مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسينمدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين
مدرسة الإمام المجدد
عبد السلام ياسين

قضايا فكرية

لماذا يتَعَسّرُ فهمُ “الحداثيين” لخطاب الأستاذ عبد السلام ياسين؟

لماذا يتَعَسّرُ فهمُ “الحداثيين” لخطاب الأستاذ عبد السلام ياسين؟

لماذا يتَعَسّرُ فهمُ “الحداثيين” لخطاب الأستاذ عبد السلام ياسين؟

قال الله تعالى: “هذا بلاغ للناس ولينذروا به، وليعلموا أنما هو إله واحد، وليذكر أولوا الألباب” (سورة إبراهيم:52)

أعتقد أن سوء الفهم الكبير الحاصل بين الأستاذ ياسين، كمربٍّ ومفكر وسياسي، وبين مخالفيه من “الحداثيين والديمقراطيين” مردّه في العمق والأساس إلى الاختلاف الجوهري بينهما في “الكيفية التي تُطرح بها قضايا الإنسان”، أي نوع الخطاب الذي يُنتجه كل منهما، ثم يوجّهه للأمة والناس عامة: مفرداتُه، ومصطلحاتُه، ودلالةُ مفاهيمه وحمولاتُها، ومجازاتُه، واستعاراتُه، ورموزُه، وتحيّزاتُه أيضا. فالأستاذ ياسين يؤمن، بشكل عقديّ صارم، بمقولة “البلاغ القرآني”، ويعمل جهده على تنزيلها في كل ما يصدر عنه من خطاب، شفهيا كان أم مكتوبا، متّبعا شعارا نموذجيا مفاده “أسبقية بيان الحقيقة وصدق المضمون” على أية إمكانيات أسلوبية أخرى.

   هذه المقولة، ونقصد “البلاغ القرآني”، تقتضي – في عُرفه – أن يُخاطَب كلٌّ على قدر عقله، فالمخاطَب بـ”الإيمان” و “الإحسان” ومقاماتِهما غير المخاطب بـ”العدل” وقضاياه. وبين هذين الحدّين “مساحات خصبة يتموّج فيها الخطاب القرآني ليُناجيَ الروحَ في أشواقها، والنفسَ في أغوارها، والعقلَ في تجريده، والجسمَ في حاجاته”(المنهاج النبوي/398) مع المزاوجة التربوية والبيانيّة بين لِينِ الترغيب والبشارة، وشدّة الترهيب والزجر والنذارة. وفي كلا الحالتين – متى قُدّمَتا منفصلتين – ينبغي أن تؤخذا بالقوة اللازمة لكل مقام، فروح “يا يحيى خذ الكتاب بقوة” ينبغي أن يٌلتزم بها: فهما واتباعا وتنزيلا وتبشيرا.

   من أجل ذلك نجد أن الأستاذ ياسين لا يسكت، أو حتى يخفّفَ من نبرة خطابه أو يزوّقَ من مفرداته أثناء تناوله لبعض القضايا لمجرد أن معارضيه ومخالفيه وخصومه لا يستسيغون أسلوبه وطريقته، والتي يعتقد أنها من صميم “بيان القرآن”. وأكثر ما نجد عنده هذا الأمر أثناء بسطه لاختياراته التربوية، ورؤيته لعالم الغيب، فهو يجهر بها دون أدنى مبالاة بالرفض الذي يعرف مسبقا بأنه سيُقابَل به. الرفض الذي يصل حدّ الاستهزاء والتهكم.

   خطابه إذن “يعطي لكل سؤال مادي تَطرحُه حالةُ العالَمِ جوابا مُستمَدّا من شرع الله وهدي نبيّه” (المنهاج النبوي/401)، أي أن جوابَه – كما يعتقد – ينبغي أن يربطَ الدنيا بالآخرة، بين حاجات الجسم ومتطلباته وحاجات الروح في ارتقائها وعروجها.  

    وعلى هذا الأساس فإن خطابَه إيمانيّ- دعويّ، وهذا يتناسب تماما مع تصريحاته المتكررة بأن “الدعوةَ مهنته”. والدعوةُ – كما يفهمها ويمارسها في سياق البلاغ القرآني – وسيلتُها التربية والتذكير والإنذار والتبشير والوعظ والتعليم والإقناع، وسيلتها – كما عبّر – “التي هي أحسن”. والتي هي أحسن “تدلّنا على اللِّينِ في القول، و(تدلنا أيضا) على الصّدْع بالحقّ لا نخافُ لومةَ لائم، فإنّ “ادع إلى سبيل ربك” تعطينا الخطَّ والمسارَ والهدف، لكيلا ندورَ حول المقصود ونَحُور”(الشورى والديمقراطية/103)

   ينبغي إذن أن يكون الخطاب الإسلامي وسيلة من وسائل التربية، له مغزى، ويحمل معنى، ويبلغ رسالة، وهذا دليل عافية. عكس الخطاب الحداثوي، الذي يعتقد – مُمَثّلا في فرويد – أن الإنسان عندما يبدأ في طرح أسئلة معنى الحياة والموت فذلك دليل علة ومرض.

   وبهذا المعنى يكون حوارُه “مع عُمّار الساحة السياسية ضرورة سياسية، وتبليغنا مقالةَ الإيمان – يقول – واجبٌ دعوي”(نفسه/271). ألا ترى أنه، وهو يحاور ديمقراطيا قُحّا في قضايا الديمقراطية والتعليم والتنمية وحقوق الإنسان، لا يجد أيّ حرج في أن يُحدّثَه – من موقع القوة الهادئة – عن التوبة والغيب والقرآن والوحي والقبر والجنة والنار، وأن “الصلاة أولا قبل أن نتابعَ الحوار مع أمازيغيين (وغيرهم) يُصلّون، أو نَعلمَ من يُنكِر أن الصلاة من الإسلام فنحاوره أيضا، ولكن من منطلق مختلف”(حوار مع صديق أمازيغي/172). وهنا يدعو محاورَه – ويشدد في الدعوة – أن يبذلَ حدّا أدنى من الجهد كي يَسْتبين كلمةَ الوعظ المُتشابكة مع كلمة الفكر والتحليل والنقد والسياسة (نفسه/274). لأنه بقدر حرصه على إسماع ندائه، بقدر خوفه أن يُفهم هذا النداء فهما مبتورا أو مُعوجّا.

   وخطابٌ بهذا الأسلوب، وعلى هذه الأسس قائم، مرفوض، مُستهْجَن، مُستقبَح، مَمْجوج، من قِبَل أغلب المثقفين أصحاب “النزعة النقدية” و”الخطاب الموضوعي” و”المقاربة العلمية”، وما شئت من مقالات الحداثيين وشعاراتهم، لأنه – عندهم – يخلط بداية بين مجالين، تعلّموا في “مدرسة التنوير” الأوروبي أن الفصل الحادّ هو الذي ينبغي أن يسود بينهما حتى تستطيع الأمة النهوض من سقطتها واللحاق بركب التقدم.

   أما خطابهم فمفرداتُ قاموسِه كلُّها مدجّجةٌ بخلفيات لاييكية فلسفية مادية ناكرة ساخرة رافضة لكل بيان مُستقًى من القرآن، والموصوف عندهم بكل عَيٍّ ونقص، فهو خطاب “معياري، أخلاقي، اتباعي، سكوني، تقليداني، محافظ، شمولي”، وما لا يخطر ببالك من مصطلحات بعضها غاية في الإيجابية، لا ندري كيف يتمّ شحنُها بأحكام وقيم في منتهى السلبية؟

   إن القضية عندهم – أولا وأخيرا – عدل وحرية وحقوق وتنمية، فما دخل ذِكرِ الموت والآخرة ولقاء الله في الموضوع إذن ؟

  ولخلفية الرجل الصوفية، ولكونه مؤسس أحد كبرى الحركات الإسلامية، كان يمكن أن يُتّهم “عقلُـ”ــه من قِبل مخالفيه الأيديولوجيين بـ”العرفانيّ” أو “الفقهيّ” المستقيل من قضايا مجتمعه وأمته. وكذا خطابه وفعله الحركي كان يمكن أن يُوسَما بالتقليدانية والمحافظة والإصلاحية، ولم لا المهادنة، لولا أن مواقفه السياسية – فضلا عن خطابه العدلي – يعرفونها جيدا، فرصيده التاريخي لم يترك لأحد أية فرصة لتجريب هذا المدخل. ومواقفه كلها تتسم بالتقدمية الرافضة لأية “تسوية مع الاستبداد”، واشتباكه صارم معه في مواقع أكثر من أن تُعدّ أو تحصى. ومن ثم فإن التزامه بـ”البلاغ القرآني” بمعناه العدلي- الإحساني هو اختيار الواعي القوي، صاحب الإرادة الجهادية الشاملة، وليس اختيار مسيء تأويل الوحي الإلهي من العلماء التقليديين أو من المثقفين الحداثيين لمفهومي التربية والدعوة. واللّذيْن يسيئان معا فهم هذا البلاغ وكيفية تنزيله، بعضهم لقصر مَبْلَغِهم من العلم، والبعض الآخر لنيّة مُبيّتة في تشويه عُمرانِه ومعمارِه.

أضف تعليقك (0 )



















يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لضمان حصولك على أفضل تجربة ممكنة. تعرف على المزيد