post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾&nbsp;(المعارج: 23)



 خلق الله الإنسان لغاية عظمى، وهي العبودية له سبحانه، مصداقاً لقوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: 56)، وجعل العبادات في حياة المؤمن ليست مجرد واجبات تُؤدَّى، بل مفتاح الحياة الطيبة، ومصدر الطمأنينة التي لا تنال إلا بالاتصال المستمر بالخالق سبحانه. 



العبادة هي التي تُوازن حياة الإنسان، وتزكي نفسه من أدران الغفلة والتعلُّق بالدنيا، غير أن النفس البشرية ضعيفة ميّالة للكسل والانقطاع، وهنا تكمن أهمية المداومة على الطاعة. ولهذا، كان الوِرْد هو المنهج العملي الذي أرساه علماؤنا، مقتدين بالسنة النبوية، لضمان استمرارية هذا الاتصال الروحي. فالورد يحول العبادة من فعل عابر إلى سلوك دائم مستقر، فما مفهوم الأوراد وأصولها الشرعية، ومأثرها في بناء النفس المتزنة المتصلة بخالقها؟&nbsp;



<h1 class="wp-block-heading">الأوراد: المفهوم والتأصيل الشرعي</h1>



يطلق مصطلح الورد في اللغة العربية على الماء الذي يورد وعلى وقت الورد بين الظمأين، حيث جاء في المعجم الوسيط مادة وَرَدَ: الوِرْدُ: الإشراف على الماء وغيره؛ دخله أو لم يدخله. الجزء من الليل يكون على الرَّجل أن يُصلِّيه. والنصيب من القرآن أو الذِّكر. يقال: قرأت وِردي.. الوظيفة من قراءة ونحو ذلك. (ج) أوراد<a href="applewebdata://79B36A0B-D340-42A6-8C44-5D541D5C6506#_edn1">[1]</a>.



والوِرْدُ اصطلاحًا هو أذكارٌ مخصوصةٌ من القرآن وسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن آثارِ العُلماء العاملين، يقولها الذاكر في أوقاتٍ يعاودها في اليوم والليلة، فيكون بمثابة الذي يرد الماء لينهلَ منه كلَّما عَطش، وكذلك ذاكرُ الله كلّما شغلته صوارف الدنيا، تعطشت روحه إلى ذكر الله تعالى فوَردَ مناهل الذّكر الزكيّةِ ليطمئنَّ قلبُه إيمانا و تَقَرَّ عينُه انشراحًا، قال تعالى: ﴿أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ (الرعد: 28).



ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحث على المداومة على الأعمال، يفعل ذلك ويأمر به أصحابه حتى وإن كان العمل يسيرا قليلا، إذ العبرة باستدامة العمل وتثبيته؛ فقد روى البخاري في صحيحه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أَحَبُّ الأَعْمَالِ إلى الله أَدْوَمُهَا وَإنْ قَلّ”.<a href="applewebdata://79B36A0B-D340-42A6-8C44-5D541D5C6506#_edn2">[2]</a>



قال ابن حجر العسقلاني في شرحه للحديث: المداومة على عمل من أعمال البر ولو كان مفضولاً أحبّ إلى الله من عمل يكون أعظم أجراً لكن ليس فيه مداومة<a href="applewebdata://79B36A0B-D340-42A6-8C44-5D541D5C6506#_edn3">[3]</a>&nbsp;، وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله أن الحديث فيه إشارة إلى أن أحب الأعمال إلى الله عز وجل: ما داوم عليه صاحبه وإن كان قليلاً، وهكذا كان عمل النبي صلى الله عليه وسلم، وعمل آله وأزواجه من بعده وكان ينهى عن قطع العمل.<a href="applewebdata://79B36A0B-D340-42A6-8C44-5D541D5C6506#_edn4">[4]</a>



إذن الأوراد هي الطريق إلى الله عز وجل لا يستغني عنها مبتدئٌ ولا يزهد فيها واصل. قيل للجنيد رحمه الله: نراك تحافظ على أورادك وأنت شيخ! فقال: طريق وصلنا بها إلى الله لا نتركها. وقال الإمام الغزالي: &#8220;اعلم أن الناظرين بنور البصيرة علموا أن لا نجاة إلا في لقاء الله تعالى، وأنه لا سبيل إلى اللقاء إلا بأن يموت العبد محبا لله وعارفا بالله سبحانه، وأن المحبة والأُنس لا تحصل إلا من دوام ذكر المحبوب والمواظبة عليه، وأن المعرفة به لا تحصل إلا بدوام الفكر فيه وفي صفاته وفي أفعاله(&#8230;) وكل ذلك لا يتم إلا باستغراق أوقات الليل والنهار في وظائف الأذكار والأفكار&#8221;.<a href="applewebdata://79B36A0B-D340-42A6-8C44-5D541D5C6506#_edn5">[5]</a>



<h1 class="wp-block-heading">أثر المحافظة على الورد في السلوك إلى الله</h1>



يقول الصالحون من هذه الأمة: «من لا ورد له فلا وارد له». والوارد هو مزيد الإيمان الذي يقذفه الله عز وجل في قلب المتبتلين الذاكرين الله كثيرا المتهجدين. وللأوراد أثرٌ بالغ في تزكية النفس وتطهيرها من أمراض الغفلة والأنانية، فهي تُعيد ترتيب الداخل الإنساني على أساس العبودية الصادقة.



 يقول ابن القيم: &#8220;الذكر يُنير القلب، ويجمع الهمة على الله، ويدفع وساوس الشيطان، الأوراد تملأ القلب نورًا وطمأنينة، وتغرس في النفس السكينة التي تُحصّنها من الاضطراب<a href="applewebdata://79B36A0B-D340-42A6-8C44-5D541D5C6506#_edn6">[6]</a>. قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ، أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ (الرعد: 28)، ولهذا يُولي الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله عنايةً عظيمة لمسألة المداومة على الورد، ويعتبرها من أركان السير إلى الله ومن أعظم ما يُعين السالك على الثبات في طريق الإحسان. يقول رحمة الله عليه: &#8220;فما يقول جليس فينا ليس له ورد من الذكر، ولا جلسة للاستغفار بالأسحار؟ كيف يُنتظر ممن لا زمام يمسكه عن التسيب في الأوقات من ورد لازم، وجلوس للذكر عازم أن يرقى إلى مقام دوام الذكر ودوام التضرع ودوام الطلب؟ يفتر الطلب، وتتفتت العزيمة، وينقطع الحبل إن لم يكن الورد دواما ومداومة وصبرا ومصابرة.&#8221;<a href="applewebdata://79B36A0B-D340-42A6-8C44-5D541D5C6506#_edn7">[7]</a>.



&nbsp;فالمحافظة على الورد ليست مجرد عادة روحية، بل هي تعبير عن صدق التوجه إلى الله، وعن دوام الرغبة في القرب. فالأوراد ليست مجرّد ألفاظٍ تُتلى، بل هي منهج حياةٍ وروح عبوديةٍ تتجلّى في سلوك الإنسان المؤمن. فهي تُهذّب النفس، وتربط القلب بخالقه، وتُشيع السكينة في باطنه، وتمنحه القدرة على مواجهة مشاغل الدنيا بثبات ويقين



الورد اليومي هو ميزان الصدق في السلوك، فمن حافظ عليه بإقبالٍ وثباتٍ، دلّ ذلك على رسوخ قدمه في الطريق، ومن تهاون فيه دلّ على ضعف الهمة، المداومة على الورد علامة الصدق في الطلب، وتركه أو التهاون فيه علامة الفتور والغفلة. فالمحافظة على الورد تثمر صفاء القلب ونور البصيرة، لأن الذكر المستمر يُطهّر النفس من شوائب الدنيا، ويُزيل عنها غبار الغفلة، فيتحول السلوك إلى الله من مجرد التزام ظاهري إلى رحلة قلبية صادقة يعيش فيها العبد معاني القرب والأنس.&nbsp;



ويؤكد الإمام أن الورد هو زاد الطريق، فبدونه يجفّ القلب ويضعف الإيمان. يقول رحمه الله: &#8220;المداومة في أوقات معينة على أذكار معينة هي ما يسمى في اصطلاح القوم بالأوراد. والأوراد أوتادٌ راسية عليها يبني المؤمن خيمة الذكر في أرجاء وقته وعامة نشاطه وسُوَيْدَاءِ قلبه. الأوراد هي الطريق إلى الله عز وجل لا يستغني عنها مبتدئٌ ولا يزهد فيها واصل&#8221;<a href="applewebdata://79B36A0B-D340-42A6-8C44-5D541D5C6506#_edn8">[8]</a>.&nbsp;



إذن فالمحافظة على الورد ليست عبادة جزئية، بل هي نظام حياة روحي يُنعش القلب ويُثبّت السلوك، ويجعل المؤمن دائم الصلة بالله، مستحضرًا معاني العبودية في كل شأن من شؤون حياته. السالك لا يبلغ مقام الإحسان إلا بالمثابرة على ورده اليومي، لأن الذكر المتواصل يُثمر مراقبةً دائمة، والمراقبةُ تُثمر محبةً صادقة، والمحبةُ تُثمر قربًا وشهودًا، ومن حافظ على ورده بصدقٍ ودوام، جعله الله من عباده الذين أحبّهم، ومن أحبّه الله قرّبه، ومن قرّبه أناره ووفّقه.



&nbsp;اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. اللهم ارزقنا المداومة على أورادنا، والبركة في أوقاتنا، ولا تجعلنا من الغافلين يا رب العالمين.



<hr class="wp-block-separator has-alpha-channel-opacity"/>



<a href="applewebdata://79B36A0B-D340-42A6-8C44-5D541D5C6506#_ednref1">[1]</a>. المعجم الوسيط، مادة: ورد، ص 1028 <a href="applewebdata://79B36A0B-D340-42A6-8C44-5D541D5C6506#_ednref2">[2]</a> . البخاري، صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل، حديث رقم (6464). <a href="applewebdata://79B36A0B-D340-42A6-8C44-5D541D5C6506#_ednref3">[3]</a> . ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، الجزء 11 ص 298 <a href="applewebdata://79B36A0B-D340-42A6-8C44-5D541D5C6506#_ednref4">[4]</a> . ابن رجب، جامع العلوم والحكم، ص 608 <a href="applewebdata://79B36A0B-D340-42A6-8C44-5D541D5C6506#_ednref5">[5]</a> . الغزالي، إحياء علوم الدين. الباب الأول، ص 122 <a href="applewebdata://79B36A0B-D340-42A6-8C44-5D541D5C6506#_ednref6">[6]</a>. ابن القيم، الوابل الصيب ص 144 <a href="applewebdata://79B36A0B-D340-42A6-8C44-5D541D5C6506#_ednref7">[7]</a>. عبد السلام ياسين، رسالة النصيحة <a href="applewebdata://79B36A0B-D340-42A6-8C44-5D541D5C6506#_ednref8">[8]</a>. عبد السلام ياسين، الإحسان، ج1، ص: 297-298.

التزكية والدعوة

الأوراد..

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

الأوراد..

مقالات ذات صلة