضية الموت هي من أعظم مصادر الشرور، إذ هو السبب الرئيس لعدم التفات الإنسان إلى تبعات أفعاله واختياراته وإعطائه الأولوية لنفسه وهواه على حساب الغير. ولعل هذه المعاناة البشرية الشديدة تدفع العقلاء إلى إعادة النظر في المسار الذي انحدرت إليه البشرية وتولدت عنه المصائب العظيمة وتحرك إراداتهم إلى تجميع الجهود وتوحيدها قصد إنقاذ الإنسان من الغرق في ماديته ودفعه إلى إدراك المعنى الحقيقي من وجوده والغاية منه وهي تحقيق العبودية لله تبارك وتعالى؛ يقول سبحانه ﴿وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون﴾(الذاريات:56)

وفي الختام نشكركم فضيلة الأستاذ رشدي بويبري على حسن تجاوبكم وجميل أجوبتكم، وننتظر مقالاتكم وحواراتكم مستقبلا إن شاء الله. 

 

أضف تعليقك (0 )



















يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لضمان حصولك على أفضل تجربة ممكنة. تعرف على المزيد