post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

الإيمان بالقضاء والقدر
مقدمة
الإيمان بالقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان الستة التي لا يتمّ إيمان العبد إلّا بها، وهي الواردة في حديث جبريل الذي رواه غير واحد من المحدثين رحمهم الله، وفيه أن الإيمان هو: &#8220;أَن تُؤمِنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاليَومِ الآخِرِ وَتُؤمِنَ بِالقَدَرِ خَيرِهِ وَشَرِّهِ&#8221;. ففي الإيمان بالقضاء والقدر السعادة في الدارين دنيا وآخرة، لأن العبد إذا علم أنه لن يصيبه إلّا ما كتب الله له، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه اطمأنّ قلبه وهدأ روعه وتعلّق بربه الخبير الحكيم جل وعلا، وصرف كل أموره إليه سبحانه الفعّال لما يريد، لا يكون شيء إلّا بإرادته ولا يخرج شيء عن مشيئته. 
ـ تعريف القضاء والقدر
ذهب أكثر العلماء إلى أن القضاء والقدر شيء واحد، وهذا موافق لقول بعض أئمة اللغة الذين فسروا القدر بالقضاء، جاء في القاموس المحيط: &#8220;القدر: القضاء والحكم&#8221;. فالقضاء هو ما عَلِمَه الله وحَكَم به في الأزل، والقدر هو وجود المخلوقات موافقة لهذا العلم والحُكم، ولذلك قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: &#8220;قال العلماء: القضاء هو الحكم الكلي الإجمالي في الأزل، والقدر جزئياتُ ذلك الحكم وتفاصيلُه&#8221;، وبهذا المعنى يكون القضاء في الأزل، والقدر فيما لا يزال.
إن التصديق اليقيني والجازم بالقضاء والقدر أصل من الأصول العظيمة للإيمان، يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: &#8220;الاعتقاد القلبي بالقضاء والقدر خيره وشره ركن من أركان الإيمان، لا يكون أحد مؤمنا إلا به. فالرضى بالقضاء سعادة، والتسخّط عليه شقاء، والانتظار البليد أمام ما يكره شرعا من الأقدار عجز، والجمع بين الإيمان بالقدر وبين مقاومة القدر بالقدر، على حد تعبير الشيخ عبد القادر، إحسان لا يقدر على بلوغه إلا الأقوياء من المؤمنين&#8221;. 
إن المؤمن القوي يبذل جهده ويستفرغ وسعه فيما ينفعه دينا ودنيا، ويستعين بالله في اجتهاده ويتوكل عليه، ويكون من العجز المذموم والاتكال المشؤوم تَرْكُه الاِجتهادَ في نطاق الأسباب المشروعة، يمسح عجزه في القدر وفي كلمات التمني والتحسر. والمؤمن القوي المستقيم العقيدة لا يخوض ويجادل في غامضات القضاء والقدر، بل يفوِّض علم ذلك إلى مولاه جل وعلا، ويثق ويطمئن بحكمته عز وجل وتدبيره وحسن اختياره لخلقه.
ـ انحراف عقلي وآخر عملي 
يحذر الإمام ياسين من مزلق الخوض والجدل في المسائل المتعلقة بالقضاء والقدر، حيث يقول: &#8220;الجدل في القضاء والقدر انحراف&#8221;، قال أبو هريرة رضي الله عنه: «خرج علينا رسول الله ﷺ ونحن نتنازع في القدر. فغضب حتى احمر وجهه. حتى كأنما فُقِئَ في وجنتيه حَبُّ الرُّمَّان. فقال: أفبهذا أُمِرْتُم! أم بهذا أُرسلت إليكم! إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر. عَزمْتُ عليكم ألا تتنازعوا فيه». 
وإلى جانب هذا المحذر اللساني العقلي القلبي الآيل إلى التنازع والجدل في أمر القضاء والقدر ينبه الإمام ياسين إلى انحراف آخر وهو انحراف عملي خطير أيضا يتمثل في خمول وكسل واستكانة الفرد والجماعة أمام القضاء والقدر، يقول: &#8220;إذا كان الجدل في القضاء والقدر انحرافاً لسانيا عقليا قلبيا غَضِبَ عليه رسول الله ﷺ، فإن التبلد أمام القدر، والاستكانة والمسكنة والخمول، انحراف عملي خطير. المؤمن القوي، والجماعة المؤمنة المخاطبة بالقرآن، مأمورون باتخاذ كل الأسباب المتاحة المقبولة شرعا لتحقيق كل الأهداف المأمور بها شرعا. المؤمن القوي والجماعة القوية ما عليهم أن يشتغلوا بأمر الله الكوني وقضائه في العباد عن أمره الشرعي التكليفي&#8221;. 
ـ الحكم الكوني والحكم الشرعي
ويجدر الإلماع في هذا المقام إلى بيان المراد بالأمر الكوني والأمر الشرعي، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: &#8220;الأحكام ثلاثة: &#8220;حكم شرعي ديني&#8221;، فهذا حقه أن يُتلقَّى بالمسالمة والتسليم وترك المنازعة، بل الانقياد المحض. وهذا تسليم العبودية المحضة، فلا يعارض بذوق ولا وجد ولا سياسة ولا قياس ولا تقليد&#8230; الحكم الثاني: الحكمُ الكوني القدري الذي للعبد فيه كسب واختيار وإرادة، فهذا حقُّه أن يُنازَعَ ويُدَافَعَ بكلِّ ممكن ولا يُسالَمَ البتة، بل يُنازعَ بالحكم الكوني أيضًا&#8230; ، كما قال شيخ العارفين في وقته الإمام عبد القادر الجيلاني: &#8220;النَّاسُ إذا وصلوا إلى القضاءِ والقدر أمسكوا، وأنا انفتحتْ لي فيه رَوزَنة (نافذة) فنازعتُ أقدارَ الحقِّ بالحقِّ للحقِّ. والعارفُ من يكون منازعًا للقدر، لا واقفًا مع القدر&#8230; فإن ضاق ذرعُكَ عن هذا الكلام وفهمِه فتأمَّل قول عمرَ بن الخطاب، وقد عوتب على فراره من الطاعون، فقيل له: أتفِرُّ من قدَر اللَّه؟ فقال: &#8220;نفِرُّ من قدر اللَّه إلى قدر اللَّه&#8230;ثمَّ كيف ينكر هذا الكلام من لا بقاءَ له في هذا العالم إلا به، ولا تتمُّ له مصلحة إلا بموجبه. فإنَّه إذا جاءَه قَدرٌ من الجوع والعطش والبرد نازعه، وتركَ الانقيادَ له ومسالمته، ودَفَعَ بقدَر آخر من الأكل والشرب واللباس، فقد دفع قدر اللَّه بقدره&#8230; الحكم الثالث: وهو الحكم القدري الكوني الذي يجري على العبد بغير اختياره، ولا طاقَة له بدفعه، ولا حيلة له في منازعته.
فهذا حقُّه أَن يتلقّى بالاستسلام والمسالمة وترك المخاصمة، وأن يكونَ فيه كالميّت بين يدي الغاسل، وكمن انكسر به المركبُ في لُجّة البحر، وعجَز عن السباحة، وعن سببٍ يدنيه من النجاة؛ فههنا يحسن الاستسلام والمسالمة. مع أنَّ عليه في هذا الحكم عبودياتٍ أخَر سوى التسليم والمسالمة، وهي أن يشهد عزّةَ الحاكم سبحانه في حكمه، وعدلَه في قضائه، وحكمتَه في جريانه عليه، وأنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأنّ الكتابَ الأول سبقَ بذلك قبل برء الخليقة، فقد جفّ القلمُ بما يلقاه كلُّ عبد، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط&#8221;. 
ـ كيف نفقه أحاديث الفتن؟
إن في مصنفات الحديث الشريف أبواباً أخبر فيها رسول الله ﷺ بالقضاء والقدر النازل بعده على الأمة تُدْرَجُ تحت عنوان: «الفتن» إلى جانب الأبواب التي تتضمن أمر الله وأمر رسوله الشرعيين، فما المنهج السديد الذي ينبغي لجند الله تعالى أن يسلكوه في فقه أحاديث الفتن إلى جانب أبواب الأمر والنهي الشرعيين؟ 
يجيب الإمام عبد السلام عن هذا السؤال العميق في فقرة مركزة، يقول: &#8220;لمستقبل الخلافة الثانية الموعودة، معنا إخبار رسول الله ﷺ الذي بشر في الحديث الصحيح بالخلافة على منهاج النبوة بعد الحكم العاض والجبري&#8230; ولمستقبل هذه الخلافة الثانية ينبغي لجند الله أن ينازعوا القدر بالقدر على منهاج النبوة ووفق النموذج الجهادي النبوي الصحابي الراشدي. حتى إذا نزل قدر الله بما لا يصبر على مثله الضعفاء، فينبغي أن تتجلى التربية الإحسانية في الموقف القوي، موقف السكينة والثبات والقَبول والرِّضى بالقضاء. فما الرضى بالقضاء، حقَّ الرضى، انهزام وضعف، بل هو قوة. لا تَفُتُّ ضربات القدر الغالب في عضد المحسنين، بل تزيدهم قربا من ربهم عز وجل، ولجأً إليه، واستعانة به، ليستأنفوا دائما جهدا جديدا لاقتحام العقبة&#8221;. 
<hr />
  ـ الفيروز آبادي، القاموس المحيط، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الثامنة، 2005م، ص: 460
  ـ ابن حجر، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، دار المعرفة، بيروت، 1379هـ، 11/477
  ـ عبد السلام ياسين، الإحسان، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1998م، 2/298
  ـ الترمذي، السنن، كتاب القدر، باب ما جاء في التشديد في الخوض في القدر، رقم: 2133
  ـ عبد السلام ياسين، الإحسان، 2/300
  ـ ابن القيم، طريق الهجرتين وباب السعادتين، تحقيق محمد أجمل الإصلاحي، دار عطاءات العلم، الرياض، الطبعة الرابعة 2011م، 1/74 ـ 78 
  ـ عبد السلام ياسين، الإحسان، 2/302

التزكية والدعوة

الإيمان بالقضاء والقدر

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

سنة التدافع ووعد النصر

رمضان شهر تجديد الصلح مع الله

عقبات بناء الإنسان في ضوء القرآن الكريم

إسرائيل ابتلاء مؤقت

الإيمان بالقضاء والقدر

ولذكر الله أكبر

مقالات ذات صلة