post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

المعالم الكبرى لمدرسة المنهاج النبوي، الحلقة (5/11) 
 منهاج اقتحام العقبة وفك الرقبة 

<h2>تمهيد:</h2>
تناولت في الحلقة الماضية تأصيل مفهوم المنهاج النبوي، وما يحمله من دلالات علمية وعملية جعلته مفتاحا رئيسيا من مفاتيح الفهم والعمل الأساسية في المشروع التجديدي الذي طرحه الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين رحمه الله. وفي هذه الحلقة أتحدث بعون الله وتوفيقه عن عبارة &#8220;اقتحام العقبة&#8221; وهو مفهوم محوري آخر في مدرسة المنهاج النبوي أولاه فقيدنا رحمه الله العناية الكبرى من الدرس والشرح والتحليل لأهميته في تعزيز وتقوية العامل الذاتي- القوة الاقتحامية- لدى الحركة الإسلامية في مراحل الدعوة والتغيير والبناء. كما أن هناك مفهوما آخر يقوي العوامل الذاتية للكيان الجماعي ألا وهو مفهوم &#8220;القومة&#8221;. 

<h2>رأس المفاهيم المنهاجية: اقتحام العقبة</h2>
إن مركزية القرآن الكريم والسنة النبوية في المشروع التجديدي الشامل الذي اقترحه الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين رحمه الله متألقة في كل مؤلفاته. يقول مؤكدا هذا المعنى:&#8221; ونرجع للقرآن والسنة للاستدلال والاستشهاد فما لنا مرجع سواهما.)&#8221; [1] وفي موضع آخر يقول:&#8221; تنطلق خُطانا المنهاجية من قواعد الشِّرْعة، يستنير القلبُ بنورها، والعقل بعلمها، والنّظر بمفاهيمها، والإرادة بحافزها وداعيها وندائها، لنقتحم العقبة إلى الله عز وجل.)&#8221; [2] ولن يجد الباحث عنتا في إدراك ما توليه هذه المدرسة من أهمية قصوى لمسألة التأصيل. حسبنا أن نتأمل العبارات المنهاجية الأساسية التالية: الشورى والعدل والإحسان، القومة والتغيير والجهاد، الدعوة والدولة، الخلافة والملك، النداء والاستجابة، الرحمة والحكمة، الفتنة والجاهلية، الهجرة والنصرة ، الاستكبار والاستضعاف، الجهاد الآفاقي والأنفسي، العمران الأخوي &#8230; سأركز حديثي في هذه الفقرة على رأس المفاهيم المنهاجية &#8220;اقتحام العقبة&#8221; لأن هذه العبارة تلخص رسالة المنهاج وطبيعته، وتشير إلى معناه واتجاهه وغايته. هذا المفهوم المحوري هُدِي إليه أستاذنا رحمه الله أثناء تأملاته وقراءته العميقة لكتاب الله عز وجل، ووُفِّق لاستنباط معاني لطيفة في إطار التدبّر المنهاجي الذي سلكه في محاولة فهمه الواسع لدلالات جملة من آيات القرآن الكريم وسنة وسيرة سيد الخلق أجمعين صلوات الله وسلامه عليه. إن عبارة &#8220;اقتحام العقبة&#8221; المقتبسة من كتاب الله عز وجل وما يليها من آيات تحمل مضمون رسالة ما يريد الإمام المجدد رحمه الله تبليغه. [3] لنقرأ بعض تأملاته في هذه العبارة الجليلة في سياقها القرآني: 
 &#8221; فأول ما نفهمه من العبارة تحرك سالك إلى مسلوك إليه، صعدا وارتقاء. تقرّب العبد إلى ربه. فكل ما يصرف العبد عن هذه الوجهة، أو يعرقل هذه الحركة، أو ينسيها أثناء السير، أو يذيبها في الانتشار الفكري والشغل الجماعي، خطر يهدد عملنا بالسطحية، ثم بالغفلة، ثم بالانحراف)&#8220;.[4] كما يلاحظ بدقة أن &#8221; فعل الاقتحام سبق ذكر العقبة. يعني هذا كثيرا لعقول تربت على التفكير الجدلي المتحرك&#8230;. لكن جاء التأمل الثاني فإذا بالعبارة ترفع تلك الحركة الجدلية التافهة من حيث كانت متناقضات الطبيعة يحتك بعضها ببعض، ويصطدم بعضها ببعض، ويسابق بعضها بعضا، إلى حيث تكون الطبيعة، الطبيعة الكونية والطبيعة الإنسانية، عقبة يجب على الإنسان أن يقتحمها ليعرف مولاه وخالقه، وليرضى عنه، وليسعده السعادة الأبدية. &#8230; اقتحام العقبة إذن تحرك إرادي تتعرض له العقبة فتمانعه ويغالبها حتى يتم الاقتحام. حركة الفرد المؤمن في سلوكه إلى الله عز وجل، وحركة الجماعة المجاهدة في حركتها التغييرية، وحركة الأمة في مسيرتها التاريخية.)&#8221; [5] هذه العبارة المفتاح تجمل الفهم الشمولي الحركي للإسلام الذي تدعو إليه مدرسة المنهاج النبوي. يقول الإمام رحمه الله في هذا الصدد: &#8221; الإسلام، حين نفهمه حركة لاقتحام العقبة، نداء واستجابة، رحمة وحكمة، يكون هو المعرفة الشاملة، والمحرك، والقوة، والعلم، والقدرة التنفيذية في حركة الانبعاث والحياة، وفي مسار العبد من دنياه التي فيها معاشه إلى آخرته التي فيها معاده.)&#8221; [6] ويزيد توضيحا لطبيعة العقبة وطبيعة الاقتحام حين يقول:&#8221; العقبة طريق صاعد وعر، أوعر ما فيه العقبة النفسية التي تعالج بفضيلة الصبر، وخطوات الهوى والشيطان طريق منحدر سهل مفض إلى الهاوية مباشرة في السُّفل. ثم العقبة الخارجية الكونية وما تعج به من مغريات، وعدو متربص وخصوم وأصدقاء، وحاجات اقتصادية وصحية، وعوائق ترجع لتخلف المجتمع، وأخرى تنتج عنه وتتجدد. &#8230; اقتحامها جهاد وصعود وعر وضبط نفس وحملها على السير. اقتحامها صبر النفس بالمعنى الذي قرأناه. والوِجهة الله تعالى ورضاه، والجائزة الغرفة والتحية والسلام. والمعيار العقل والشرع. والشرع سبيل)ومنهاج.)&#8221; [7] ولكي تكتمل الصورة عن اجتهاد الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين رحمه الله في تقديم فهم واسع وشامل لهذه العبارة المفتاح وما جاء بعدها من آيات يحسن بنا أن نورد باقة من تأملاته تبيّن بوضوح مركزية القرآن الكريم في مدرسة المنهاج النبوي. 
 إن الباحث في مدرسة المنهاج النبوي ليجد كثيرا من لطائف التدبّر المنهاجي لجملة من آيات القرآن المجيد تعطي البرهان القاطع في اعتماد الأستاذ العلامة عبد السلام ياسين رحمه الله كتاب الله مصدرا رئيسيا لاجتهاده، ومرجعا مركزيا لتأملاته أثناء إعداد مشروعه في فقه التجديد والتغيير. ومن أبرز نماذج الفهم المنهاجي الواسع ما بسطه أستاذنا رحمه الله خلال حديثه عن سورة البلد في مختلف كتاباته خاصة ما تحمله عبارة اقتحام العقبة من لطائف المعاني وحسان المعارف. لقد تأمل هذه السورة الكريمة طويلا، واستخرج منها دروسا عظيمة وحكما بليغة أسوق بعضا منها فيما يلي:&#8221; ذكر الله سبحانه وتعالى الإنسان في سورة البلد المكية، وذكر تعبه في الدنيا مادام بعيدا عن ربه، وذكر نعمه عليه وما أودعه من طاقات، وما بعث إليه من رسل يهدونه، وما فطره عليه من استعداد. ثم خاطبه مخبرا محرضا : &#8220;فلا اقتحم العقبة !&#8221; لا هنا للنفي والاستنكار، فيكون المعنى: مع كل تلك النعم، ومع الهداية التي تخيره بين نجدي السعادة والشقاء لم يقتحم العقبة المؤدية لسعادته. أو تكون لا للعرض والتحريض فيكون المعنى: هلا اقتحم العقبة ؟ وبكلا المعنيين فهو نداء مؤكد من الله عز وجل للإنسان أن يسلك إلى ربه السبيل. إلى ماذا يشير لفظ النداء ؟ &#8230; ماذا تحمل العبارة &#8220;اقتحم العقبة&#8221; من مواصفات في &#8220;الذات&#8221; وفي &#8220;الموضوع&#8221; الذي هو الطريق؟)&#8220;.[8] ويتحدث عن كلمتي &#8220;اقتحام&#8221; و &#8220;عقبة&#8221; بحكم معرفته اللغوية العميقة، وقدرته التحليلية والتفسيرية العجيبة قائلا :&#8221; فها هي الألفاظ تعطينا دلالة على أن الاقتحام دخول شجاع في شدائد، على أنه منابذة للخوف، بل هجوم على ما يخيف الجبناء، وعلى أن الطريق صاعدة لكن في وعورة. بعبارة أخرى فإن العبارة تصور لنا الخصال النفسية القلبية العقلية عند المدعوين للاقتحام كما تصور طبيعة المسلك الموضوعية. وهي قبل كل شيء دعوة صادرة من اللّه عز وجل، فالاستجابة لا تتخذ معناها من خصال المقتحم ولا من وعورة المسلك، لكن من كونها تلبية لنداء الحق.)&#8221; [9] تأمل الالتفاتة اللطيفة في العبارة الأخيرة التي استنتجها الإمام من عبارة &#8220;اقتحام العقبة&#8221; لتتأكد أنك أمام عالم راسخ في الربانية والتزكية، وخبير محنك في اللغة ودلالاتها، ومنظّر يمتلك النظر الشمولي الجامع ويوظفه عند تناوله وتأصيله لقضايا التجديد والتغيير والبناء. يشرح أستاذنا رحمه الله النجدين الواردين في سورة البلد قائلا:&#8221; نجد أن النجدين الذين هدى اللّه تعالى إليهما الإنسان عقبتان : إحداهما تؤديه بعد الكدح والكبد والتعب في دنياه إلى الشقاء الأبدي في الدار الآخرة. والأخرى، وهي التي عظم اللّه شأنها وشوق إلى معرفتها في قوله : ﴿وما أدراك ما العقبة﴾ هي التي يقتحمها المؤمن اقتحاما، فينال بعمله الصالح ذاك سعادة الدارين.)&#8221; [10] ويتساءل مبرزا بعض ملامح منهاجه في التعامل مع آيات الكتاب العزيز:&#8221; أي شيء يمنعنا أن نفهم عن اللّه عز وجل ما وراء الأحكام التفصيلية، ما يجمع تلك الأحكام وما يربطها وما يكون منها معرفة شمولية للإنسان وسلوكه عبر العوائق والحواجز التي تعترض صعوده في معارج الإيمان؟)&#8221; [11] يقصد هنا الأحكام الفقهية الجزئية العينية التي فسرت وأدرجت فك الرقاب في باب الكفّارات وإطعام الطعام في باب الصدقات وانضمام المؤمن للجماعة في باب الوعظ والرقائق. وفي هذا الباب يقدّم فهمه الواسع للشروط الثلاثة التي يجب استيفاؤها فيمن يقتحم العقبة قائلا :&#8221; فك الرقبة تحرير الإنسان من العبودية لغير اللّه عز وجل، إطعام اليتيم والمسكين، تحرير لطاقاته لينتج ما به يستطيع أن يطعم المعوزين ابتداء من إطعام نفسه، الكينونة مع الذين آمنوا تحرير للإنسان المؤمن الفرد من العزلة والخمول والانفراد، وإدماج له في الجماعة ليتحزب لله عز وجل. ثلاث مجالات : المجال النفسي، والمجال الاقتصادي، والمجال السياسي.)&#8221; [12] ويستدرك رحمه الله عندما يقول: &#8221; ليس ما نحن بصدده تأويلا لكتاب اللّه عز وجل، فلا نقاش في أن فك الرقبة المؤمنة في الكفّارات وغيرها قربة، والصدقة على اليتيم والمسكين عمل صالح، وصحبة المؤمنين ومشاركتهم في الحق والصبر انضمام للجماعة مأمور به. الأحكام التفصيلية باقية على وجهها، أما الفقه الأوسع والتدبر المنهاجي فيبسط أمامنا الفهم الشمولي لأهمية التحريض الإلهي على الاقتحام، ولخطورة العقبة التي بينتها الآيات الكريمة. تحريض ملح وخطورة بالغة بالنسبة للإنسان ومصيره لا يتناسبان مع مجرد تحرير رقبة وإطعام جائع وانضمام مؤمن، ولا ينتهيان فيها، ولا يتحقق الاقتحام بها مادامت أفعالا فردية متناثرة، مادامت لم تدخل في نظام محكم يتحرر فيه الإنسان وتتحرر فيه الأمة من كل عبودية لغير اللّه، من العبودية للناس، ومن العجز أمام الطبيعة، ومن الانفراد وغياب الجماعة.)&#8221; [13] في هذا النص الأخير يكشف الغطاء عن اجتهاده المجدد، ومنهاجه الجامع في معالجة قضايا التحرير والعدل والسيادة. 
 كما يبيّن الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين رحمه الله منهجه في التعامل مع القرآن الكريم قائلا:&#8221; أما من يتخذ القرآن إماما ليبصر المنهاج الكلي فلا يسعه ما يسع الفقيه، لا يسعه أن يقف عند ذلك التصنيف. وإلا ضاعت من أمامه معاني النداء والاستجابة والعقبة والاقتحام.)&#8221; [14] لقد تأمل رحمه الله العقبة في ظل التدبر المنهاجي لهذه السورة العظيمة من جانب العوائق والموانع خارج الإنسان وفي باطنه، أي فتنة الشيطان والإنسان والسلطان، بعد أن تناولها من جانب الحوافز المصيرية والدوافع، وختم شرحه بقوله: &#8221; بعد أن ذكر اللّه عز وجل في سورة البلد الثلاثة الشروط التي يقتضي الوفاء بها اقتحام العقبة قال: ﴿أولئك أصحاب الميمنة﴾. ففك الرقاب وإطعام الطعام، والكينونة مع المؤمنين أفعال مُرضية، أعمال صالحة تؤدي إلى الحشر في أصحاب الميمنة. يعني هذا أن مجال الحرية ليس الدنيا الفانية وانتهى كل شيء. الحرية الفردية، والإنتاج والتوزيع الاقتصاديان، والتحزب السياسي مع المؤمنين، أفعال لا تُقصد لذاتها، ولا لهدف حضاري أرضي. إنما تكسب معناها وشرفها لما تؤدي إليه من مصير بعد الموت.&#8221; [15] درس تربوي عميق يبرز إلحاحه الفريد رحمه الله على معرفة الله جل وعلا، والتذكير بالموت، والاستعداد لما بعد الموت والتهيئ للقاء الله عز وجل. 

<h2>خاتمة ودعوة</h2>
أرجو أن أكون في هذه الإطلالة قد وفقت لتبيان محورية القرآن الكريم في مدرسة المنهاج النبوي من خلال ما أوردت من تأملات الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله في سورة البلد. أدعو الباحثين في الدراسات القرآنية والمهتمين بعلوم التفسير أن يشمروا عن ساعد الجد لينقبوا في تراث هذه المدرسة عن الدروس العميقة، والفوائد الجمة، والعبر الجليلة التي استخرجها هذا الرجل العظيم أثناء حياته الطويلة تحت ظلال القرآن الكريم، ويوثقوها قصد التذكير بها والعمل على إحياء معانيها في النفوس والعقول والسلوك. 
 ظهر الخميس 23 جمادى الأولى 1434هـ 
 الموافق ل 4 أبريل 2013م 
 جدة/ الحجاز 
 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 
 ياسين، عبد السلام، القرآن والنبوة، دار لبنان للطباعة والنشر، ط 1 ، 2010م ، 101.[1] 
 ياسين، عبد السلام، العدل: الإسلاميون والحكم، موسوعة سراج، ط 1، 2000م، 27. [2] 
 سورة البلد: 3-18 .[3] 
 ياسين، عبد السلام، مقدمات في المنهاج ، موسوعة سراج، ط 1، 1989م، 50-51. [4] 
 نفس المصدر، 15-16.[5] 
 ياسين، عبد السلام، مقدمات في المنهاج، 20. [6] 
 [7]ياسين، عبد السلام، تنوير المؤمنات ، موسوعة سراج ، ط1، 1996م، 1/18. 
 ياسين، عبد السلام، مقدمات في المنهاج، 53. [8] 
 ياسين، عبد السلام، مقدمات في المنهاج، 54. [9] 
 نفس المصدر، 55. [10] 
 نفس المصدر، 56-57. [11] 
 نفس المصدر، 57. [12] 
 ياسين، عبد السلام، مقدمات في المنهاج، 57-58. [13] 
 نفس المصدر، 58. [14] 
 نفس المصدر، 62-63. [15]

منهاج اقتحام العقبة وفك الرقبة

صورة تخيلية للإمام الغزالي بالذكاء الاصطناعي

الإمام الغزالي: المنقذ من ضلال السفسطة

معالم منهجية في قراءة كتب الإمام

الإمام الغزالي بيداغوجيا : تعريف وملاحظة وتمرين

قضايا فكرية

منهاج اقتحام العقبة وفك الرقبة

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

المنهاج النبوي وبعض قضايا الساعة

المنهاج النبوي والتيارات الفكرية المعاصرة

مطالب المنهاج النبوي

إمام ورسالة

قيادة ومنهاج

وظائف ومقاصد المنهاج النبوي

مقالات ذات صلة