التاريخ عندنا مستمر من بعثة نوح عليه السلام إلى آخر ما نشاهد من تقلبات بني آدم في الأرض. قانون إلهي واحد لا يتخلف: تطغى القرى الظالم أهلها، ويُعجب الناسَ تقلبُهم في البلاد، ويبتلَوْنَ بزينة عابرة ونجاح مؤقت. ثم يأتي أمر الله صيحة أو خسفة أو حاصبا أو طوفانا. معنا في هذا العصر آليات فكرية «سوسيو-سياسية»، وفلسفية، وجيو-استراتيجية، وتحليلية نقدية، وما إلى ذلك من الطرح الاقتصادي الثقافي العَالميِّ الآن وقد أصبحت الأرض رُقعة أرض في قرية. وأعتذر للغة العربية عن إقحامات راطنة بلغة هجينة.
وبما أن قيمة كل حضارة تتحدد انطلاقا من معاملاتها لضعفائها (الأطفال، المرضى، اليتامى، الفقراء، المسنون، المستضعفون)، فإن الإحصاءات ستكذبنا إن ادعينا حاليا تحقيق أي إنجاز في هذا المجال. لكن النموذج الإسلامي المبتغى والنداء الإلهي يرسمان لنا الأفق، ويدلان على الطريق الموصلة إلى حياة جماعية أفضل وأعدل في حق هذه الأصناف من الناس.
في جانب المجاهدين كانت الهِمَّةُ والشجاعة والذكاء والمهارة. كان الإيمان، والإيمان وحده الباعث. وكان العقل المدبِّرُ أيضا، والمهارة المكتسبة. تفوقت الهمة والذكاء على الأنظمة العسكرية المأجورة. تفوق حبُّ الله وحب الشهادة في سبيل الله على حب المال والرُّتَب العسكرية. فكانت النتيجة ما شهد به السياسيون المعارضون في البرلمانات، وما يشهد به التاريخ. أستغفر الله العظيم. النتيجة نرجوها للشهداء حياة كريمة عند الله الحليم الكريم..حوار الماضي والمستقبل ص 58.
وقد صنفت في خصلة “البذل” خمس شعب من شعب الإيمان جعلتها للنظر في الجانب المادي للحياة وفهم التربية اللازمة لكيلا يستوعب الجانب المادي رغبات المسلم في المجتمع الإسلامي، ولكيلا يُظلم في الأرض مستضعَف في رزقه، ولكي لا يؤول فقر الفقير به إلى الكفر، ولكيلا يُطغيَ الغنى الأغنياءَ، فيُترفوا في النِّعم ويعيثوا في الأرض فسادا.
من مكر اللغة الأجنبية الدخيلة فينا، القويَّة الغنيةِ الجميلة بجمال محمولِها العلومي التكنولوجي، أنّها تُفَسِّخُ اللغة العربية وتستعين على تفسيخها وتعجيزها وشلها بالضرائر المحلية. حتى إذا خُنِقت اللغة العربية، وأدت الخادمات الضراتُ وظيفتهن، وبان عجز العربية عن إقامة شؤون الدنيا وترسيخ قدم حضارة عربية مسلمة…
رغم ذلك، يظل باب الأمل مفتوحا. فالعلم سيمكننا يوما ما من تمديد عمر الإنسان حتى يتجاوز معدله في الدول المتقدمة السنين الثمانين الحالية ليبلغ غدا قرنا أو -لم لا؟- قرناً ونصفاً. ما دامت الأبحاث الوراثية حققت نتائج مذهلة: عمر أطول، حياة أفضل، صحة أمتن، بفضل التطور المادي. أما القضية الجوهرية فيحرص الإنسان على تجنبها، مخادعا نفسه، متسليا لعله ينسى أو ليتجنب مواجهة السؤال البديهي: ما جدوى العيش إذا كانت الحياة مجرد صدفة عبثية سيعقبها الموت والحفرة العفنة؟ أفضل من ذلك التعجيل بالانتحار!
من الخلل العميق في العقل المسلم المغزو قراءته للتاريخ ونظرته إلى المستقبل من وجهة النظر المادية. ذلك مما صبغ به الفكر الغافل عن الله وعن سنة الله، الجاهل بها، الجاهلي، تفكير المسلمين. قنوات الفكر الاستشراقي سكبت في عقولنا بواسطة المغربين. برامج التعليم الاستعماري سطحت في أعيننا التاريخ فلا نرى ماضيه ومستقبل توقعاته إلا صراعا بين البشر، وموازين قوى، ودنيا بلا آخرة، وغالبا ومغلوبا، وسعيا على الأرض لا معنى له لإنسان عبث وإنسانية مرمية في الأرض.
البناء الذي تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم في اكتماله البشرِيِّ النسبيِّ وحافظ عليه الخلفاء الراشدون المهديون بحفظ الله بدأ انتقاضه وانهدامه وانتشاره بعد ثلاثين سنة من موته صلى الله عليه وسلم. اغتالوا الإمامَ عليا كرم الله وجهه فكسـروا قبة البناء، بل أعْملوا المعول في أُسِّهِ لما حوَّلوها ملكا عاضا. كان الانقلاب الأموي الباغي ضربة في الكيان الإسلامي، ترجَّعتْ هزاتها على مدى التاريخ كما تترجع رجات الزلزال.
ليس للإسلام نموذج حي ناجح جذاب يلفت الأنظار المستعجلة ويستحوذ على الهمم ويجمع الجهود الضائعة لتكون قوة وعملا. وإلى هذا يضاف جهل المسلمين بإسلامهم، بل انقطاع شباب المسلمين عن إسلامهم انقطاعا كاملا في كثير من الأحيان. وبهذا تكون طريق العودة إلى حكم إسلامي طريق جهاد وعمل دائب.
الاجتهاد تقوى تَقيٍّ يلتمس أحكام شرع الله فيما لم يرِدْ فيه نصٌّ قطعيُّ الثبوت قطعي الدلالة. تقي، وأتقياء، أيقنوا أنهم بعد الموت إلى الله صائرون، وعن فُتْياهم مسؤولون. فأكبّوا على علوم الاجتهاد، وحرروا علما عظيما يُسمّى علم أصول الفقه. علما قائما بذاته، هو زبدة جهود خيِّرة، ذكيّة حقا، عبقرية صدقا. رحمهم الله ورحم الإمام الشافعيَّ وسائر أئمة المسلمين الأخيار مُقَدّمي الجماعة.
وهذه الآلة الكلية الأساسية التي بها تستخرج كنوز الأسرار التي وضعها البارئ سبحانه في ثنايا الكون كان للمسلمين اليد الأولى الطولى في تدبير صنعها واستنباط طرق استعمالها.
إنها الطريقة التجريبية. نسبوها لبيكن ونسل بيكن من رواد العلوم في الغرب، فأنكرت أُبوتنا، وننكر نحن بُنوتها، وذلك عقوق. والتوبة عن كبيرة العقوق تأتي في مقدمة التوبة.
لن ينقذ الأمة من الهلاك الذي يتهددها، ولن يُبَلِّغَها الأملَ المعقودَ على منقذ يسعدُها إلا الاعتماد على الله والجهاد في سبيل الله. عصر المواد الخام والإنتاجية الصناعية والموارد المادية والتمويلية كاد يولي الأدبار ليخُصّ الاعتبار الإنسان ومستوى معارفه وذكائه وقدرته على الابتكار وتطويع المعلومات وخزنها وترويجها وتوظيف الأدمغة المتفوقة لتخطط وتُنشّط.
نحن حريصون على حوار مع الفضلاء الديمقراطيين لو كان بعضهم يُفرِّق بين التنابُزِ في الصحف وبَيْن الكلمةِ المسؤولة. وإن سوء التفاهم بيننا وبين بعضهم ناتج عن أننا نتكلم من مواقِع مختلفة، ومن مُستوَيَيْن اثنين. ومن يُراد منه أن يبذلَ مجهودا ليسمع ويتأمل ويقَدِّر الحاضر والمستقبَلَ منهمك في الحاضِر لا يَلْوي على شيء.
إنه لا مُنْفَلَتَ عن الاستبداد التقليدي، ولا عن المتاهات والتجارب الفاشلة التي سلكها المغربون تحت قيادة الأنظمة التقليدية أو باستقلالهم تحت زعامة الأبطال القوميين، إلاّ إذا كان الشعب قادرا على التعبير عن إرادته، مُعَبّأ ليدافع عن اختياراته. وتلك حقوق وواجبات لا تحصل إلا بطول كفاح، لا تسقط على الشعوب من السماء. ولا تنوب الطلائـع المناضلة في ذلك عن مجهود السواد الأعظم.
وقد تنتظر النقمة الإلهية طويلا، لكنها لا تتخلف، والعاقبة دائما للمتقين، متى أذن الله رب العزة واستيقظ المسلمون من الغفلة، وتطهروا من دخن الفتنة، وذكروا الله كثيرا فذهبت القسوة، ودخل الإيمان والنور، فقويت العزائم وانتظمت الشؤون بنواظم الإيمان والإحسان، وتجند جند الله، وتحزبوا لله، وتقدموا رحماء بينهم أشداء على الكفار لاستقبال موعود الله.
منبع الصهيونية وأصلها هو الشعور المكبوت بالانتماء والصمود التاريخي والحنين الدائم إلى العودة لأرض “الميعاد”. الصهيونية نُقلة نوعية من ذهنية اليهودي الخامل في بلاد الشتات، المتجمع حول الأحبار وأسفارهم، الحالم بنـزول المسيح “الماشيح” كما يقول العبرانيون إلى الأرض ليخلص “شعب الله المختار”. نقلة من تلك الذهنية إلى ذهنية اليهودي الفاعل المتحرك المنظم. الصهيونية تشخيص عملي لفكرة العودة وإحياء القومية اليهودية