أربعون سنة!!
أربعون سنة، سن الرشد القرآني، أربعون سنة سن الاستواء الدعوي، أربعون سنة سن فَتِي لدعوة مباركة، غُرست فسائلَ في مهدها أوائل الثمانينات من القرن الماضي، ثم اشتد عودها وهي لا زالت فتية، حاول عَفسها المخزنُ ليكسر نموها، وجفلها الأغيارُ خوفا من أن تسحب البساط من تحت أرجلهم، لكنها تلألأت وهي تشق الطريق، تمشي بعون الله وتوفيقه على رِجلين: رِجل العدل ورِجل الإحسان.
أربعون سنة شاهدة بمواقفها على صلابة المنطلق، وجدارة الانطلاق، تَحفظ بِصَيتِها بعد الله عز وجل شرفَ المُبدعين وتجرية المُؤسسين، غيروا قابلية أنفسهم لله، فقذف الله في قلوبهم بمنّه العزم على نشر دعوة لله، حَسْبهُم اللهُ في فعلهم، ثلاثتُهم تجشموا عناء فعل تنوء الجبال بحمله في زمن رعب وخوف ورهبة، بدأوا المسار بنصيحة لله لرأس الهرم بأدب جم، وقول لين لعله يتذكر أو تنفعه الذكرى، لكن النصح من تحتٍ لا يقبله من لا ينظر إليه، فأُدخل الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله مستشفى الأمراض الصدرية سنة ونصف، وسنتان في مستشفى الأمراض العقلية. وكان لصاحبيْه الأستاذين محمد العلوي، وأحمد الملاخ الفضل في طبع النصيحة “الإسلام أو الطوفان” ونشرها، وقد أديا إثر ذلك ما قدر الله لهما من البلاء، فقد أوذيا أذى كثيرا إذ أمضيا خمسة عشر شهرا سجنا على الأرض، وفي البرد الشديد، يأكلان الخبز اليابس الملطخ بالبترول، والعدس الممزوج بالحصى..
هؤلاء الفرسان الثلاثة أينعوا أسرة فيها بضعة رجال أوتادٍ، حرثوا أرضا مواتا وبذروا فيها الزرع، وكتبوا أحرف المولود الجديد “أسرة الجماعة”، ثم “الجماعة الخيرية”، فــ “جماعة العدل والإحسان” لتكون عشرية الثمانينيات عشريةَ التأسيس والتخصيب، ويشاء الله تعالى أن تكون عشرية التسعين وما بعدها عشرية التفقيس، وانبجاس الهدير الذي لن يوقَف إن شاء الله إلى أن يرث الأرض ومن عليها..
أربعون سنة من الحصار الغشوم، فما وهنت العدل والإحسان ولا بدلت، وما توانت ولا والت، شعارها مرفوع، وعملها دؤوب، وجناحها مهيض لأهل الخير والإصلاح، وكلمتها صادعة، لا تخش ظلم العدو، ولا حقد الحسود، ولا جَلَد الفاجر، ولا عجز الثقة، ترفع بياض التصور، ورِفعة المعنى، وسُنية المبنى، تخوض لجاج الغرابيب السود، وتكشف وجه لظى الظلم، تمد اليد، وتطرح الحل، وتَحِنُّ على الأهل، تتقرب إلى الله بما تكابد، بلسان الذاكر وبقلب السالك وبحركية المجاهد، لا تستجدي جاها ولا تتلصص مالا، ولا تدعي أحقية لنفسها، لاءاتها ثلاث؛ أخرَصَتْ بها ألسن الواشين، وأسكتت بها أفواه الحاقدين، فكان لها اقتصادُ الكفاية، ونزعت عنها عباءة الوصاية ودفنت السرية لتكون واضحة الخطاب.
أربعون سنة من حرمان المغرب من تجربة فريدة، ومن إضافة عزيزة، ومن طرح بِكْرٍ لم يُجرَّب، ومن مشروع متقن البنيان صلب الأركان، يَقْصِد في أوله ووسطه وآخره المعنى الدقيقَ للإنسان، اللهُ الغايةُ ونشدانُ العدل في الميدان، العدل مدخل الكرامة، وصناعة الشهامة، والإحسان نهج ينشد التفرد والإتقان، ومَدرَج يعلو بالإنسان عن دنيا الدوابية والحيوان..
أربعون سنة وما يئس طالب من الوصول، ولا خرجت الجماعة عن الجادة والأصول، ولا تضعضع صف الفحول، ولا تجلف الفهم عن العذول، أربعة عقود صغيرة حتى في سن البشر، بله في سن التنظيمات، لكنها في ميزان التدافع وميدان المواجهات تُعتبر أجيالا، شاخ من ناصَبَها العداء، لكنها بقيت فتية تواصل نموها وامتدادها، أعطاها الله تعالى في الميدان انتصارا، وفي قلوب الناس انتشارا، وفي أفق الزمان استمرارا..
اتهمها الحَرْفيون والمَكْتبيون بالخُرافة، ووسمها المتسرعون بالعنوسة، ووصفها الحاسدون بالمحظورة، ووصمها المنافسون بالأستاذية، فما ردّت على أحد، ولا نغصت عليه حُكْمَه وتقريره، فهل للخرافي استمرار؟، وهل للعانس “استقرار”؟، وهل المحظور من يتكلم بالوجه البشوش، ويعارض بالبديل المكشوف، ومتى حكمت، أو مارست أو تحالفت حتى تُتهم بالأستاذية؟!!
من المؤسسين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، منهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، فما وهنوا ولا استكانوا وما بدلوا تبديلا، رحل الثلاثة رحمهم الله: الإمام عبد السلام ياسين، وصاحباه محمد العلوي السليماني وأحمد الملاخ وقبلهما المرحوم محمد بشيري، فما استعجلوا غنيمة، ولا استعظموا في دعوتهم أنفسهم ولا أموالهم ولا أولادهم، فتحوا ديارهم وأنفقوا أموالهم، واستفرغوا كل جهدهم في تربية خَلَفِهم، وبقي من بعد الثلاثة جمع مبارك، مجلس رشد وإرشاد، شباب على كبر سنهم، أصحاء على علة أجسادهم، أشداء على الظلمة أذلة على غيرهم، تراهم ركعا سجدا صوامين قائمين دون تزكيتهم على الله، المسؤول فيهم مكلف، والمكلف فيهم محاسب ومسؤول، جيوبهم للدعوة مشرعة، وأبواب منازلهم للإخوان مترعة، ونظرتهم لهم مُعَظِّمة مُقدِّرة، لا يردون سائلا، ولا يزجرون مخالفا، ولا يقمعون معاندا، ولا يفضحون مبتلى، شعارهم البشارة ومحياهم الابتسامة، يخالطون بصبر، ويعاتبون بأدب، ويوجهون بنصح، فليشهد الله أني أحبهم بدون تكلف، وأرجو الله تعالى أن يثبتنا في صحبتهم في الدنيا والآخرة…
أربعون سنة، وما تركت هذه الدعوة المباركة في بلدها مرحلة من مراحل حياة الإنسان إلا ولجته، فهذا القطاع النسائي (المؤمنات)، وذاك تنظيم المؤمنين، وذاك قطاع الشباب، فالبراعم والزهرات…ولا تركت مجالا من مجالات الإنسان إلا اقتحمته، فهذا القطاع النقابي، وذاك قطاع التعليم، وآخر قطاع الحرفيين…عاملة فيهم من بين فرث الفساد الإداري ودم الحصار المخزني…بل قواها الله حتى فاض خيرها ليصل كل بقاع الأرض، ببركة الله ونصاعة المشروع ووضاءة الحملة..
أربعون سنة أمانة في الأعناق للخَلَف، رجال العدل والإحسان كما نساء العدل والإحسان، عليهم استشعار الأمانة وحمل المسؤولية، يجددون العهد مع الله بيعة لله، واتباعا لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، ووفاء للمؤسسين، علينا أن نغشى مجالس الناس وتجمعاتهم بسَمت العدل والإحسان، وأن نخالط الناس بتؤدة وصبر العدل والإحسان، وأن نمنَعَهم الخوفَ من الظلمة، وأن نحرضهم على القيام لله، لتقوم للأمة قائمتها التي عطل خيرها جور السلطان، وأفسد عدالتها الطغيان عبر الأزمان، وأن ننشر في الناس بشارة الله ورسوله والمؤمنين أن الغد للإسلام، وأن النصر آت آت أت، تصديقا لموعود الله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
أضف تعليقك (0 )