post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

<p>ما أتذكره عن نفسي يومها أني كنت يافعاً تلتحفني نحافة جسم، ومن أول نظرة تخالني العين كالقشة في مهب الريح، وأحسب الشوق مرفرفاً في جوفي كما جسمي! وهو وإن كنت أعرف أنه نحيف المظهر، كنت أعلم علم اليقين &#8211; بناءا على ما قرأت وما نفد إلى سمعي عنه وهو قليل من كثير- أن قوة المخبر أرست الجسم النحيف للرجل على قوائم الحق، لا يهتز ولا يفتر، ولا يفتك بها إغراء أو إطراء، ولا يستميل قوامه ترغيب أو ترهيب. كلماته الخافتة كنوتة الموسيقى في سرق السمع، قوة شخصيته كالركن الشديد الذي يأوي إليه من ألم به ضعف همة ليقويها، أو انكسار عزيمة ليجبرها، أو خيانة أمر يرجو سداده. هو اللبيب في الفكرة، والطبيب في التطبيب، واللغوي الأديب، والعالم الخبير بالدواليب، والسياسي ذو الاستشراف الثاقب. يحدثك عن التاريخ بالتفصيل، وعن الحاضر بعين أخرى، وعن المستقبل كما لو جاء من زمن قادم. كامل الفهم واسعه، طيب القلب يأسر به، وفوق كل هذا يدلك على قاضي الحاجات إن كانت لك عند الله حاجة. إذا تكلم خرجت الألفاظ مذكرة بالله، وإذا أشار أغنت الإشارات عن العبارات، وإذا لاحظ بعينه كانت النظرة رحيمةً ما لم تنتهك حرمة من حرمات الله. أناقة لباسه كأناقة كلامه، ولباقة كلامه كانتظام عقيق عقد لا تنفرط عقده، ومعنى كلماته كأريج يفوح، وفي فوحه وبوحه يربط همتك وطلبك وكلك وشغلك بالله الذي إليه نسير وإليه المصير. تنسل كلماته من شفتيه بالقدر الذي يرويك، وتتسلل إلى السمع بالطريقة التي تغير حلكة حالك، وتستثير همتك لأعز ما يطلب، وتحبب الخالق والعالمين إليك، وتحبب الخالق والخلائق فيك؛ فتخرج من مجلسه شخصاً غير الذي كنت، وبهمةٍ لم تملكها يوماً، وبقلب لا يسكنه غير الله. بين ثنايا جلبابه تسكن المهابة والوقار، تلازمه الهيبة كما الردينا، ويزيد من إشراق وجهه إشراقة ابتسامة لا تفارق محياه، وما خفي من الأسرار لا تدركه بصيرتي، ولا تبلغه سريرتي لأتحدث عنه في هذا المقام! كلماته آيات قران تتلى، أو سنن من كلم المصطفى، وإن كان غير ذلك، فتقييد مجمل أو تحديد مطلق، أو إشارة تغيب عن الفهم القاصر عن بلوغ شرعة المنهاج .. وكل هذا شرح بالنص للنص، وبأسلوبٍ لا يزيغ عن نبع القرآن والسنة. كانت أول مرة أراه في لقاء للنجباء، وكنت يومها تلميذاً بورزازات، ولأن سكنه بسلا؛ تحتم علي أن أسافر، فكان السفر سفرين .. وشخصيتي وقتئذ رغم هدوءٍ نسبي يشوب جسمي في حركاته وسكناته، ورزانة تكتنف كلماتي إذا تكلمت، إلا أنني أعترف أن فكري لم يهدأ يومها حيناً من الدهر، فكانت الأسئلة تجول في منطقي حول شخصه ونهجه وجماعته وأفكاره وكل ما يمت له بالصلة نائياً كان أو قريباً، بل مراتٍ أسبر الأغوار لأحلل في الذوق والهندام وخبايا الكلمات &#8230;، ولست يومها أعرف الباعث على هذا النهم! كل ما ذكرت وأشياء أخرى رافقتني وأنا في طريقي لزيارته لم تعمر طويلاً، ولم تدم حيرتي بعد أن جاد القدر بالرؤية، لأن شعلة أفكارٍ تصول وتجولُ في خلدي أطفأتها هيبته قبل أن يتكلم، وقلبت من جاء ليمحص ويتحسس من دركات إلى درجات. ومن ظن إلى يقين، ومن فوضى قلب إلى سكينة رهيبة لا أفتأ أذكرها، ولا تزال ترتج لها أوصالي كلما تذكرت هذا اليوم المشهود. من حسنات هذا اليوم أن كان في رمضان، فازدان اللقاء بروحانية الشهر، وأتذكر &#8211; كما حاله في كل مجلس &#8211; أنه ذكرنا بحفظ القرآن والإلمام بعلومه، وبعدها رافقنا إلى الهم الأكبر، واعظا كالذي يذكر، وآمراً كالمستشير، وبعبارة حانية وإشارة لطيفة؛ يحدثنا عن سبب وجودنا فوق قنطرة الحياة ومغزى عبورنا عليها إلى الدار الأخرى. ذكرنا أن الزرع زرع الزارع، إن كفر خيراً حصد خيراً، وإن كان الزرع غير ذلك فالمآل رهيب إلا أن تتدارك الإنسانَ رحمةُ الله. لم يدم اللقاء طويلاً؛ لكن كان كفيلاً ليخمد ناراً تتأجج في جوفي، وعدت بعد اللقاء أدراجي حامداً شاكراً، وفهمت من الأمر أن النجابة الحقة غير ما نفذ إلى ذهني يوماً بين فصول الدرس، وأن النجاح لا ينحصر في معدلٍ أحصلُ عليه، وأن الامتحانَ الذي يراهن عليه المرء هو ذاك الذي يكون بين يدي رب العباد! أيها المرشد الحبيب! تذكرت لحظةً رأتك فيها عيني فرأتِ الخير، ولحظة ميلادٍ كان الاستهلال فيها توبة، فكتبت عن اللقاء لا عنك! أيها الحبيب في مثواه، أفضالك في حياتك لا تتوارى، وأفضالك في حياتنا بعد رحيلك لا تزال تترى فينا وتتوالى! لم ننسك ولن ننساك حتى نظفر بلقياك! رحمات الله الواسعات عليك أيها المرشد الحبيب كلما تعاقب الليل والنهار، وجزاك الله عنا خير جزاء أنت أهله، ولتكن خير صدقةٍ جاريةٍ منا لك حسناتُنا في صحيفتك، وجعلنا الله من أجيال الخلافة البانية، وقدراً من أقدارها، وقدرنا على العبور من دنيا التمحيص بسلام!</p>


التزكية والدعوة

ومضاتٍ من أول لقاءٍ

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

ومضاتٍ من أول لقاءٍ

مقالات ذات صلة