post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

ما بعد الحداثة، ما بعد الأخلاق
تعتبر الحداثة الملحدة القيود الجنسية والأسرة -القيمة الاجتماعية المركزية- انضباطاً عفَّى عليه الزمن. ففي المجتمعات الحديثة الإباحية يعتبر كل انضباط من هذا النوع تدخلا لا يطاق في حرية الأشخاص، بل تزمُّتا قمعيا لا يناسب عصرا تخلص من إرث الأديان المتشدد.
أترك المجال للغربيين ذاتهم ليشرحوا لنا كيف يكون عصر ما بعد الحداثة، بل كيف لا يمكنه إلا أن يكون: عصرا لما بعد الأخلاق.
يبحث جيل ليبوفتسكي، الفيلسوف وعالم الاجتماع، عن توفيق بين منطق الماضي الصارم والمتجاوز والأخلاق المتساهلة الإباحية. فلنُصْغِ إلى حواره مع أفكار هذا الزمن الحائر المحير الذي لا تجرؤ فيه حكمة الفيلسوف على تخطي حدود ذرائعية &#8220;أنيقة&#8221; يستسيغها الذوق السياسي.
كتب جيـل ليبوفتسكـي ما يلي: &#8220;المرحلة التـاريخية من تاريخ الأخـلاق -مرحلة أسميها &#8220;ما بعد الأخلاق&#8221;- تقطع وتصل في نفس الوقت صيرورة العلمنة المنطلقة من القرنين السابع عشر والثامن عشر. ونعني بمجتمع ما بعد الأخلاق المجتمع الذي يدغدغ أكثر من سابقيه الرغبات والأنا والسعادة والرفاهية الفردية أكثر مما يقوي فضيلة التضحية وإنكار الذات.
&#8220;لم تعد ثقافتنا خاضعة لضروريات الواجب الشيوعي المطلق بل للسعادة والواجبات الذاتية، أما ثقافة التضحية التي كانت سائدة إلى حدود منتصف هذا القرن فقد تم التخلص منها&#8221;.
&#8220;توقفت مجتمعاتنا الاستهلاكية التواصلية عن التمجيد المنتظم للوصايا الصعبة. وأصبحت منذ الآن تشتغل خارج دائرة الواجب، خارج نطاق الفريضة الأخلاقية الصارمة والمنضبطة. ذلك هو عصر ما بعد الأخلاق، عصر الديموقراطيات الجديدة&#8221;1.
نلاحظ أن الكاتب يعارض الحقوق الفردية بالواجب الجماعي، والأنانية بالإيثار، والسهولة بالانضباط، والشهوة المطاعة بالتضحية والبذل. تلك هي سمات مجتمع لم يعد يملك قدوة، مجتمع أفراد ليس لهم مطلقٌ يستقطب آمالهم. فمجتمعات ما بعد الأخلاق مجتمعات فقدت دعائمها الأخلاقية، مجتمعات بلغت منتهى التقدم التطوري الذي تجاوز كل خلق ليقترب تدريجيا من السلوك الفرداني. القرداني!
لنصغ مرة أخرى إلى محللنا:
&#8220;بعبادتها للذة والمنفعة، تساهم مجتمعات ما بعد الواجب في تحلل أشكال تأطير الأفراد وتحكمهم في ذواتهم، وتشجع النتائج العاجلة بينما تدمر الإحساس بقيمة الجهد [المضاربة بدل الإنتاج]، وتحرض على التمرد على المبادئ الخلقية [رشوة، مكافآت سرية، تلاعبات مالية. ففي الولايات المتحدة يتهرب كل مطالب بأداء الضريبة على الدخل من القيام بهذا الواجب].
&#8220;وبينما تنهار المؤسسات التي تقوم عادة بوظيفة التحكم الاجتماعي [الكنيسة، النقابة، الحزب، الأسرة، المدرسة]، تتشكل غيتوهات حول الأسرة الغائب أبوها أو حول الأمية أو تجارة المخدرات أو العنف أو الانحرافات الخطيرة. هكذا أصبح عدد كبير من الناس يؤمنون بأن عصر ما بعد الحداثة يفرز فردانية لا يحكمها أي قانون، فردانية &#8220;تائهة&#8221;، متحللة، لا مستقبل لها&#8221; 2.
تشاؤم وخيبة أمل؟ أم حصافة فيلسوف حكيم؟
تبقى هذه الشهادة ذات أهمية كبرى بالنسبة إلينا نحن القابعين في غيتو تخلفنا، نحن المعانين أمراضاً مشابهة يزيدها حدة بؤسنا المادي. فهل يمكننا التداوي من عللنا القاتلة بمجرد الاتباع الأعمى للنموذج الغربي الذي نعرض هنا نمط حياته على لسان مفكريه؟ أم أننا سنتشبث بمثلنا، بحقيقتنا، بغايتنا، رغم وجودنا في حداثة غنية الوسائل، عارية من كل معنى؟
ليس غرضنا أن نتعلل بمطالعة أمارات غروب حضارة كافرة، بل غرضنا أن نستخلص العبرة منها: أن شهادة الغربيين على أنفسهم دليل على أن حضارتهم تكفل لهم ولهم وحدهم حرية التفكير والتعبير التي تمثل قيمة ثمينة نغبطهم عليها!
ويتقدم عالم الاجتماع والإناسة والأحياء، الفيلسوف إ.موران بعد مطاردته اليائسة للمعنى باقتراح متواضع: تضامن أخوي بين بني البشر، مجتمع عالمي بدل مجتمع ما بعد الحداثة المتحلل، ما دامت المجتمعات المنعوتة بالتقدم تسير دون حافز سوى تلبية الأنانية والتمتع الفرداني، مجتمعات مفككة فقدت رابطة المحبة وعانت في نفس الوقت من التشتت الفكري.
ينهمك حكماء الغرب في البحث عن أخوة وتضامن إنسانيين كفيلين بإنقاذ البشرية من الكارثة، ويطرح موران فكرة التغيير أو الإصلاح، بما أن الشمولية الإيديولوجية الثورية لم يعد لها أي دور في حقل التصور المتخبط في تعقده وتخصصاته المفرطة. لم يعد للإنسان باعتباره قيمة لنفسه وللآخرين أي وجود كما حدث &#8220;للإحساس بعمق وحدة المصير التي  تربط بين وحدة التضامن والأخوة[&#8230;] فالمجتمع البالغ التعقيد يمنح أفراده وجماعاته عددا كبيرا من الحريات ومن الملاهي، ويمكنهم من الإبداع، بل أحيانا من الانحراف[&#8230;] لكن حين يبلغ التعقيد مداه، يتفكك المجتمع لا محالة. لذا يمكن اللجوء إلى التدابير السلطوية لتفادي هذا المصير. لكن إذا أردنا ألا يتجاوز الإكراه حدوده الدنيا فلابد من الاعتماد على اللحمة الوحيدة الباقية، لحمة الإحساس بالتضامن المعيش&#8221;3.
مطلب رائع! لكن من أين سينبثق هذا الإحساس؟
الواضح أن العالم الفيلسوف، المحترف لتجارة الأفكار، يطلق صرخة منبعثة من القلب، نذيرة لبني البشر: كيف السبيل إلى إيقاف الدوامة التي تلف الإنسان العابث بحرية، دون اللجوء إلى &#8220;التدابير السلطوية&#8221;؟
هل هي حيرة الفيلسوف الاجتماعي -موران- المتحول إلى مذهب الإصلاحية أم أنه انتقاد للثورة الماركسية خصم البارحة اللدود؟
<a href="http://siraj.net/%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%AF%D8%A7%D8%AB%D8%A9-15.220.q.%D8%A5%D9%86%D9%85%D8%A7+%D9%8A%D9%86%D8%B8%D9%85+%D9%81%D9%8A+%D8%B3%D9%84%D9%83+%D9%87%D8%B0%D9%87+%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AE%D9%84%D8%A7%D9%82.html#page/219" target="_blank" rel="noopener noreferrer">الإسلام والحداثة، ص 219-223.</a>
1. La société en quête de valeurs, Op.Cit, P.25
2. نفسه، ص 26.
3. نفسه، ص 231.

قضايا فكرية

ما بعد الحداثة، ما بعد الأخلاق

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

كيف انتقض البناء النبوي؟

النصر بين المدد الغيبي وإعداد العدة

داء الأمم

الحج تربية

الحج مطهرة وهداية

فضل العشر الأوائل من ذي الحجة

مقالات ذات صلة