إن من أخطر ما ابتليت به الدعوة في عصرنا طغيان ثقافة الغرب وسيادة قيمه في معظم المجتمعات. ساهم في انتشار هذه القيم وسيطرتها عوامل متعددة بما تملكت هذه الحضارة من أسباب القوة المادية والعلوم والتكنلوجيا والاختراع والاسلحة الفتاكة التي لم يسبق للبشرية عبر تاريخها أن شهدت عشر معشارها. وقد عرفت كيف تحمي هذه المكتسبات والانجازات بترسانة من النظريات الفلسفية ومنظومات فكرية أكسبت هذا النموذج الحضاري هيمنة وانبهارا في العقول وحضورا في أرض الواقع والممارسة.
مصدر ومقصدان
تواجه أمتنا تحديين كبيرين يعوقان خروجها من مهاوي الانحطاط والتردي اللذين ترزح تحت وطأتهما. هذان التحديان مرجعهما إلى عقليتين تشكلان صورة لأزماتنا.
عقلية المسلم الخرافي الذي يستحيل فهمه للقدر الإلهي حتميةً (جبرية) تمنعه من الفاعلية واكتساب أسباب القوة، وتقعده عن التواصي بالحق والصبر والسعي في الأرض بالعمل الصالح الذي ينفع الناس(المجتمع).
وعقلية مستلبة تشربت أدوات الفكر الجاهلي، تتأرجح بين تطرف ينكر الدين جملة، وتلفيق يحاول الدفاع عن “الفكرة الدينية”، كما يعبر مالك بن نبي رحمه الله، لكن بأسلحة خرجت من رحم الإلحاد والكفر، فلا غرابة أن تكون نتيجة هذا التلفيق هجيناً خِداجاً.
نحتاج إلى ثورة في العقول تعيد الأمور إلى نصابها، لنفرق ابتداء بين تلك الفلسفات والعلوم الحاملة لجينات وسموم الإلحاد: “ولما يسمى في عصرنا بـ» العلوم الإنسانية» مناهج كثيرة متكاثرة، من وضعية إلى بنيوية مرورا بطيف من الألوان الفلسفية تعطي لملاحظة الاثنولوجيين والأنثروبولوجيين والمؤرخين واللسانيين، إلى ما هنالك، قواعد نظرية يحاولون على أساسها معرفة تاريخ الإنسان، وتاريخ المجتمعات، وبناء المجتمعات، وعلاقات البشر فيما بينهم، والعادات والخصائص، والصفات المشتركة. هذه» العلوم» تملأ عندهم فراغا تركه الدين لما فصلوا الدين عن حياتهم”[1].
أصبحت لوثة التفكير من داخل هذه الأنساق المعرفية الغربية “موضة” لم تعد مقتصرة على نخبة أساتذة الجامعات و”المفكرين” الذين أشربوا هذا النمط من التفكير والمشبع بما أثلته “علومهم الإنسانية” وعلم النفس وما يجري في ركابها من العلوم المنبثقة عن حضارات وثنية مقطوعة عن ذكر الله واليوم الآخر. إن خطورة هذا النوع من الفكر في كونه ينتج خطابا له أُسس ثلاثة يبرزها الدكتور خالد العسري: “مدماك التأويل الحداثي للنصوص الإسلامية لتتوافق مع دعاوى الديمقراطية وحقوق الإنسان، مدماك الصمت على المعايير الإسلامية عند نسج عقد الولاء مع الآخر اللائكي، مدماك التركيز على الصفة الديمقراطية للتنظيم على حساب إسلاميته، إلى حين الانتهاء من بناء’ دولة حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية والعدالة‘.
تقترب هذه التنظيمات من “علمنة” استراتيجياتها وبنيتها الفكرية والتنظيمية، لذلك يشح خطاب الآخرة في مکتوباتها وبرامجها.”[2]
نفرق بين تلك وبين العلوم التي عليها مدار تطور وتقدم الانسان وازدهار العمران. هذه العلوم منشؤها العقل وتفاعله مع الأكوان، واكتشافه لما خلق الله فيها من سنن وقوانين. وهي ليست غريبة عنا كما يتوهم البعض ويزعم البعض الآخر. فلقد نبتت في أرضنا، وساهمنا إبان فترات ازدهار حضارة المسلمين فيها بنصيب وافر. حتى إن العالم الإسلامي تفوق على الثقافات الأوروبية بشكل كبير في مجالات عديدة مثل الرياضيات والجبر والهندسة وعلم المثلثات وعلم الفلك والبصريات، والطب. يشهد لذلك الاهتمامُ الذي أولاه أجدادنا لإنشاء المدارس ومراكز البحث العلمي بما هي الدعامة الأساسية لكل نهضة وتقدم:” والإنسانُ يقضي العجب من الهِمة التي أقدم بها العرب على البحث، وإذا كانت هنالك أممٌ تساوت هي والعرب في ذلك فإنك لا تجد أمة فاقت العرب على ما يحتمل، والعرب كانوا إذا ما استولَوا على مدينة صرفوا همَّهم إلى إنشاء مسجد وإقامة مدرسة فيها، وإذا ما كانت تلك المدينة كبيرةً أسسوا فيها مدارس كثيرة، ومنها المدارس العشرون التي روى بنيامين التُّطِبلِيُّ المتوفى سنة ١١٧٣ م أنه شاهدها في الإسكندرية، وهذا عدا اشتمال المدن الكبرى كبغداد والقاهرة وطليطلة وقرطبة … إلخ، على جامعات مشتملة على مختبراتٍ ومراصد ومكتبات غنية، وكل ما يساعد على البحث العلمي، وكان للعرب في إسبانية وحدها سبعون مكتبة عامة، وكان في مكتبة الخليفة الحكَم الثاني بقرطبة ستمائة ألف كتاب منها أربعةٌ وأربعون مجلدًا من الفهارس كما روى مؤرخو العرب، وقد قيل، بسبب ذلك: «إن شارل الحكيم لم يستطع، بعد أربعمائة سنة، أن يجمع في مكتبة فرنسة المَلَكية أكثر من تسعمائة مجلد يكاد ثلثها يكون خاصٍّا بعلم اللاهوت”[3].
جاءت “الثورة العلمية” في القرن السادس عشر مع كوبيرنيك وما ترتب عنها من فصام وطلاق بين العلم والدين الكنسي المحرف، وظهر إثر ذلك ما يعرف في الفكر والفلسفة الغربية بمفهوم “القطيعة الابستيمولوجية”، وهي أن كل تطور أو تقدم علمي أو تكنولوجي رهين بتخلص العالِم والمفكر من الدين ومن الخرافة، والدين -بالنظر إلى تاريخهم- خرافة.
حل الاستعمار الأوروبي بديارنا، فلم يكتف باحتلال الأرض بل احتل العقول، خاصة عقول النخب التي أُشْرِبت هذا المذهب الفاسد المفسد. فصارت تُنَظِّرُ وتنادي أن لا مناص، إذا رُمنا التقدم والخروج من تخلفنا، إلا بتبني القطيعة الابستيمولوجية كما تبناها أساتذتهم الأوروبيون، ونحسمَ مع ديننا ونقطعَ مع إسلامنا. يقول الإمام المجدد:” وتعني الكلمة والدعوة -الانقطاع الإبستمولوجي-أن نفصل بيننا وبين القرآن والإيمان والألوهية والربوبية والنبوة والوحي فصلا نهائيا. وذلك عندهم شرط أساس لنهضة «الأمة» العربية”[4].
فَلَئِن كان طلب العلم واكتسابه وتوطين التكنولوجيا في أوطاننا وترويضها وأسلمتها ضرورة ملحة واستراتيجية، وكل ذلك يعتبر من أهم وآكَدِ مطالب المنهاج، يقول الإمام المجدد:” التنمية أو الموت. لا بقاء في عالَم الـمُصنّعين الأقوياء لمتخلف، ولا قوة إلا بتكنولوجيا مفتوحةٍ على سوق المنافسةِ العالمية، ولا تكنولوجيا إلا بعقلانيةٍ يُوَطِّنُها في الديارِ نُبَهاءُ أذكياء ماهِرون متدَرّبُون. ولا تتوطن التكنولوجيا وصناع التكنولوجيا في بَلَدٍ اقتصادُه خرابٌ لأنّ نظامَ حكمِه جَوْرٌ واحتقارٌ للكفاءات. ولا صلاحَ لنظامِ حكم وإدارةٍ في بلاد المسلمين إلا بالإيمان، وبالإيمان وحدَه”[5].
فلا يمنعَنَّا من ذلك كون تلك العلوم وتلك المخترعات، في قبضة الآخر اليوم. معركتنا الحيوية والمصيرية أن نكتسبها ونروضها لغايات مشروع نهضتنا، ليس فقط للاعتبارات المادية والحاجات الدنيوية، بل لأن ذلك أولا وقبل كل شيء فريضة وواجب ديني تعبّدنا الله به، به تُمكِن عمارة الأرض وعمرانها، فتتحقق غاية الاستخلاف، وتُنال الدرجات في الدار الآخرة.
انقطاع وانقطاع
إذا كان الانقطاع الابستمولوجي ضرورةً حتمية وملحة عند اللائكيين والحداثيين وسائر نخب المغربين، فهو كذلك عندنا. فلا يمكن أن نصنع مستقبلا مشرقا لأمتنا إلا على هدى من الله عز وجل ورسوله ﷺ. وهذا تلزمه قطيعة وانقطاع ابستمولوجي عن أدوات التفكير الجاهلي ومسلماته الدوابية. يستحيل تصور مستقبل للإسلام إن سقطنا في كمين المواجهة الفكرية والسياسية بعدة وعتاد مستعارين من غيرنا. يقول الإمام المجدد:” والمنهاج النبوي يبدأ أيضا بالانقطاع عن موارد الجاهلية فيما يرجع للعقيدة والخلق والذاتية ومنهاج العلم والعمل. ليكون الوحي مصدر فكرنا، وتكليف الله سبحانه وتعالى حافزنا للعمل، وسنة رسوله ﷺ رائدنا.”[6]
إذا كانت غاية الحضارات المادية الدوابية لا تخرج عن دائرتي الإنتاج والاستهلاك وما ينتج عنهما من تشييىء الانسان واستلابه، فإن العمران الذي يطلبه الاسلام ويدعو إليه يقوم على تحقيق العبودية لله عز وجل، قال تعالى ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ﴾[7] ، أي: خَلَقَكم لعمارتها بأن جعلكم عُمَّارها وأطال أعماركم فيها، بناءً واستقراراً لخدمةً البلاد والعباد، أي بكل ما يحمله مفهوم التنمية من معان وأبعاد في عصرنا الحاضر. حركتنا وسعينا لعمارة الأرض مرتبط بمصيرنا ودرجتنا عند الله عز وجل في الآخرة. الغاية توحيد الله وإفراده بالعبودية. قال الإمام المجدد:” تبنى على الضرورة الجسمية المادية الحياة الغائية، حياة الإيمان بالله عز وجل وباليوم الآخر”[8]. قال عز وجل: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾[9]، الآية الكريمة تبين بوضوح ارتباط الوعد الإلهي بالإيمان والعمل الصالح وعلى رأسها عبادة فردية لازمة هي إقامة الصلاة، وعبادة مجتمعية متعدية هي إيتاء الزكاة. شتان بين أمر الله وشرعه عز وجل وما يدعيه أصحاب الانقطاع الإبستمولوجي والحتمية التاريخية!
هذا الوعد الإلهي الوارد في الآية الكريمة جاء بيانه في أحاديث كثيرة من ترجمان القرآن سيدنا رسول الله ﷺ. أختار منها حديثا واحدا يحمل بشارة للأمة إن هي انتهجت منهاج النبوة؛ فالازدهار الاقتصادي والرخاء والتنمية بركةٌ ورخاءٌ ينزلها الله على العاملين المجتهدين المجاهدين لا على الخاملين الناعسين.
روى البزار أن رسول الله ﷺ قال: «إن أول دينكم نبوة ورحمة. وتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله جل جلاله. ثم يكون ملكا عاضا فيكون فيكم ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعه الله جل جلاله. ثم يكون ملكا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله جل جلاله. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة تعمل في الناس بسنة النبي، ويُلْقِي الإسلام بِجِرَانِهِ في الأرض، يَرْضَى عنها ساكن السماء وساكن الأرض، لا تدع السماء من قطر إلا صبته مِدْراراً، ولا تدع الأرض من نباتها وبركاتها شيئا إلا أخرجته. [10]«
يرسم هذا الحديث مراحل التاريخ كما يخبر بها الوحي لا كما يتصور أصحاب نظرية الحتمية التاريخية. يقول الإمام المجدد تعليقا على هذا الأمر:”من خلال هذا الحديث النبوي تدخل كلمة منهاج لتؤدي وظيفتها الحركية، إذ تربط تاريخ انبعاث الأمة بعد أطوار الخلافة الراشدة الأولى، فالملك العاض، فالملك الجبري، باتباع المنهاج النبوي. والحديث يتضمن الوعد الصادق بأن الخلافة الراشدة تعود. يتشبث وهم التاريخانيين بنظرية ”الحتمية التاريخية” التي لا سندَ علميا لها والتي انتهى أجلها مع موت الإديولوجيات في عصرنا، ويملأ هذا الوهم في تفكير المادي فراغا خلَّفَه كُفْرُهم بالقضاء والقدر”[11].
[1] عبد السلام ياسين، مقدمات في المنهاج، دار لبنان للطباعة والنشر الطبعة الثانية 2018، ص 18
[2] خالد العسري، الخطاب الإسلامي بين مأزق التاريخ، نحلة الغالب ومنطق الساحة، مجلة منار الهدى، عدد 12 خريف 2008
[3] غوستاف لوبون، حضارة العرب، ترجمة عادل زعيتر، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة 2013، ص450
[4]عبد السلام ياسين، مقدمات لمستقبل الإسلام، دار لبنان للطباعة والنشر الطبعة الثانية 2018، ص 15
[5] عبد السلام ياسين، حوار الماضي والمستقبل، دار لبنان، الطبعة الثانية 2018، ص 124
[6] عبد السلام ياسين، مقدمات لمستقبل الإسلام، دار لبنان للطباعة والنشر الطبعة الثانية 2018، ص 23
[7] سورة هود، الآية 61
[8] عبد السلام ياسين، الإسلام والقومية العلمانية، دار لبنان، الطبعة الخامسة 2018، ص 35
[9] سورة النور 55
[10] أبو المجد محمد شريف راشد، فقه سيرة أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، دار الكتب العلمية، ص 25
[11] عبد السلام ياسين، مقدمات لمستقبل الإسلام، دار لبنان للطباعة والنشر الطبعة الثانية 2018، ص 26
أضف تعليقك (0 )