مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسينمدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين
مدرسة الإمام المجدد
عبد السلام ياسين

التزكية والدعوة

الوضوء: فضله وكيفيته وروحه

2
الوضوء: فضله وكيفيته وروحه

ما الوضوء؟

جاء في لسان العرب: “الوَضُوءُ، بِالْفَتْحِ: الْمَاءُ الَّذِي يُتَوَضَّأُ بِهِ، والوُضُوءُ هُوَ الفعلُ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الوُضُوءُ: مَصْدَرٌ، والوَضُوءُ: مَا يُتَوَضَّأُ بِهِ، والسُّحُورُ: مَصْدَرٌ، والسَّحُورُ: مَا يُتَسَحَّر بِهِ. وأَصل الْكَلِمَةِ مِنَ الوضاءَة وَهِيَ الحُسْنُ والنَّظافةُ. والمِيضَأَةُ: الْمَوْضِعُ الَّذِي يُتَوَضَّأُ فِيهِ”[1].

الوضوء وَضاءة وحُسن ونَظافة

وقد فصّل علماؤنا السابقون رحمهم الله في مشروعية الوضوء بما هو طهارة، واجتهدوا في التوفيق بين النظر في إقامة الدليل على وجوب الوضوء ومقاصده الشرعية، فإذا كانت الصلاة -وهي عماد الدين- لا تقبل إلا به، كان الوضوء واجبا لكونه شرط وجوبها. وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

قال ابن عاشر رحمه الله:

شَرْطُهَا الِاسْتقْبَالُ طُهْرُ الْخَبَثِوَسَتْرُ عَوْرَةٍ وَطُهْرُ الْحَدَثِ

ولخص بعض علمائنا المعاصرين أدلة مشروعية الوضوء من كتب السلف، وبينوا أن   “الوضوء معروف من أنه: طهارة مائية تتعلق بالوجه واليدين والرأس والرجلين، […] ثبتت مشروعيته بأدلة ثلاثة: (الدليل الاول) الكتاب الكريم، قال الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قُمۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغۡسِلُواْ وُجُوهَكُمۡ وَأَيۡدِيَكُمۡ إِلَى ٱلۡمَرَافِقِ وَٱمۡسَحُواْ بِرُءُوسِكُمۡ وَأَرۡجُلَكُمۡ إِلَى ٱلۡكَعۡبَيۡنِۚ﴾. [المائدة: 6]. (الدليل الثاني) السنة، روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: “لَا يَقبَلُ اللهُ صَلَاةَ أَحَدِكُم إِذَا أَحدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ”. رواه الشيخان وأبو داود والترمذي. (الدليل الثالث) الاجماع، انعقد إجماع المسلمين على مشروعية الوضوء من لدن رسول الله ﷺ إلى يومنا هذا، فصار معلوماً من الدين بالضرورة”[2].

فضل الوضوء وإسباغه

ندبنا رسول الله ﷺ إلى طلب معالي الأمور وترك سَفسافها، ورفع الهمة إلى طلب الآخرة وطلب القرب من الله تعالى، والطهارة لازم القرب من تلك الحضرة الشريفة، طهارة المظهر والمخبر. و “إنَّ اللَّهَ طيِّبٌ لا يقبلُ إلَّا طيِّبًا”[3].

وقد بينت أحاديث نبوية كثيرة فضل الوضوء، وما يناله به المؤمن والمؤمنة من عظيم الأجر والخير والبركة. فعن أبي أُمامة رضي اللّه عنه أنّ رسول الله ﷺ قال: «أَيُّمَا رَجُلٍ قَامَ إِلَى وَضُوئِهِ يُرِيدُ الصَّلَاةَ، ثُمَّ غَسَلَ كَفَّيْهِ، نَزَلَتْ خَطِيئَتُهُ مِنْ كَفَّيْهِ مَعَ أَوَّلِ قَطْرَةٍ، فَإِذَا مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ نَزَلَتْ خَطِيئَتُهُ مِنْ لِسَانِهِ وَشَفَتَيْهِ مَعَ أَوَّلِ قَطْرَةٍ، فَإِذَا غَسَلَ وَجْهَهُ نَزَلَتْ خَطِيئَتُهُ مِنْ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ مَعَ أَوَّلِ قَطْرَةٍ، فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَرِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ سَلِمَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ هُوَ لَهُ، وَمِنْ كُلِّ خَطِيئَةٍ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ». قَالَ: «فَإِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ رَفَعَ اللهُ بِهَا دَرَجَتَهُ، وَإِنْ قَعَدَ قَعَدَ سَالِمًا»[4].

وعن عقبة بن عامر رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه ﷺ: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، يُقْبِلُ بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ عَلَيْهِمَا، إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ»[5].

ولزيادة الفضل في تحقيق الوضوء، كان إسباغ الوضوء على المكاره مقاما يلتمس فيه المؤمن معاني الإحسان في أدائه على الوجه الأقوم. فعن عليّ كرم الله وجهه أنّ رسول الله ﷺ قال: «إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ فِي الْمَكَارِهِ، وَإِعْمَالُ الأَقْدَامِ إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، يغْسِلُ الْخَطَايَا غَسْلاً»[6].

وإنما يكون إسباغ الوضوء بإعطاء كل عضو حقه في الغَسل، وتشتد وطأة المكاره حين يكون الوضوء بالماء البارد في فصل الشتاء مع ما يعتري المرء من العجز والكسل، فيكون داعي مجاهدة النفس أكبر ويعظم الأجر والثواب من الله عز وجل.

كيفيته النبوية

اتباع رسول الله ﷺ في كل ما جاء به من أقوال وأفعال وتقريرات وأحوال سنية سبيل الفلاح في الدنيا والآخرة. ومن ذلك اتباع هديه ﷺ في الوضوء وتحري دقائق الكيفية التي توضأ بها الحبيب المصطفى .

يخبرنا الحيي عثمان بن عفان رضي الله عنه عن هذه الكيفية كما رآها من رسول الله ﷺ، فـ “عَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ أنَّه رَأَى عُثْمَانَ بنَ عَفَّانَ دَعَا بوَضُوءٍ، فأفْرَغَ علَى يَدَيْهِ مِن إنَائِهِ، فَغَسَلَهُما ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أدْخَلَ يَمِينَهُ في الوَضُوءِ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ واسْتَنْشَقَ واسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وجْهَهُ ثَلَاثًا ويَدَيْهِ إلى المِرْفَقَيْنِ ثَلَاثًا، ثُمَّ مَسَحَ برَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ كُلَّ رِجْلٍ ثَلَاثًا، ثُمَّ قالَ: رَأَيْتُ النبيَّ ﷺ يَتَوَضَّأُ نَحْوَ وُضُوئِي هذا، وقالَ: مَن تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هذا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لا يُحَدِّثُ فِيهِما نَفْسَهُ، غَفَرَ اللَّهُ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ” .[7]

 وروي كذلك عن عثمان بن عفان رضي اللّه عنه “أَنَّهُ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الوُضُوءَ، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ تَوَضَّأَ وَهُوَ فِي هَذَا المَجْلِسِ، فَأَحْسَنَ الوُضُوءَ ثُمَّ قَالَ: «مَنْ تَوَضَّأَ مِثْلَ هَذَا الوُضُوءِ، ثُمَّ أَتَى المَسْجِدَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَلَسَ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»، قَالَ: وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَا تَغْتَرُّوا»[8].

 وقوله “لَا تَغْتَرُّوا”؛ أي لا تَتكِلوا على مغفرة الله فتتركوا الأعمال الصالحة.

روح الوضوء

بالوضوء الدائم يكون العبد وقتَه كله في طاعة الله عز وجل، ومن السنة النبوية الشريفة أن يبدأ المؤمن عمل يومه وليلته بوضوء يفتح به باب الإقبال على مولاه في جوف الليل، ثم يلزم حصن الوضوء عند كل صلاة، ويتوضأ للنوم لتستغرق الطهارة حالاته كلها. 

ويحرص المؤمن أشد الحرص على استحضار النية وتجديدها عند كل وضوء -وفي كل عمل- حتى يدرك تمام أجره ولطائف بركته، ليتحول الوضوء من كونه نظافة حسية بكيفية مخصوصة إلى طهارة معنوية تجدد حياة الأعضاء، فإن “النظافة لا تكتسب القيمة الروحية إلا بالنية وطاعة الشرع في الكيفيات والترتيب. بالنية والاتباع يصبح الغسل عملية تقديسية تطهيرية ذات مغزى روحي. ويصبح الوضوء نورا يتخلل الجسم من الأعضاء الخارجية إلى العضو النفسي القلبي”[9].

يكتسب المؤمن طاقة نورانية بالوَضوء، طهارة ظاهرة وباطنة. يتطهر بها الجسم ويتيقظ القلب وتنتعش الأعضاء فتقبل على ربّها في غير عجز أو كسل، فتخرج من موت الغفلة إلى الحياة بذكر الله عز وجل. ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ. [الأنبياء: 30].

يحدثنا شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله عن هذه الطهارة الظاهرة والباطنة التي تحصل للمؤمن؛ فإنه: “بالوضوء يتطَّهر من الأوساخ، ويُقدم على ربِّه متطهرا، والوضوء له ظاهر وباطن: فظاهره: طهارة البدن، وأعضاء العبادة. وباطنه وسرّه: طهارة القلب من أوساخ الذنوب والمعاصي وأدرانه بالتوبة؛ ولهذا يقرن تعالى بين التوبة والطهارة في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾. [البقرة: 222]. وشرع النبي ﷺ للمتطهِّر أن يقول بعد فراغه من الوضوء أن يتشهد ثم يقول: ” اللَّهُمَّ اجْعَلنِي مِنَ التَّوّابِينَ، وَاجْعَلنِي مِنَ المُتَطَهِّرِينَ”. فكمَّل له مراتب العبدية والطهارة، باطنا وظاهرا، فإنه بالشهادة يتطهر من الشرك، وبالتوبة يتطهر من الذنوب، وبالماء يتطهر من الأوساخ الظاهرة. فشرع له أكمل مراتب الطهارة قبل الدخول على الله عز وجل، والوقوف بين يديه، فلما طهر ظاهرا وباطنا، أذن له بالدخول عليه بالقيام بين يديه وبذلك يخلص من الإباق”[10].

سبحان الله، يرفع الوضوء المؤمن -إن عظّم النية وأخلصها- من حال الطهارة الحسية إلى مقام العَبدية المُمحضة التي اختص بها الله عز وجل عباده المخلَصين. وتلك حال أهل الله وخاصته من أوليائه. وقد ” كان سيدنا الإمام الحسين بن الإمام علي عليهما السلام، إذا توضأ ليصلي اصفرَّ لونُه، وارتعدت فَرائِصُه. فقيل له في ذلك؟ فقال: حُقَّ لمن وقف بين يدي رب العرش أن يتغير لونه حياء من إجلاله”[11].

وهاك نصيحة من أحد كبار فقهاء التربية أطباء القلوب، عسى الله جل عطاؤه وكرمه أن يفتح لنا ولك مغاليق الفهم عنه. يقول الإمام عبد القادر الجيلاني قدس الله سره: “إذا أردت أن تصحب أحدا في الله عز وجل، فأسبغ الوضوء عند سكون الهمم ونوم العيون، ثم أقبل على صلاتك تفتح باب الصلاة بطُهورك، وباب ربِّك بصلاتك”[12].

اللهم أحينا بك حياة طيبة، واختم لنا بالسعادة التي ختمت بها لأوليائك. واجعل خير أيامنا وأسعدها يوم لقائك. وأمتنا في ساحة الجهاد على السنة والجماعة والشوق إلى لقائك يا ذا الجلال والإكرام.


[1] . ابن منظور، لسان العرب، دار الحديث، القاهرة، طبعة: 2003، ج9، ص: 326.

[2] . سيد سابق، فقه السنة، دار الكتاب العربي، بيروت، ط: 3، 1977، ج1، ص: 41

[3] . أخرجه الترمذي (2989) واللفظ له، وأخرجه مسلم (1015) باختلاف يسير.

[4] . عبد السلام ياسين، شعب الإيمان، ج2، الحديث رقم: 1704.

[5] . المصدر نفسه، الحديث رقم: 1708.

[6] . المصدر نفسه، الحديث رقم: 1706.

[7] . أخرجه البخاري، الرقم: 162.

[8] . عبد السلام ياسين، شعب الإيمان، ج2، الحديث رقم: 1703.

[9] . عبد السلام ياسين، محنة العقل المسلم، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، ط: 4، 2018، ص: 35.

[10] . ابن القيم، أسرار الصلاة، دار ابن حزم، بيروت، ط: 1، 2003، ص: 70 وما بعدها.

[11] . أحمد الرفاعي، حالة أهل الحقيقة مع الله، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 2004، ص: 142.

[12] . عبد القادر الجيلاني، الفتح الرباني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1983، ص: 269.

أضف تعليقك (2 )



















يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لضمان حصولك على أفضل تجربة ممكنة. تعرف على المزيد