أبواب الخير في رمضان 2/2
6. البذل والبر والمواساة
روى البخاري رحمه الله في كتاب بدء الوحي من كتابه الصحيح وصف أمنا خديجة رضي الله عنها للحبيب المصطفى ﷺ في فزعه حين أول لقائه بجبريل عليهم السلام، فقالت مثبتة مواسية: “كَلّا واللَّهِ ما يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا، إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوائِبِ الحَقِّ”[1]. وروى عن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنه، قوله: كانَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ أجْوَدَ النَّاسِ، وكانَ أجْوَدُ ما يَكونُ في رَمَضانَ حِينَ يَلْقاهُ جِبْرِيلُ، وكانَ يَلْقاهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِن رَمَضانَ فيُدارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسولُ اللَّهِ ﷺ أجْوَدُ بالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ”[2].
كانت تلك صفاته ﷺ قبل البعثة الشريفة، وإلى تلك الفضائل وجه أصحابه الكرام وعليها حث إخوانه من بعده، دلنا على بذل الخير كله وإعانة ذي الحاجة الملهوف وتفريج كربة المعسر وإعطاء الصدقات للمحتاجين والزكاة لأهلها.
فيسعى المؤمن إلى قضاء حوائج الناس ومواساتهم وبذل المستطاع في تفريج كربهم، التزاما بمقتضيات الأخوة الإيمانية والرحم الإنسانية؛ فإن رسول الله ﷺ قال: “المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ ولَا يُسْلِمُهُ، ومَن كانَ في حَاجَةِ أخِيهِ كانَ اللَّهُ في حَاجَتِهِ، ومَن فَرَّجَ عن مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عنْه كُرْبَةً مِن كُرُبَاتِ يَومِ القِيَامَةِ، ومَن سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَومَ القِيَامَةِ”[3].
يفيض الخير من يدي المؤمن والمؤمنة لما يعلمان من فضل تعاونهم على بذل الخير للخلق جميعا والاجتماع على البر بكل محتاج؛ فـ”على أركان البر، لا على بنود القانون يتأسس التكافل الاجتماعي في المجتمع الإسلامي الأخوي، وفي تعامل المسلمين مع الناس أجمعين، إذ لا حدود للبر تحبِسهُ عن الوفاء بحق الضعيف والمحتاج من إنسان وطير ودابة”[4].
7. الجهاد والدعوة إلى الله تعالى
شهر رمضان شهر الجهاد والفتح المبين؛ ففي السنة الثانية للهجرة كانت غزوة بدر الكبرى، وفي السنة الثامنة كان فتح مكة المكرمة، وكان فتح الأندلس في رمضان سنة 92 للهجرة، وفي سنة 583 للهجرة وقعت معركة حطين العظيمة بين الصليبيين المحتلين، وجيوش المسلمين بقيادة الناصر صلاح الدين الأيوبي رحمه الله… وغيرها من فتوح المسلمين وأيامهم.
لم يكن الجهاد مقتصرا على جهاد السيف والفتوح الجغرافية وكفى، بل جهاد بناء للإنسان والعمران. حتى تتسع رؤيتنا لمعنى الجهاد وذلك ما ألمع الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله إليه بقوله: و”أما جهاد البناء فمطاولة تنْقُضُ معاقل الكفر وصروحَ الباطل في الديار لتبني جيلا وعقلية، وإيمانا، ونمط حياة، ومقوِّمات حياة. «وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور». «والآخرة خير وأبقى». «والله خير وأبقى». وما مطلب الآخرة ومطلب وجه الله بالتي تُنال على الهوان والمسكنة والدروشة ومهادنة الباطل”[5].
وقد كان شهر رمضان عند الحبيب المصطفى ﷺ شهر جهاد قول وفعل ودعوة إلى سبيل الله وحده، وكذلك كان عند أصحابه والتابعين من بعده رضي الله عنهم أجمعين؛ فكانوا حريصين أشد الحرص على إبلاغ كلمة الله تعالى خالصة للناس أجمعين، وأعظم به من أجر تناله إن دعوت إنسانا إلى حضرة ربه ومستقر رحمته؛ فعن سيدنا سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه عن سيدنا رسول الله ﷺ قال: “واللَّهِ لأن يُهْدى بِهُداكَ رجلٌ واحدٌ خيرٌ لَكَ من حُمرِ النَّعمِ”[6].
8. دعوة الصائم مستجابة
يصوم العبد والأمة طاعة لربهما عز وجل وتقربا، لا يبتغيان بذلك إلا رضاه والزلفى عنده. فلما سبقت عنايته تعالى لعباده المخلصين هداهم إلى سبل التقرب إليه ونيل رضاه، ولما أراد بعباده خيرا خلق فيهم الاستعداد لتلقي جزيل العطايا، فكان الدعاء بين يديه والاضطرار إليه خير المطايا. و«مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ»[7]. نعوذ بالله من غضبه.
وهاك بشارة ربانية للصائمين والصائمات باستجابة الدعوة وتلقي الله عز وجل لها بالقبول الحسن، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ، وَالإِمَامُ العَادِلُ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ يَرْفَعُهَا اللَّهُ فَوْقَ الغَمَامِ، وَيَفْتَحُ لَهَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ: «وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ»»[8].
9. شهر الرباط والاعتكاف
الصوم في اللغة الكف والإمساك والامتناع. ومن معانيه كف الجوارح عن إتيان ما يفسد طهارة الصيام وروحانيته، ولزوم فقه الأولويات طلبا لبلوغ مرتبة العبدية الممحضة لله عز وجل، بدءا بالفرائض فالنوافل فمستحبات الأعمال ومباحاتها.
وإن من الناس من “يحسب أن مقامات الإحسان يتبوؤها المرء قفزا، كلا والله ما يكون إناؤك إلا مثقوبا لا يمسك قطرة، مثلوما لا يبهج نظرة، إن فرطت فيما فرضه الله عليك من عبادات فردية، وقصرت في فرض الصلاة-الصبح في المسجد-ونفلها، وفرض الذكْر ونفله. ونتحدث بعد ذلك-وبعد ذلك فقط-عن السعي الجهادي والعمل داخل الصف، وسائر شعب الإيمان والجهاد”[9].
ولنا في رسول الله ﷺ الأسوة الكاملة فقد كان يداوم على المرابطة في شهر رمضان واعتكاف العشر الأواخر منه، وروي عن أمنا الطاهرة عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ»[10].
قال الإمام رحمه الله مذكرا من أصحابه من ادكر، ومنبِّها من تاب من قريب فاستغفر:
10. رمضان لما بعده
يفرح المؤمنون والمؤمنات في شهر الله الكريم بما يرون من إقبال عباد الله على المساجد وإسعاف الملهوفين وإغاثة المحتاجين، ولما يلمسون من نسائم الهداية لما خفت أرواحهم للعبادة ونشطت.
وما ذلك إلا لآثار الصوم فيهم ومزايلة أرواحهم لقاذورات الشهوات؛ فإن “للصوم زيادة على أثره التربوي فضل في رفع الروحانية وتصفيتها، فهو إمساك الجسم والنفس عن مبتغاهما. وتزكية نية القربة إلى الله، فتكتسب الروحانية شفافية. إن هذه النفوس أقرب ما تكون للالتئام والتحاب والتعاون إن تهذبت من كدورات الشهوات، وسمت عن الماديات. في رمضان تسود روحانية خاصة لولا تحويل الناس لياليه مناسبات للتخمة والعبث “[13].
من أجل ذلك يهيب الإمام رحمه الله بكل مؤمن ومؤمن أن يلزموا روحانية شهر رمضان، وحري بمن ذاق وعرف أن يغترف من حوض الكرم الإلهي والفيض الرحماني، فسعى المؤمنون إلى “أن يحافظوا للشهر المبارك بوظيفته، ويستمروا السنة كلها إن استطاعوا على ذلك المستوى من الشفافية، مستعينين بصوم الاثنين والخميس، والأيام البيض، ويوم عرفة لغير الحاج، ويوم عاشوراء، والستة من الشوال، ويكثروا الصيام في شعبان والمحرم. وعليهم أن يغنموا يوما في الأسبوع في الأسر للإفطار المشترك رجاء أن يجمع الله شملهم عنده في مقعد الصدق، يفرحون عنده كما يفرحون بالفطر جماعة”[14].
جعلنا الله وإياكم ممن عرف لهذا الشهر الكريم حرمته، وطرق أبواب الخير فيه كلها، عسى أن نكون من عتقائه وأهل بشارته، الفرحين بما أعده الله للمخلصين المصطفين من أهل طاعته ومحبته وتقواه.
[1] . صحيح البخاري، رقم: 6.
[2] . صحيح البخاري، رقم: 6.
[3] . صحيح البخاري، رقم: 2442.
[4] . ياسين، عبد السلام (2018) الإحسان (ط. 2). ج1، بيروت: دار لبنان للطباعة والنشر. ص. 392.
[5] . ياسين، عبد السلام (2001) رسالة تذكير (ط. 1). الدار البيضاء: مطبوعات الأفق. ص. 26-27.
[6] . صحيح أبي داود، رقم: 3661
[7] . صحيح البخاري، رقم: 658.
[8] . سنن الترمذي، رقم: 3598.
[9] . مقتطف من رسالة الإمام عبد السلام ياسين لمجالس النصيحة.
[10] . صحيح البخاري، رقم: 2026
[11] . وصيتي، (2013) وصية الإمام عبد السلام ياسين، ص 29.
[12] . ديوان البوصيري (2002)، تع: محمد ألتونجي، ط1، بيروت: دار الجيل، ص 48.
[13] . ياسين، عبد السلام (2022) المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا (ط. 5). إستانبول: دار إقدام للطباعة والنشر. ص. 324.
[14] . المصدر نفسه والصفحة.
أضف تعليقك (0 )