سيدي عبد السلام ياسين كان قدرا كريما ساقته الألطاف الإلهية لهذه الأمة في هذا العصر الكئيب ليبدأ إيقاف انحدار الأمة بسبب ملوك العض والجبر الذين انحدروا بها كل منحدر، ويبدأ مشروع إعادة بناء صرح الخلافة. فكانت بشارته للأمة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المبشر بعودة الخلافة على منهاج النبوة، بشارة تعليم وتذكير ببشارة رسول الله، تلتها بشارة عملية ببناء صرح جماعة عاملة ومدرسة شاملة ضربت بأعدادها ورجالها ونسائها في كل بقاع الأرض، أعداد هائلة من الدعاة المتوثبين لخدمة دعوة الله القدرية للأمة بالعودة إلى الخلافة الراشدة، ابتداء من التوبة والرجوع إلى دعوته سبحانه لعباده أن يسارعوا إلى مغفرة من ربهم وجنة.
لقد كانت أيامنا كلها سعادة ونحن ننعم في صحبة ومعية هذا الرجل رغم ظلام أيام الجبر الكئيبة . كانت لحظات زيارة أو فلتات المجالسة ولو للحظات، نتشوف إليها بلهفة دون أن نطلبها تأدبا وتهيبا. كانت بمثابة الجائزة الكبرى والكرامة العظمى التي ننعم بها، ننتظرها ونتنسم عبير آثار تذكيرها ونفخر بتملى أعيننا بنظرة في جلال طلعته المهيبة حيث رؤيته تذكرنا بالله وتشعل فينا إرادة وجه الله والتوثب لنصرة دينه امتثالا للأمر النبوي واقتداء يستلهم من جهاد المرشد المصحوب.
كانت آثاره وأقواله وأخباره ومجالسه كلها جواهر وكنوزا ونفائس تتعاقب وتتقاطر علينا كل أسبوع وكل شهر وكل مناسبات الدهر، دون كلل أو ملل، وفي كل منها نقطة لطيفة في العلم أو حل لمشكلة فهم في كتاب الله أو سنة رسول الله أو عزمة على الاستقامة على طلب الإحسان وإرادة وجه الله.
كان جهاده بماله وجهده وسلامته وأمنه المادي والجسدي والأسري وكل ما يمكن أن يخاف عليه إنسان. قدم كل شيء في سبيل الله جهادا في وجه أشرس ملوك الأرض وأشدها فتكا بالذين لا يجيدون صلاة دين الانقياد أو الذين لا يرفعون أصواتهم جيدا بالتسبيح بأمجاده. فما بالك بمن يأمره وينهاه وينصحه برد المظالم وإرجاع أموال الأمة المنهوبة، معرضا في سبيل كلمة الحق نفسه للقتل بعد سوء عذاب، وأهله للتشريد أو الاختفاء في ظلمات عهد تازمامارت، وهو الذي لم يطرف له جفن ولم يرف له عرق جزعا يوم جاءه خبر اعتقال أهله وأولاده جميعا في موقف من مواقف المدافعة مع جبناء المخزن الخسيس.
الأسرة الكريمة الفدائية، والمجاهدة جهادا مستميتا في إيواء الدعوة مضحية بأخص خصوصياتها من بيت وفراش ووقت وحظ خاص من الأبوة من أعظم أب في الدنيا، بسبب الحصار والتضييق، أو بسبب كثرة الالتزامات واللقاءات والزيارات والإيواءات والاستزارات من كل بقاع المغرب، ثم بعد ذلك من كل بقاع الدنيا، لا تعرف ضجرا ولا مللا ولا ضيق نفس، صباحا ومساءا، يوما بعد يوم، بل ما رأينا منهم إلا القلب الواسع الرحب والوجه الباش والاستقبال الحار، فجزاهم الله عنا خير جزاء.
انتقل الوالد المربي إلى الدار الآخرة، وأخذ معه فلذات من قلوبنا وأكبادنا كمدا وألما على فراقه. رحيله مزق منا قلوبا وأكبادا وأفئدة وترك ذهولا ويتما. كان لزماننا ولحياتنا كالرأس من الجسد، وبرحيله أحسسنا إحساس الطير الذبيح وحيرة الأم الثكلى. لكنه قلد كل واحد منا بلواء العلم والسلوك والجهاد على منهاج النبوة، لواء رسول الله الذي حمله مرشدنا فتبعناه ونصرناه وصحبناه، حتى جاءت المنية فورثه كل واحد من محبيه وأصحابه وتلامذته وأبنائه. هذا اللواء له عمود، وعموده قيام الليل بالصلاة والذكر، وفي وجهي رايته كتاب الله من جهة، نتلوه ونقوم به من الليل نناجي ربنا ونتلقى كلامه في ساعات القرب بنية التنفيذ، وفي وجه الراية الآخر دعاء الرابطة الرابط بالموكب النوراني مبتدئا بمرشدنا رحمه الله صعدا إلى المقام الأغر والسراج الأزهر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مرورا بالأنبياء والأولياء.
وكلهم من رسول الله ملتمس *** غرفا من البحر أو رشفا من الديم
مستأنسين بذكر الواحد الأحد بكلمة التوحيد، وموفين من الصلاة على المصطفى صلاة المكيال الأوفى، متخلقين بشعب الإيمان المنتظمة في خصال النبوة العشر، كل منا يحمل لواءه مستميتا كي لا يسقط عموده ابتداء من قيام الليل، استماتة مصعب بن عمير رضي الله عنه يوم أحد على لواء رسول الله، حاملين أمانة ووصية أن يكون كل واحد منا مدرسة قرآنية متنقلة عبر الأجيال لفظا وخلقا ورسالة… هكذا أوصانا الحبيب المصحوب رضي الله عنه وأرضاه.
من آلمه فراق المرشد رحمه الله، فله في دعاء الرابطة عزاء ولقاء. ومن ناح بدعوى المحبة والشوق وألم الفراق، فليأت ببينة الاتباع والوفاء على العهد بوراثته، والموت على ما مات عليه، وإفناء العمر فيما أفناه من الدعوة، ونصرة المستضعفين وإقامة العدل والاستماتة في مواجهة أهل العض والجبر دونما رضى بأنصاف الحلول أو جريا وراء لعاعة الدنيا. وأغلى ما نهديه لأنفسنا ولمرشدنا هو ما يسعد به أكثر وأكثر في أخراه أن نكون أولياء لله محسنين مجاهدين كمال الإحسان وتمام الجهاد، جهاد الصمود في وجه كيد شياطين الملك الجبري ومن استخفه من خيله ورجله، وجهاد بناء صرح الخلافة لبنة لبنة، فنسعد في دنيانا بمعرفة الله وشرف خدمة دينه، وفي الأخرى بلقاء مصحوبنا ومحبوبنا في الله سيدي عبد السلام، إخوانا على سرر متقابلين والى وجه الله ناظرين بوجوه ناضرة ضاحكة مستبشرة بلقاء محمد وصحبه عليهم صلاة الله وسلامه.
نسأل الله الكريم الوهاب أن ينعم على مرشدنا من مقامات القرب والود والمحبة والاصطفاء والاجتباء مجتمعا، مثل ما أعطى وأنعم مقسما ومفرقا على غيره من الصديقين والشهداء والصالحين، وأن يزيده من واسع فضله وكريم إحسانه أضعاف ذلك إلى أبد الآباد، وأن يرزق زوجه وأولاده وإخوتنا مجلس الإرشاد وإخوتنا في مدرسة العدل والإحسان الصبر والسلوان، وأن يجعلنا وإياهم خير خلف لخير سلف، وأن يجعلنا من إخوان سيدنا رسول الله المجتبين للقيام بالخلافة الثانية قياما لله، يقينا في موعود رسول الله وجهادا على خطى مرشدنا ومحبوبنا في الله ومفخرة زماننا سيدي عبد السلام ياسين رحمه الله وقدس سره.
أضف تعليقك (0 )