مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسينمدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين
مدرسة الإمام المجدد
عبد السلام ياسين

أدب وفن

التربية على الجمال المسموع

1
التربية على الجمال المسموع

التربية على الجمال المسموع

1.    السمع بوابتنا الأولى

السمع أول ما شق الله عز وجل من حواسنا، وأول ما وصلنا بالعالم. وليس عبثا أن جعل أثبت سبحانه السمع قبل الحواس جميعها، فقال: ﴿إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾ [الإسراء، الآية: 36]. ولست تجد كالسمع منفذا دائم الاشتغال متعدد الوظائف، لأجل ذلك جعل مقدما في الآية الكريمة.

لذلك، كانت “منة السمع، وحاسة السمع، وكرامة السمع، من أعظم عطايا الرب سبحانه. إذ هي القناة التي منها يصل خبر وجود الله، والعلم بالله، والعلم بطريق السعادة وحقائق الـمَحْيى والممات. يُذكر السمع في القرآن قبل البصر، لأن حاسة الإبصار وما يلتقطه البصر من صور العالم لا تحمل إلى العقل رسالة إلا عن العالم المرئي. لا يخبر البصر عما وراء المرئي ولا عن أصله، ولا عن معناه”.[1]

وقد أثبت حكيمنا ابن خلدون رحمه الله في مقدمته فضل حاسة السمع على سائر الحواس، وعنده أن “السمع أبو الملكات اللسانية”[2]؛ فلا سبيل إلى حصول ملكة اللسان والدربة في أساليب التعبير والبيان، إن لم تكن للمتكلم أذن مرهفة تنصت إلى دقائق الصناعات اللغوية وفنون أدائها.

إن بلوغ هذه الدرجة لمطلب عزيز وغاية تدرك إن كان الوعي بأهميتها متقدما؛ إذ ينبغي تربية أذن الإنسان منذ لحظة ولادته وقبلها، فإن الجنين في بطن أمه يتفاعل مع الأصوات التي تطرق سمعه في هيئة مناغاة وترانيم وكل معنى طيب. ويصير الأمر من آكد الواجبات في سنيه الأولى في البيت والروض والمدرسة. 

نقف مع الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله وهو الخبير التربوي ليحدثنا عن متطلبات هذه المرحلة العمرية، فيما يتعلق بتربية القدرة السمعية لدى الطفل وأهميتها القصوى في بناء شخصيته وتوازنها؛ فإن “للسمع والكلام مكانا لا ينكر كوسائل للتربية والتعليم. على أن السمع المعني هنا هو فهم الكلام المسموع لا مجرد السمع. ومن السهل على ملاحظ الطفل أن يتتبع استيقاظ حواسه، وكيف يكتسب بواسطتها معرفة أوسع فأوسع بما يحيط به. فالطفل منذ يتحرك جسمه في الأسابيع الأولى بعد ميلاده، ينظر ما حوله متطلعا، ويعرف الوجوه المألوفة فيبسم لها، ويسمع الصوت فيعرفه إن كان صوت أمه، ويرنو للأشياء البراقة، ويمد يده إليها، فإذا مضت هذه الفترة، ودب الطفل، استعمل حواسه في نطاق أوسع مما كان يستعملها فيه، واتسعت معارفه فشملت حجرته وما حولها. وكل هذا قبل أن يسمع الطفل، أعني قبل أن يفهم الطفل الكلام، أو يقدر عليه”.[3]

يسعف السمع الطفل في تعرف محيطه وتحفيزه على الاكتشاف، فلأن يرى الناس والأشياء ويدرك الأصوات الصادرة عنها واختلافها ودرجات شدتها ورقتها وتناسبها ودلالاتها… ليس كأن يرى ذلك كله بمعزل عن الصوت، فلا معنى للشيء دون تردد صداه.

قد يبلغ الإنسان خلال مسيرة التربية السمعية حد حصول ملكة الأذن الموسيقية المطلقة عنده، التي يميز بها دقائق التعبير النغمي وموافقة اللحن للقصيد وحسن التخلص في السكك المقامية، ويطرب إلى الطبوع الموسيقية والجناس النغمية، وإحساسه برقة التنغيم عند سماع النوتة وإنصافها وأرباعها وأثمانها وما يجده أهل الذوق الموسيقي الذين بلغوا الغاية شأوا من العلم راقيا في مبنى الموسيقا ومعناها.

2.    تربية الذوق الموسيقي

كثيرة هي الأبحاث العلمية التي اهتمت بتطور الحاسة السمع والذائقة الموسيقية عند الإنسان، ولعل أشهرها تلك الدراسات التي أجريت في نطاق مشروع صفر في جامعة هارفارد بالولايات المتحدة، التي اتخذت نظرية جاردنر[4] حول الارتقاء الجمالي والتربية الجمالية عند الإنسان في مختلف مراحل حياته منذ ولادته وصولا إلى سن الشباب. بالإضافة إلى دراسة أكاديمية قيّمة أجراها مجموعة من العلماء، يوجههم تساؤل مركزي، مفاده ما الذي يصنع الأذواق الموسيقية للفرد، أهي البيولوجيا أم المحيط؟ أيولد الذوق الموسيقي مع الإنسان أم أنه يكتسبه مع الوقت؟[5]

نجد إشارات للجواب عن هذا التساؤل في مقدمة محقق كتاب الفارابي، إذ يشير إلى أن الموسيقا “صناعة في تأليف النغم والأصوات ومناسباتها وإيقاعاتها وما يدخل منها في الجنس الموزون والمؤتلف بالكمية والكيفية. والأصل فيها غريزة في الإنسان، خلقتها له الضرورة والرغبة الباطنة فيه بإخراج الأصوات على أنحاء مختلفةٍ عند الانفعالات الحادثة في النفس، فيتلذذ بها عند طلب الراحة أو تسكن بها الانفعالات أو تنمى، أو تكون مُعينةً على تخييل المعاني في الأقاويل التي تقترن بها “.[6]

الموسيقا -بحسب ما سبق- نابعة من نفس الإنسان؛ تمثل صُوىً شاهدة على وجوده، فتوثق ما تجيش به النفس من نزعات وأشواق، وتكشف عما تلجلج في الخاطر من ذكريات الواقع والخيال واللذة والألم… وصروف الحياة كلها. كما تصوِّر سعيه الأبدي لدركِ الاتساق بين الجمال والحق والخير؛ جمالٌ في نظره إلى ما حوله والتعبير عنه لغة وموسيقا ورسما وحركة. وحقٌّ فيما يحمله من تصورات حول عبوديته لخالقه ومعنى وجوده وصلته بباقي الموجودات. وخيرٌ في بحثه الدائم عن الاتساق المحقق لسعادته في الدنيا والآخرة.

يسكن الإنسانُ حين يضطرب الفكرُ ويضيق الصدر ويستوحش من الناس إلى الطبيعة والأدب والموسيقا؛ يفزَعُ إلى شجرة يستظل بهدوئها، يناجي حفيفها وطَيرها، يستصدر القوة من خضرة وَراقِها. ويأنس بالليل يرعى نجومه ويتفقد ذكرى الراحلين. وقد ينظم شعرا أو خواطر أو قصصا تصِفُ ما حاك في صدره وفاضت به نفسه. وتجده يدَندِن طرِباً بنغماتٍ وألحانٍ وجملٍ موسيقية تشي بحالات الحزن أو الفرح لديه.

التربية الجمالية تربيةٌ تروم توجيه ذائقة الإنسان ونفسه، إلى التفاعل مع المكونات الثلاثة الطبيعة والأدب والموسيقا، فيفزع إلى الطبيعة يناجيها ويقصد نظم الكلام ترويحا لشجونه وطربا بالموسيقا بما يوافق حاله. أجمِل بتربيةٍ تدل الإنسان على الجمع بين الطبيعة والأدب والموسيقا، يتغنى بجمال العالم بديع صوره وحركته.

ولا نعرف إذا ما كانت ثمة علاقة تناسبية بين المقامات الموسيقية وطبوعها وبين بحور الشعر وأغراضه، لكننا نحس بكيمياء خفيّة بينها؛ فلربما قابل البحر الشعري المقامَ الموسيقي وناظر الغرض الشعري القالب الموسيقي. وإذا صح ما قلناه، فإنّا سنكشف -حينئذ- سر الخليل الفراهيدي في صناعة علم العروض انطلاقا من تجربته الموسيقية.

3.    جمالية الصمت

الصمت لغة كاملة؛ فللأعين أحاديث وشجون، كما لقسمات الوجه وحركات الأيدي والأرجل إشارات يفهمها أهل العلم والنُّهى. وقد لا تتسع اللغة للتعبير عما يجول في الخاطر، فتقف الكلمات عاجزة عن تصوير مشهد أو وصف فكرة.

نعم، كما أن الصوت لغة فإن الصمت لغة؛ فالصمت في الموسيقا حيز يوازي حيز الصوت، للصوت علاماته الموسيقية وللصمت علاماته المقابلة للصوت في القيمة الزمنية، لكن قيمة الصمت كانت دائما أبلغ تأثيرا وقوة.

نقدم مثالا آخر، يبين ما يضفيه الصمت من جماليات على المسموع، بخاصة عندما يكون المسموع مقدسا؛ فإنك حين تنصت لتلاوة من سور القرآن الكريم بصوت الشيخ محمد رفعت رحمه الله، تأخذك الدهشة لما تجده من اختلاف عن باقي القراء المعتبرين؛ فللصمت في تلاوته مكانة خاصة جدا، بين الآية القرآنية والآية الموالية حيز مهم يملؤه صمت مهيب، يناسب التعبير القرآني وما يستلزمه من هيبة أو وعيد أو استبشار بموعود الله وفضله.

لأجل ما سبق نجعل وكدنا في توجيه الطفل لمعرفة جيد الأنغام والكلام، مع حثه على استبصار مواطن الجمال واستقصائه حيث كان وكيف كان، حتى نصل إلى درجة وعيه بفضائل الصمت في المسموع والمقال، ليمجّ مصادر الهذر والإسفاف والتفاهة. وفضائل الصمت جمة فصّل الفلاسفة والبلغاء فيها، حتى قيل إن “الصمت في موضعه ربما كان أنفع من الإبلاغ بالمنطق في موضعه، وعند إصابة فرصته. وذاك صمتك عند من يعلم أنك لم تصمت عنه عياً ولا رهبة. فليزدك في الصمت رغبةً ما ترى من كثرة فضائح المتكلمين في غير الفرص، وهذر من أطلق لسانه بغير حاجة”.[7]

يدلنا الجاحظ على فضيلة الصمت في مواطن الهذر؛ فلكل مقام مقال، القول البليغ خير منازل الكلام والصمت يَفضله إن صار الكلام ضربا من العيّ. من أجل ذلك يجمُل بنا إرشاد الطفل إلى معرفة أحوال الخطاب، ونرغبه في اختيار اللفظ الموافق لمقتضى المقام.

4.    مدرستنا والتربية الموسيقية

حضور التربية الموسيقية -والتربية الجمالية بصنوفها- بوصفها مادة دراسية المؤسسات التعليمية ضرورة تربوية وتعليمية ملحة، وإن تنمية ذائقة أطفالنا بالتربية الفنية والسعي إلى إثباتها، منهاجاً وبرامجَ داخل مدارسنا في مختلف الأسلاك يجنبنا الآثار السلبية للهدر الاجتماعي وسموم التفاهة الإعلامية وإفساد الذائقة. و “إن فساد ذوق أمة أخطر عليها من أعدائها على المدى الطويل، لأن فساد الذوق يفسد على صاحبه عيشه وعيش غيره […] وفساد أذواق العامة يستقطب الفاسدين من أهل الفن فترى الناس يرفعون من شأن إمّعات عادمي الكفاءة والموهبة ويرون نتاجاتهم الرديئة فنا عظيما.. حالة كهذه لا تنفع فيها قوانين ولا مراسيم، بل التربية الموسيقية والفنية وحدها كفيلة برفع الذائقة وتهذيبها لتدافع عن نفسها ضد المرذول”.[8]

وحقيق بنا -آباء وأمهات ومدرسين وفاعلين- أن نوفر البيئة الفنية لفلذات أكبادنا، نربيهم على حب الجمال حيثما كان مصدره، جمال يوافق الفطرة السوية والذوق السليم. اختيارا للأعمال الأدبية والمنتخبات القريبة من مرحلتهم العمرية، واقتناء أدوات الرسم والتلوين وحثهم على محاكاة الأشياء والمناظر وما تجيش به نفوسهم ألوانا وخطوطا وظلالا.. ونربي آذانهم؛ فنختار لهم قطعا فنية مسموعة وتلاوات قرآنية جميلة تناسب أعمارهم في سنواتهم الأولى، ثم تكون التربية على الاختيار أساسا في اختياراتهم الحرة لما تميل إليه نفوسهم.

ومن جوامع كلم رسول الله ﷺ “إنَّ اللهَ جميلٌ يحبُّ الجمالَ”.[9] جمال جوهر ومظهر، تجملا بالخلق الحسن والأدب الجم والرفق في كل شأن، وطهارة الجسم ونظافة الثوب وحسن السمت وتناسق اللباس وألوانه. و﴿لِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ﴾ [الأعراف: 26].

من أجل ذلك، نبذل الجهد كله في تربية الذوق الجمالي لأطفالنا والارتقاء، وإلى هذا دعا الإمام رحمه الله بقوله: “ألا وإننا حَمَلَةُ رسالة سماوية، فلنَبْرُزْ لِلناس بصورة جذابة، ولنَكُن شامةً بين الأمَم نُلْفِتُ الأنظارَ بجمال خُلُقِنا وأفعالنا ومظهرنا”.[10]

نبلغ الإنسان البلاغ القرآني والبيان النبوي إن سلكنا به مذهب التدرج والرفق، لنخلصه من قيود الثقافة العالمية وبهرجها، ونستنقذه من دهشة الفن الهوليودي المائج المارج، وصخب أصوات نشاز ليس لها حظ من جمال الموسيقا ورقتها، ومقاطع مرئية قصيرة تهيج بها سوق منصات «التواصل غير الاجتماعي». 

لكن، كيف نبلغ ولما يتحصل لنا معرفة بماهية الفنون ومهارات أدائها من أدب ومسرح وموسيقا وسينما وآثارها في النفس؟ كيف نبلّغ ولما نستخرج بعد من بحر المنهاج النبوي لآلئه ونتشرب نظراته الفقهية المنطقية الفاصلة، المجيبة عن كيفِ الإبلاغ وقواعد التدرج ومعالم التصور المنهاجي اللاحب، البعيد عن كل جدل كلامي وخلاف فقهي وقصور في فهم النموذج النبوي والصحابي العملي المعياري الخالد؟   

وهاك من حكمة الإمام رحمه الله تجلي الغاية المرجوة مما أشرنا إليه، يقول: “الكلمة المربية الهادفة إن تزينت بزينة الله، وتلطفت بوسائل العصر وأشكاله من الألبسة المقبولة شرعا لا ينبغي أن تُلحِد بها جمالية الشكل وتميل عن الهدف وهو التبليغ. تقر عين المبلغ إن اكتحلت عين القارئ والناظر والسامع بإثمد الهداية وازدجر واستقام تائبا إلى الله راجعا إليه من غواية. ضاع جهد المبلغ وتسرب معنى رسالته في رمال الجمالية إن هتف القارئ: ما أرق الشعر، أو صاح الناظر السامع: ما أحسن الصنعة والفن!”.[11]

 


[1] . تنوير المؤمنات ج1، ص. 218
[2] . ابن خلدون، عبد الرحمن (2004) مقدمة ابن خلدون (ط. 1). ج2، تح: عبد الله محمد الدرويش، دمشق: دار يعرب. ص: 368.
[3].  ياسين، عبد السلام (1962) كيف أكتب إنشاء بيداغوجيا (ط. 1). الدار البيضاء: دار الثقافة. ص. 89-90.
[4] . Gardner, H. (1994). The Arts and Human Development, N.Y, Basic Books.
[5].www.sciencenewsforstudents.org/article/blame-your-environment-your-taste-music  

    (اطلع عليه في:07/08/2022)
[6] . الفارابي، أبو نصر (د.س) كتاب الموسيقى الكبير، تح: غطاس عبد الملك خشبة، القاهرة: دار الكاتب العربي للطباعة والنشر. ص. 15.
[7] . الجاحظ، عمرو بن بحر (2002) رسائل الجاحظ، تح: علي أبو ملحم، منشورات دار ومكتبة الهلال، بيروت. ص. 79.
[8] . اللّو، نبيل. (2016، نوفمبر) عَود على العود (الموسيقى العربية وموقع العود فيها)، مجلة عالم المعرفة، (442). ص. 178.
[9] . رواه الحاكم، المستدرك على الصحيحين، الرقم: 7444. والبيهقي، شعب الإيمان، ص. 5782.
[10] . ياسين، عبد السلام (2018) إمامة الأمة (ط. 4). بيروت: دار لبنان للطباعة والنشر. ص. 168.
[11]. ياسين، عبد السلام (1992) المنظومة الوعظية. الدار البيضاء: مطبوعات الأفق. ص. 17.

أضف تعليقك (1 )



















يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لضمان حصولك على أفضل تجربة ممكنة. تعرف على المزيد