تأملات في مسار جماعة العدل والإحسان (4)
تطمحُ كل “حركة اجتماعية” أن تضرب بحظّ وافر في عالم الأفكار والتصورات، تماما كما ترجو أن تكون ذاتَ حركيّة فاعلة في الواقع وعلى أرضه؛ فهي تشتغلُ على أساس أن التقييمَ والاقتراح والاقتحام، التفسيرَ وإرادة التغيير، النقدَ والبناء، عملياتٌ متشابكة تُكمّل بعضها بعضا أثناء السير والتّقدّم. ولا يُتصوّر أبدا أن تقومَ حركةٌ ترفع من ضمن شعاراتها مطلب التغيير دون أن يستند فعلُها على رؤية واضحة مكتوبة معلومة تُحدّد الغايات والأهداف والوسائل، أو لنقل باللغة المتداولة في هذا السياق، تُجيب على سؤال: من نحن وماذا نريد؟
هذا الوعي تَحقّق لدى جميع روّاد الحركات التغييرية في العالم على اختلاف دياناتهم ومرجعياتهم وأصولهم، فلم يكن أحدٌ منهم يخطو ويتحرك قبل أن يمتلكَ حدّا أدنى من هذا الوضوح، وإلا فهي السطحية والتجزيء في حالة، أو التّيه والضياع في حالات: فمحمد بن عبد المطّلب أعلن ومنذ البداية أنه رسول من الله تعالى، بعثه للنّاس كافة ليقترح عليهم مشروعا عمليا؛ تَتْميمِيّا مرّة، وإصلاحيا مرات، وتغييريا انقلابيا في غالبيته، شعاره العريض اجتماعيا: العدل في الحكم والأرزاق، وفرديا: التّشوّف إلى رضا الله تعالى بأفعالٍ بعضُها بسيط وبعضها الآخر عظيم ومُكلّف. وكارل ماركس وفريديريك انجلز كتبا “البيان الشيوعي”، بينما نشر لينين “ما العمل؟” يبشرون جميعُهم بأفق شيوعي تنمحي فيه الدولة والطبقات، تسبقه مراحل تشتغل بوسائل بعد أن تشتعل السّاحات.
وجماعة العدل والإحسان المغربية من ضمن الحركات التي استوعبت هذا “القانون” والتزمت به؛ فالنظرية ـ في أُسُسها وركائزها ـ كانت مُؤثّلة قبل أن تبدأ في “الممارسة”. وقد انبرى المؤسّسُ ـ كما هو الشّأن في جُلّ التجارب الحركية ـ للاضطلاع بهذه المهمة، فكتب الأستاذ عبد السلام ياسين “بيانها الإيديولوجي” في أكثر من أربعمئة وستّين صفحة وسمه بـ”المنهاج النبوي: تربية وتنظيما وزحفا”، نشره أولا مُجزّءا في أربعة أعداد من مجلة “الجماعة” عام 1981م قبل أن يُجمَع في كتاب. وقد جرّ عليه هذا الوضوح يومئذ نقمة الكثير من المشتغلين بالعمل الإسلامي في المغرب، لأن أسلوب العمل السائد كان يغلب عليه طابع السرية، فاعتبَروا نشر التّصوّر على الملأ فضحا وليس وضوحا.
يقول الأستاذ ياسين في الصفحة الأولى من مقدمة بيانه: “فهل نَكتمُ أساليبنا في التربية والتنظيم مخافة أن يطلع عليها الأعداء فيكون الانكفاء الذي يريدونه لنا؟ يضمر الفكر في غلس التّخفّي فينحرف العمل في الضالات الحركية. أنكون أقلّ ذكاء وجرأة على الأمور من طوائف المذاهب المقاتلة للإسلام التي تخطط وتفكر وتنشر على أوسع نطاق ليعلم كل عضو في تنظيماتهم مهمته بالضبط؟”. قبل أن يختمها بقوله: “فبدون تصوّر واضح لمنطلق الحركة وسيرها وأهدافها ومراحلها لن نستطيع سيرا”. بينما كانت آخر جملة في كتابه ـ قبل دعاء ختمه قوله: “فاعلم لِمَ تتحرّك الجماعات وأين تتجه، وتأكّد أن تُحافظ أينما كنت لتكون الوجهة الله، والموعد الله”.
عندما كان تلامذة الأستاذ ياسين يعرضون “المنهاج النبوي” على بعض خاصة الناس من العلماء والمثقفين، لم يلق عند جلّهم القَبول لاعتبارات نفسية بالدرجة الأولى مرتبطة بـ”المُعاصرة” التي تحجبُ وتجعل “مُغنّي الحيّ لا يطرب”؛ بعضهم شبّهه بكتب سعيد حوى، وبعضهم قال: “كُونوا أوّلا”، وآخرون تصفّحوه فيما يشبه الاحتقار وردّوه لأنه ليس سوى جلدةٍ تضمّ بين دفّتيها مقالات سبق نشرها في مجلة !
قبل تأسيسه للجماعة، كان الأستاذ ياسين قد كتب عددا من المؤلفات والرسائل والمقالات التأسيسية: الإسلام بين الدعوة والدولة، والإسلام غدا، ورسالة الإرشاد، ورسالة الإسلام أو الطوفان، ومقال العقل والنقل والإرادة أو أزمة منهاج. قطع من خلالها مع الإسلام السكوني الفردي، ودشّن فَهْما جديدا عنوانُه العريض التشابك المتين بين التربية والسياسة في الحركة التغييرية التي نوى السّير في طريقها. ومنذ البداية استيقن الأستاذ أن التجديد الحقيقي ينبغي أن ينطلق ـ أولا ـ من تغيير ما بالإنسان، وإنقاذه من براثن الفتنة الشاملة التي جعلته يغرق في “أمراض التكاثر”، ثمّ يجتهد ـ ثانيا ـ في إعادة العلاقة بين الدعوة والدولة كما أسّست لها السيرة النبوية باعتبارها سابقة بشرية قابلة للتحقّق متى توفّرت الشروط.
وبعد المنهاج النبوي، وإلى حدود فرض الإقامة الإجبارية عليه، ألّف الأستاذ ياسين ثلاثة عشَر كتابا وديوانيْ شعر؛ الأول صغير الحجم تحت عنوان “شذرات”، والثاني موسوم بـ”قطوف” في عشرة أجزاء، طبع منها لحد الآن تسعة.
وقد تناولتُ الميراث الفكري للأستاذ ياسين: الحصيلة، والأصول، والمسالك، في مقال مطوّل قد يصدر قريبا، فلا أودّ تكرار الكلام هنا إلا بمقدار مختصر توضيحي يتناول أهمّ الكتب المرجعية في هذه المرحلة، ونقصد كتب: الإسلام وتحدي الماركسية اللينينية، والإحسان، ونظرات في الفقه والتاريخ.
استوعبَ الأستاذ في الكتاب الأول عمق التحدي الذي يشكّله الفكر الماركسي وممارساته أمام الإسلام ككل وليس أمام الإسلاميين فقط؛ وذلك بسبب ما يمنحه لقضية العدل من أولوية قصوى تجعل أفئدة الناس وعقولهم تهفوا إليه، لأن المقهور والجائع ـ عادة ـ لا يسمع نداء الصلاة، بل ينقاد خلف صوت المبشر بالحرية والخبز دون أن ينتبه كثيرا للطريق التي سلكها، والتي هي ـ في الحالة الماركسية ـ مُعتّمة كالحة من جهة الأساس الروحي التربوي الأخلاقي. ومن ثمّ دعوته الملحاحة للإسلاميين لإعطاء هذه القضية ما تستحقها من اهتمام، وجعلها إحدى أهم المداخل لقلوب الناس ووجدانهم حتى يُسمعوهم رسالة الإسلام.
وفي كتاب “الإحسان”، وهو موسوعة تربوية في جزأين، دافع فيه الأستاذ ياسين عمّا يعتبره جوهر الدين وذروة سنامه، وهو مقام الإحسان؛ حيث يعبد المؤمنُ اللهَ كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإن اللهَ يراه. وهو الأمر الجلل الذي انشغل به أهل التصوّف واعتزلوا الناس خوفا على ضياعه يوم افترق السلطان عن القرآن واتّسع التّباعدُ كلما ازداد التاريخ تدحرجا. وفيه عمل على ردّ الاعتبار لـ”الطريق” انطلاقا من نصوصه وتجارب رجالاته، وكذا انطلاقا من نصوص الكثير من علماء السلف ممن اشتهر لدى الخلف بمخاصمتهم للتّصوف، وخاصة ابن تيمية. وقد ضمّنه الأستاذ بعض النّتف من تجربته التربوية الروحية، ورفع صوته كما فعل كل أرباب التربية من قبله: من هنا البداية من هنا الطريق. وقد اعتبرتُه في مقال سابق “سيرة الأستاذ ياسين التربوية”.
أما الكتاب الأخير، ونقصد “نظرات في الفقه والتاريخ”، فقد خصّصه بالدرجة الأولى لتوضيح موقفه من تاريخ الإسلام وتاريخ المسلمين، واستشراف تجديدي لبعض قضايا أصول الفقه.
ويبدو جليّا أن الأستاذ يقطع مع القراءة التبسيطية التجزيئية للتاريخ، ويرفض النّظرة التقديسية للأشخاص، ويُحمّل رجالا مسؤولية ما جرى من انكسار في تاريخنا زمنَ الفتنة الكبرى وما تبعها من تدهور وانحطاط.
إنه كتاب منهج ومفاهيم، يُلحُّ على الوعي العميق بالانحراف الذي وقع، ويصرّ على ضرورة التفكير المنهاجي باعتباره “إيديولوجية” و “نظرية”.
فيه رفضٌ لطوق التقليد، مع احتفاء كبير بالمكاسب الثمينة التي أورثنا إيّاها السّلف. فيه دعوة للعودة إلى أعالي التاريخ، والجلوس بين يدي القرآن وتحت منبر النبوّة، وعدم التيه في مسالك التحليل المادية. فيه تخويف من التّفريط في عالم الإيمان بالغيب باعتباره من جملة أدوات التحليل الإيمانية للتاريخ والحاضر والمستقبل.
وفيه هجوم على أحد أشهر المثقفين العرب، وتحذير من فكره، وهو حسن حنفي، باعتباره نموذجا للمثقف الموسوعي الذي يُلبِّسُ على الناس، ويغالطُهم، ويعمل على استغلال “مخزونِهم النفسي ـ الديني” لأهداف تكشفُ نصوصُه الواردة في كتابه “التراث والتجديد” أنها ضد الدّين، ومشجّعة للمضيّ في الطّريق المعتّمة.
يعتبر الكتاب بحق أحد أهم كتابات الأستاذ التأسيسية رغم صغر حجمه، وقد فصّل رؤيته الواردة فيه في كتب أخرى، مثل: الخلافة والملك، ورجال القومة والإصلاح، وفصول من كتاباته الأخرى.
وفي هذه المرحلة، وبالضبط يوم 11 يونيو من عام 1989م، أجرى الأستاذان منير الركراكي وعبد الكريم العلمي حوارا شاملا مع الأستاذ ياسين، تطرّق فيه لقضايا كثيرة همّت جوانب شتى: تربوية وسياسية وفكرية وغيرها، وسيطبع هذا الحوار بعد خمس وعشرين سنة من إجرائه، أي عام 2014م، وهو حوار مهم جدا يبسّط ما يستغلق على قُرّاء كتبه، وهذا الهدف هو أحد أهم الأهداف التي تُتوخّى من وراء الحوار مع المفكرين وأصحاب المشاريع النّقدية ـ البنائية.
أضف تعليقك (0 )