مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسينمدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين
مدرسة الإمام المجدد
عبد السلام ياسين

التزكية والدعوة

أهلا رمضان

0
أهلا رمضان

جاءنا رمضان المطهر، شهر الخير والعطاء والإقبال على الكريم الوهاب، موسم الخير والمكرمات الربانية، لنا في كل وقت من أوقات ليله ونهاره مغنم، ليله ليل القائمين والمتهجدين التائبين المنكسرين بين يدي رب غفور رحيم، ونهاره ميدان ذكر الصائمين الواقفين عند حدود مولاهم عز وجل.

وأساس مبدأ الإقبال على كل عمل استحضار النيات العظيمة وتجديدها، فإنما تعظم الأعمال بعظم النية المستودعة في القلب، والإخلاص لله عز وجل وإرادة وجهه الكريم سبحانه. وقد كان الصالحون رضي الله عنهم يضربون أكباد الإبل بحثا عمن يعلمهم «حسن النية»، حتى تصح لهم بدايات السلوك إلى الله عز وجل. و«إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ -وَفِي رِوَايَةٍ بِالنِّيَّاتِ- وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»[1]، فليس للمرء من العمل إلا بقدر نيته فيه.

في ليلة النصف من شعبان ترفع أعمال العباد إلى الله تعالى، وفي شهر رمضان تكتب أولى صفحات العام الجديد، فيجتهد المؤمنون لتكون بداية عامهم منصرفة إلى الإقبال على الله عز وجل سعيا للخلاص الفردي، واستمطارا لفضل الله عسى أن يكون رمضان لهذا العام شهر فتح وتحقيق لموعود الله لعباده بالنصر والتمكين.  

وانظر رعاك الله إلى قول الشاعر رحمه الله حين يستحثك على اغتنام شهر الخير:

هَذا هِلالُ الصَّومِ مِنْ رَمَضانِ

  بِالأُفقِ بَانَ فَلا تَكُن بِالوَانِي

وَافَاكَ ضَيفاً فَالتَزِم تَعظِيمَهُ

  وَاجعَل قِراهُ قِراءَةَ القُرآنِ

صُمْهُ وَصُنْهُ وَاغتَنِم أَيَّامَهُ

  وَاجبُر ذِما الضُّعفَاءِ بِالإِحسانِ

وَاغسِلْ بِهِ خَطَّ الخَطايَا جَاهِداً

  بِهُمولِ وَابِلِ دَمعِكَ الهَتَّانِ[2]

وللشهر الكريم خصوصية تربوية متفردة؛ إذ تتخلص الروح من قيود الوسوسة الشيطانية، يتقي بها المؤمن ما تموج به شوارعنا ونوادينا من فتن منظورة ومسموعة. فـ «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، وَعَرَفَ حُدُودَهُ، وَتَحَفَّظَ مِمَّا كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَفَّظَ فِيهِ، كَفَّرَ مَا قَبْلَهُ»[3]. وبهذا كان من اليسير الإقبال على العبادة والتقرب من الله عز وجل بصياغة برنامج يومي، يتعاون فيه أهل البيت في غير تراخ ولا إجبار، واللين بلسم القلوب المتراخية والكلمة الطيبة مفتاح لكل خير.

شهر رمضان شهر كريم بما حباه الله به من مكرمات أعلاها نزول القرآن، واشتماله ليلة القدر التي خير من ألف شهر، فهو فصٌ يزين الدهر كما تزين الحلي الجواهر النفيسة، شهر” رمضان شهر البركات والخيرات والتوبة وتجديد الصلح مع الله وطلب غفرانه وإحسانه وعِتْق رِقابنا من النار. شهر يفطِم الجسمَ عن طبعه من شهوة الطعام، وحاجة الشراب، ولذة الجسد، لتعرف المسلمة الجوع والعطش ولتتعلم ضبط نفسها وإلجامَ هواها. ولتتحكم في أوصافها الحيوانية لتسمُوَ الروح وتتطهر، ولتتدرب المؤمنة على تغليب الأوصاف الملائكية مستقلة عن جاذبية الطين”[4].

بالصوم تتخلص الروح من شوائب الدنيا، وتقبل على الآخرة والتقرب من المولى الكريم، بالكف عن الماديات الممنوعة شرعا، وضبط الجوارح عن الخوض في المحارم من سمع وبصر ولسان، بكفها عن الأذى النفسي وعن الناس جميعا. حتى يصفو القلب ويقبل على مولاه، فيتخلى عن الأكدار ويتحلى بمعاني القرب من الله ورسوله مع جماعة المؤمنين.

من أجل ذلك، كان الصيام خير الأعمال وأقربها لتحقيق العبودية لله، وكان العبادة الوحيدة التي جعلها الله بينه وبين عبده خالصة، فالصوم منوط به سبحانه وهو يجزي به. فورد الحديث القدسي على لسان الحبيب المصطفى ﷺ قال: «يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَأَكْلَهُ وَشُرْبَهُ مِنْ أَجْلِي، وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ فَرْحَةٌ حِينَ يُفْطِرُ، وَفَرْحَةٌ حِينَ يَلْقَى رَبَّهُ، وَلَخُلُوفُ فِيهِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ»[5].

يتوجه الصائم إلى ربه الكريم في كل لحظة من يوم رمضان وليله، وعند إفطاره خاصة، بالدعاء طلبا لقضاء بعض حوائج الدنيا وإلحاحا في طلب وجهه الكريم سبحانه. وخير مطايا الدعاء الأنين.  معية الله عز وجل تنال بالانكسار بين يديه دعاءً وفي الذكر، و “ليس الدعاء شيئا آخر غير الذكر، بل هو الذكر في أكثر حالات العبد حضورا مع الله عز وجل بالحاجة والندم والاضطرار والرجاء والخوف. وإن الله عز وجل لا يقبل دعاء الغافلين”[6].

مداومة على أعمال الخير وسلوك سبيل الصالحين صياما وقياما وحضورا مع الله عز وجل، كل ذلك تعين عليه الأجواء العامة التي يشيعها الشهر الكريم بين الناس، غير أن الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله ينبه إلى بعض المحاذير التي قد تعتري المرء عقب انصرام شهر رمضان، فيحصل له التراخي في الإقبال على الله تعالى، بقوله:

أتى رمضانُ الخيِر فارْتَدْتَ مسجدا

  فلما تولى صرت عنه تَنَكَّبُّ

ونمْتَ عن الفجرِ الكريم شُهُودُهُ

  وما جئتَ تبغي صَفَّنَا حين تغْرُبُ

وما جعل الله الكريمُ ليالياً

  وأيامَ فضْلٍ عندها النور يُسكَبُ

سوى غُرَّةٍ وَسْطِ الزَّمان تُمِدُّنا

  بعزْمٍ به همَّاتُنَا تتوثَّبُ

فَننْبِذُ أسبابَ الوَنَى وتكاسلاً

  ونَعْبُدُ طول العُمْرِ والأجرَ نكْسِبُ[7]


[1] . عبد السلام ياسين، كتاب شعب الإيمان، ج1، ص: 311، الحديث رقم: 1002.

[2] . قطوف، ج2، وجدة: مطبوعات الهلال، 2002، ص: 28.

[3] . شعب الإيمان، 2/267، الحديث رقم: 1988.

[4] . عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، ج2، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، الطبعة 2، 1996، ص: 355.

[5] . شعب الإيمان، 2/265، الحديث رقم: 1981.

[6] . ياسين، عبد السلام (2018) الإحسان (ط. 2). ج1، بيروت: دار لبنان للطباعة والنشر. ص. 247.

[7] . ديوان ابن الصباغ الجذامي، تح: محد زكريا عناني وأنور السنوسي، القاهرة: دار الأمين، 1999م، ط1، ص: 53.

أضف تعليقك (0 )



















يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لضمان حصولك على أفضل تجربة ممكنة. تعرف على المزيد