post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

بدأتْ هذه الصحوة الإسلامية، كما يعبِّرُ العالم كله، بانتشار الفكر الإسلاميِّ، وتوبة الشباب، وتربية محاضن الإيمان. هذه بركة عظيمة باركَنا الله عز وجل بها، تُؤْذِنُ بعودة المسلمين إلى عزة الخلافة في الأرض. وقد انتشر الحِسُّ الجهادي، والوعيُ الحركي، والخبرة السياسية بين هذا الشباب الصالح، وأقبلت هذه الأجيالُ من أشبال الإسلام تحفظ القرآن، وتلتهم بشوق كل حديث عن الإسلام ومجده، والنبوءة وخبرها، والشريعة وضوابطها. لكن إن تحدثت عن معرفة الله، والسلوك إلى الله، حَمْلَقَتْ الأعينُ، وارتابت القلوب، وأحجمت العقول. ويشكو علماءُ الدعوة، وشباب الدعوة من الأزمة الإيمانية والفراغ الروحي. وفي ركن من أركان الزوايا أو على منبر المشيخة رجال يعلمون «علم السلوك» و«قواعد التصوف». ولا صلة بين هذين العالمين، ولا تُمْكِنُ، ولا تُفِيدُ. لأنَّ من يعيشُ «أزمة إيمان» و«فراغ روح» لن يجد في «علم السلوك» و«قواعد التصوف» علاجا، لأن السلوك عملٌ لا كلام. لا تفيد الصلةُ ولا تُمْكنُ، لأن المجاهد الناهض من هذا الشباب يسمع شيئا نُكُراً إذْ يراوده الشيخُ المُنـزَوي على ترك السياسة، والاشتغال بما يعنيه. ويفر الشباب، وتاراتٍ ينفُضُونَ أيديَهم من الدعوة المجاهدة ليقبَعوا في زهادة الخاملين مستجيبين لشيخ الزاوية. فهل من مرجع إلى السنة المحمدية الجامعة بين الجهاد الأكبر جهادِ النفس، وبين الجهاد الأوسع جهادِ نُصرة الله في الأرض؟ «المجاهد من جاهد نفسه»(1) كما جاء في الحديث النبوي، فهل من سبيل لتتويج جهاد النفس بجهاد يُحيي الأمة ويمكن لدين الله في الأرض؟ هل من الممكن أن نخوض معارك إقامة الدولة الإسلاميَّة دون أن يفوتَنا السلوكُ إلى الله جل وعلا ومعرفته والتقرب إليه؟ فإننا نقرأ أن الصالحين كانوا في أزمان الفتنة يشتغلون بأنفسهم عن الناس، بل عن العالم أجمع. فريق من الناس انتهى إلى تكفير كلِّ من تَحَدَّثَ عن معرفة الله، وعن عجائب القلب، وعن أنوار الذكر، وعن آداب السلوك، وفريق بَدَّع. وتُرادِفُ كلمةُ «صوفية» عند فريق كلمة «زندقة» و«فلسفة» و«شعوذة». وحَيْرةُ الصادقين بين رَغبةٍ في القلب مُتأجِّجَةٍ ونار النقد والتكفير التي تُصْلِي السابقين واللاحقين حُمَمَها لا تنتهي. ليس هذا كتابَ جدلٍ ولا يتسع له. لكنْ دَعْ عنك تلك المصطلحات المفَرِّقَةَ، واتْرُكْ إلى المولى حسابَ أمة قد خلت من الخصام. فإنَّ السلوك إلى الله جلت عظمته لا يمر عن طريق انتصابك قاضيا على الناس، ولا عن طريق تعمقك في دراسة «علم السلوك»، ولا عن طريق دفاعك الذي لا يجدي ولا يليق بما ابتدعه أصحاب الأحوال باسم التصوف، وما جناهُ المتفلسفون على الطريق باسم التصوف، وما كفر وتزَنْدقَ أصحابُ الحلول والاتحاد والسحر والشعوذة. دعْ المصطلحات، وتعال يشْكُ بعضُنا إلى بعض لواعجَ الشوق إلى الله، ونتواص بالحق وهو الله، ونتواص بالصبر مع الذين يريدون وجه الله. فإن لم تكن لي ولك إرادة، ولا شوق، ولا تعلق بالحق، فيا خُسْراه! وإن لم يكن لي ولك تصديق بأن من لم يجعل الله له نورا فماله من نور، وأن لله عبادا يتولاهم فيخرجهم من الظلمات إلى النور، ويجعل لهم نورا، ويجعلهم نورا، وأن النور يقتبس من قلوب العارفين بالله بالصحبة، ومن ذكر الله عكوفا على بابه، ومن صدق الإرادة والطلب، ودوام الحضور والوقوف بالباب: إن لم يكن لي ولك شيء من ذلك فيا حسرة على العباد! تعال أذكُرْ لك حديث القلب، علَّ الله عز وجل يجعلها كلمة غيث تصيب قلبا ناشفا متعطشا فتحصل في ميزاني ألقى الله بك في صحيفتي. فإنما يكتُب أمثالُنا إن كتبوا، ويتحدثون إن تحدثوا، لتبليغ كلمة الدعوة إلى الله، والسعي على بابه، واللحاق بأحبابه. ارجعْ إلى كتاب الله وسنة رسوله، واقرأ حديث القلب ونورِه، والنفسِ وتزكيتِها، ومقامِ المقرَّبين من الله المحبوبين أوليائِه، وكون المرء على دين خليله، وكون الأعرابِ مسلمين لمّا يَدخل الإيمان في قلوبهم، وكون المؤمنين أصحاب الميمنة لاحقين بالسابقين متخلفين عنهم. قف عند هذا الحديث الذي رواه البخاري وغيرُه رحمهم الله وناطحه وطعن فيه، يا سبحانَ الله ! بعضُ الحفَّاظ المحدثين. استغربوه واستعجموه. ثم انظر هل يطير بك جناحُ التصديق ولهفةُ الشوق إلى تلك الآفاق. أم تتبلد النفس وكأنَّ حَلَبَة َ ﴿ سَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ (آل عمران، 133) و﴿ سَابِقُوا ﴾ الواردَ ذكرُها في القرآن، وُصِفَتْ لِلْخَبَرِ البارد يسقط بعد تِلاوَتِه، لاَ عَيْنٌ بَكَتْ ولا هِمَّةٌ انبعثت. روى البخاري رحمه الله في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب. وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إلي مما افترضتُه عليه. وما يزال عبدي يتقرب إلَيَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببته كنت سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يُبصر به، ويده التي يَبْطِشُ بها، ورجلَه التي يمشي بها. وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذَنَّه. وما تَرَدَّدْتُ عن شيء أنا فاعِلُه تَرَدُّدِي عن نفس المؤمن، يكره الموت، وأنا أكره مَسَاءتَهُ». فازت والله الرجالُ، صدَّقُوا فاقتحموا إلى الله العقبة، فوجدوا ما وعَدَ ربُّنا حقا. جلَّ الله وتبارك وتقدس.



عبد السلام ياسين، إمامة الأمة، ص: 114-117.

التزكية والدعوة

الشباب والسلوك إلى الله

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

الطلاق.. أحكام واجتهادات وإحسان

سعد مثال الشباب المحمدي

تفسيخ اللغة العربية وإقصاؤها

عائشة في فجر شبابها

فتية الحق

الشباب والسلوك إلى الله

مقالات ذات صلة