post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

الاجتهاد تقوى تَقيٍّ يلتمس أحكام شرع الله فيما لم يرِدْ فيه نصٌّ قطعيُّ الثبوت قطعي الدلالة. تقي، وأتقياء، أيقنوا أنهم بعد الموت إلى الله صائرون، وعن فُتْياهم مسؤولون. فأكبّوا على علوم الاجتهاد، وحرروا علما عظيما يُسمّى علم أصول الفقه. علما قائما بذاته، هو زبدة جهود خيِّرة، ذكيّة حقا، عبقرية صدقا. رحمهم الله ورحم الإمام الشافعيَّ وسائر أئمة المسلمين الأخيار مُقَدّمي الجماعة. ليس الاجتهاد حُكرا على صنف من الناس، على المعمَّمين خريجي الأزهر والقرويين والزيتونة. ولا هو حِمىً يُمنع من دخوله الدكاترة النّبهاء. كل تقي عالم مؤهل للاجتهاد، مُدَرب على الاجتهاد، مطَّلِعٍ اطلاع تحقيق على تاريخ الاجتهاد، هو من أهل الدار وحُماة الذمار. لعصرنا نحتاج اجتهادا جماعياً تحشد له العقول المتخصصة، والنيات التقية، والوسائل المالية الاتصالية. ويُحشد، مع المجتهدين الـمُدَربين العلماء المتقين، أصحاب التخصصات المطلعون على ما يجري في العالم، وعلى القوى المسيطرة في العالم، وعلى حدود ما هو ممكن حالا، وما لا يمكن إلا بسعي وتهييءٍ وتدرّج، وعلى الضرورات التي تبيح المحظورات. فقد لا تجتمع في المجتهد التقي المؤهل العالم المعرفة المزدوِجة بما هو المطلوب شرعا في المطلق، وما هو الممكن في واقع متحرك مشتبك معقد. من فضل الله على الناس، ومن ابتلائه سبحانه لهم ليعلم من ينصرهُ ورُسُلَه بالغيب، أن سهَّل الاتصال البرقي والهاتفي والصوري وما لا ندري مما يجيء به الله غدا بين قطر وقطر، وقارة وقارة. فالمطلوب اجتهاد جماعي ينكب عليه العلماء الصالحون من هذه الأمة ليُقربوا ما كان متباعدا بين المذاهب الفقهية، وليلتمسوا من اجتهادات سلفنا الصالح ما يستجيب لحاجاتنا. أهل الفاقة العلمية والجدب الإيماني يحبون أن يشيع اجتهادهم حتى فيما فيه نص ثابت قاطع، وفيما فرغ منه المجتهدون الصالحون العالمون. فتجد منهم من يُقبح بعقله السخيف فرائض هي عماد الدين، فيزعم أن رياضة منظمة عصرية شرقية وغربية أكثر فائدة من الصلاة، وأن الضرائب المدروسة الـمَرِنة أصلح من الزكاة، وأن وأن. يوجد مثل هؤلاء في عصرنا؟ نعم! لكنهم، والوقت إسلام مُقبل، غيروا اللهجة وأخْفَوا النفاق تحت عبارات حاذقة متمرسة بالجدل، معجونةٍ بماء الحياد الأكاديمي، والتوثيق المضْبوط، والموضوعية العلمية. كان أسلافُهم سُفهاء أغبياء. وسفَه بعضهم اليومَ لاييكي ديمقراطي ذكي منفتح عصري. تحتاج الأمة لاجتهادٍ جماعي عبرَ الحدود القفَصيَّة القومية، العشائرية أبادها الله، والديمقراطية هداها الله. اجتهادٍ يُعلمنا البديل الإسلامي لكل كبيرة وصغيرة في حياة الناس كان يغطيها القانُون الوضعي. ويعلمنا أولَويات إدراج القانون الإسلامي، وتدرجه، وإبَّانه. ضرورات مؤقتة تحول دون تطبيق أحْكام الشرع. متى أصبح الإسلام، كل الإسلام ولا شيء غيرَ الإسلام، مطلبا شعبيا صادقا، تعبر عنه إرادة تائبة صادقة، فقد اكتمل المناخ الداخلي الاجتماعي المسجدي لتطبيق شرع الله. أما المناخ الخارجي، المتمثل في السيطرة الغربية على ثروات العالم، وتكنولوجية العالم، وقوة العالم، فهو وسَطٌ مُعادٍ حانِقٌ. وما يجري في وقتنا هذا من خذلان المسلمين في البوسنة وفلسطين وسائر بلاد المسلمين دليل ساطع على النيات العدوانية المبيّتةِ ضِدّنا. وإن المؤتمرات التآمرية التي يعقدها الحكام على رقاب المسلمين مع أعدائنا ليخنقوا المقاومة الإسلامية شاهد يعلن في نشرات الأخبار خيانة الحكام على رقاب المسلمين، من عشائريين بُداةٍ أو قوميين عصريين. لو كان معهم حكام ديمقراطيون لدعونا لهم بالهداية، فالديمقراطي الحر تخفّف على الأقل من ظلم العباد، فيُرجى له الانتباهُ من غفلته عن دينه. اجتهاد جماعي مستقبلي تتضافر عليه جهود الأتقياء الخبراء العلماء المسايرون لما يظهره الله من فتح على من نسوا ما ذُكِّروا به. أي المسايرون لمستجدات السياسة العالمية المقدرون للخطوط المحتملة التي تنعرج عليها الأحداث، القادرون على تخطيط مستقبلي يواكِب فيه تطبيق الشريعة المتدرج قدرةَ المسلمين على التعاون الذي يعطي القوة. والقوة تعطي الاستطاعة والـمَنَعة والمقاومة للقوى العالمية، خصوصا القوى الاقتصادية، قوى السوق والتنافس والإمبراطوريات المالية التجارية عابرة القارات. اقتصاد عالمي تنافسي مسيطر، قائمة دعائمه على الربا، جارية في شرايينه دماء ربوية. كيف المخرج من لعنة الربا والسوق عالمية، والمصارف العالمية تحتل الاقتصاد العالمي وتمتص دماء الحياة من أوردة العالم المستضعف وفي مقدمته المسلمون؟ اجتهاد جماعي شوري، تتمثل فيه الشورى في تبادل الرأي، وتجميع المعلومات، واستخبار الواقع المتموج. ومع الاجتهاد العلمي جهاد عملي يتمثل فيه السياق الشوري بالاستجابة لداعي الله من أقطار المسلمين وأقفاصهم القومية العشائرية التائقةِ نُخَبُها لديمقراطية محررة. استجابةٍ لداعي: ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾1 استجابة توحيد وتوَحُّد ليلتم شمل الأمة فتقوى على صد التحديات المصيرية الكبرى، ومنها، في مقدمتها، التحدياتُ الاقتصاديةُ المسيطرُ عليها رأس المال الربوي. اجتهاد علمي يتشاور فيه المتّقون العلماء الخبراء، ومعه جهاد عملي يعبّئ قوى الأمة لتتقدم متوكلة على الله، معتمدة على عونه، لتشق طريقها في الأرض نحو الكفاية والقوة، ولتحمل رسالة الله إلى الإنسان. التوكل على الله عمل، ما هو تَمنٍّ وأمل. التوكل على الله ركن مهم من أركان الشورى وسياقها القرآني وشروطها المؤسِّسة. اجتهاد علمي شوري ينير الطريق، و«تخليق» وتربية بالصلاة والتلاوة والذكر. الصلاة ركن من أركان الإسلام، فهي بذلك أسٌّ من إساس الشورى. الصلاة مكانها المسجد، والمسجد يُؤَممه حكام الجَوْر لتخطب على منابره خطب منكرة يُقدس فيه الحاكم العبقري، وتفتح فتراتٍ قصيرةً يخطَف المسلمون فيها ركيعات، ثم تُغلق كما تغلق السجون. اجتهاد علمي جماعي شوري ومعه جهاد عملي لاستيفاء الزكاة من الأغنياء وردها على الفقراء. فلا شورى مع وجود الفوارق المبيدة للأخلاق المبيرة للذمم بين أغنياء مترفين وفقراء مُدقعين. اجتهاد وجهاد لكل هذه التفاصيل المحيطة بالحياة اليومية للناس وبالحياة التاريخية للأمة. الفاعلون للشورى، العاملون على إقامة الحكم الشوري، يلتقون مع الفضلاء الديمقراطيين في ركيزة بين الديمقراطية والشورى: ذكرناها قبلُ، ونعود إليها. هي الانتصار على البغي، ورفض الظلم، ومقاومة الظالمين. ما هي الفكرة الجامعة للجهود؟ ما هو الاجتهاد الواجب لفتح آفاق جهاد محرر؟ سؤالان يدفعان بنا إلى المزية الثامنة من مزايا الديمقراطية.



<a href="https://siraj.net/ar/books/%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%88%D8%B1%D9%89-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%85%D9%88%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B7%D9%8A%D8%A9/pages/66">عبد السلام ياسين، الشورى والديمقراطية، ص: 67-71.</a>

الاجتهاد الجماعي

الإسلام وتحرير الإنسان

قضايا فكرية

الاجتهاد الجماعي

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

المؤاخاة

كونوا قوامين بالقسط

العرب وهوان التطبيع

على أثر الصحابيات رضي الله عنهن

الرسول القدوة صلى الله عليه وسلم

يا قدس

مقالات ذات صلة