العدل مطلب الدولة والمجتمع
إذا كان العدل الفردي والعدل الأسري مطلبين يخرجان من رحم المجتمع ما دام قوامُه أفرادا وأسرا، فإنه لا إقامة للعدل فيه دون طلب الدولة له، وتحمُّل الحاكم مسؤوليته إلى جانب المؤسسات والهياكل الاقتصادية، ومن مفاتيح تحقيق العدل باعتباره مطلبا للدولة والمجتمع:
– تشجيع “الاستثمار المنتج” ليكون رافعة للتنمية، وعاملا مشجعا للمقاولات على المبادرة المنتجة والمغامرة المحسوبة، “وردع المضاربة العقيمة”[1] لترسيخ قيم التنافس الشريف.
– عدل الإنتاج، فلا نجاح للدولة في توفير العدل الاقتصادي إن غاب شرط العدالة المجالية في الاستثمار، لأن غيابه يُجَذِّر التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية.
– عدل القِسمة الذي ينبغي أن يلازم الحاكم باعتباره “هدفه الأول، وأمره اليومي، وواجبه الدائم”[2]، فالتوزيع العادل للثروات تأمين للناس في معاشهم، ومفتاح للتقدم، ذلك أن “الخوف والجوع والنقص تكون بمجموعها معادلة التخلف”[3]، فلا تقدم بمعيار القرآن ومنطق السياسة والاقتصاد والاجتماع إن لم يحُلَّ الأمنُ محَلَّ الخوف، والكفايةُ الغذائية بدل الجوع، والاستثمارُ المنتج والتجميع الرشيد للرأسمال بدل النقص.
من صميم أمن المجتمع إنصافُ العامل بقوانين ضامنة للحقوق، وحامية من تَعَسُّف المشَغِّل، ومعاملة رافعة من الكرامة، مشجعة على العطاء، إذ “لابد من السلم الاجتماعية لتحقيق التنمية المنسجمة، تنمية أساسها إنصاف تعجز السياسات البهلوانية المتأرجحة عن تأمينه للعامل. والعدل والسلم الاجتماعية مرتبطان في المجتمع المسلم المعظم لشرع الله بالتوزيع العادل للفائض الاقتصادي”[4].
إن الظلم مُؤذن بالخراب[5]، و”الترف زهرة مزابل الفساد السياسي الاقتصادي”[6] يصنع البؤس فيتكَرَّس جِوارٌ مشؤومٌ يشيع التهميش والتفقير والاستبعاد الاجتماعي والاستعباد السياسي، فإذا كان العدلُ أمانَ المجتمع، فالظلم مآله الاحتقان الدافع للاحتجاج والمطالبات النقابية والعمالية والاجتماعية التي تضع الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية أولويات مطلبية ملحة كما يرى الإمام عبد السلام ياسين حين قال: “هات لي حرية، أية حرية عملية، لا تطعمني آمالا ومبادئ مثالية! هات لي عدل الخبز اليومي، عدل العمل، عدل الأجر على العمل، وعدلا ينقذ طفلي المريض، وعدلا يعطيني سكنا أخرج من كوخ البؤس! هات لي حرية الكرامة وعدل الكفاية!”[7]. ولا مناص من سعي حاملي هَمِّ المستضعفين على اختلاف مرجعياتهم إلى منع التظالم في المجتمع، ورفع الظلم، والمطالبة بالعدل وتأمينه، وحفظ الكرامة في سياق البحث عن الحرية.
العدل مطلب عالمي
لم تعد “حرية الكرامة وعدل الكفاية” في عالم اليوم مطلبا مجتمعيا أو سياسيا واقتصاديا للدولة، بل صار مطلبا عالميا لتعذر العدل العالمي، إذ تستحوذ فئة قليلة على غالب موارد الأرض وخيراتها، بينما الفئة الغالبة من المستضعفين ترزح في الفقر والبؤس.
إن عِمارة الأرض إرادة إلهية لقوله تعالى: [هو أنشأكم من الارض واستعمركم فيها] (سورة هود: 60)، وتقتضي هذه الإرادة من الإنسان السعي إلى تحقيق العمران بأبعاده المختلفة المادية والمعنوية، فلا يُغني العمران الاقتصادي والاجتماعي عن قرينه العُمران الإيماني والأخلاقي القائم على قيم التراحم الإنساني والتعاون على البر والتقوى إنصافا للمظلومين، ونصرة للمستضعفين ورفعا للضيم عنهم، لذلك “لا معنى للإسلام وهو دين العدل ومقاومة الاستكبار ونصرة المستضعفين، إن لم يحُلَّ عقدة البشرية المزمنة: الظلم”[8].
من حق الشعوب المستضعفة وشرائح المستضعفين في العالم أن تنعم بالعدل، بل المأمول ما دام الناس شركاءَ في الرحم الآدمية، وفي العيش في كوكب أرضي واحد أن يتشوفوا إلى تراحم إنساني يُعلي من شأن القيم الإنسانية، ويرتقي بالضمير الإنساني إلى أخوة إنسانية تسودها مشاعر الرحمة والمحبة والرِّقة والعطف بدل الأنانية والأثَرَة والاحتكار والاحتقار وغيرها من القيم السائدة في عالم اليوم المؤشرة على جفاف العلاقات الإنسانية، وبرودة العواطف بين البشر. إن هذا الواقع المؤسف يفتح أملا باسما ومطمحا منيفا لكل المستضعفين، حيث “من أرض البأساء يتطلع المستضعفون إلى رحمة يأتي بها إن شاء الله المقتحمون للعقبة: [وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة] (سورة البلد: 12-16)
يتطلعون إلى تكافل اجتماعي، إلى أخوة باذلة، حانية، مُحبة، تأسو الجراح وتُطلق السراح”[9]، فهل يُنصت المتسابقون نحو التصنيع والتسلح لأصوات عقلاء العالم المنادين بإنصاف الإنسان ووسطه الحيوي والبيئي الذي يهدد فسادُه أمن الكوكب الأرضي أم أن السِّباق المحموم يُعمي ويُصِمُّ رغم تدبيجات المؤتمرات العالمية عن ضرورة الحفاظ على البيئة والحماية من التقلبات المناخية؟
في ظل التهديدات البيئية المنذرة ببؤس ساكني الأرض يبقى من الضرورات الملحة تَنَادِي ذوي الغيرة من الأفراد والمؤسسات والدول والأمم لحماية البيئة من الفساد بمظاهره المختلفة، وإنقاذ الحضارات من السقوط الأخلاقي والانهيار الذاتي؛ ذلك أنه حينما “تنحرف عن سواء السبيل تنمو فيها وسائل الهلاك… وقد عبر عنه القرآن بالبطر بالمعيشة وكفران النعمة، وعبر عنه بالظلم وليس هناك من نتيجة إلا الإهلاك”[10] الذي يعتبر سنة إلهية لا تتخلف تصيب القرى الظالم أهلها [وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون] (سورة هود: 117)، [وكم اهلكنا من قرية بطرت معيشتها] (سورة القصص: 58). فهل من معتبر؟
[1]- عبد السلام ياسين، الإسلام والحداثة، دار الآفاق، ط 2، 2000م، ص 284.
[2]- عبد السلام ياسين، العدل، الإسلاميون والحكم، دار لبنان للطباعة والنشر، ط 3، 2018م، ص 222.
[3]- عبد السلام ياسين، في الاقتصاد، البواعث الإيمانية والضوابط الشرعية، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، ط 4، 2018م، ص 85.
[4]- عبد السلام ياسين، الإسلام والحداثة، مرجع سابق، ص 291.
[5]- عنون ابن خلدون الفصل الثالث والأربعون من مقدمته “في أن الظلم مؤذن بخراب العمران”، ينظر عبد الرحمن بن خلدون، المقدمة، تحقيق: درويش الجويدي، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، ط 1425هـ-2005م، ص 262-265.
[6]- عبد السلام ياسين، الخلافة والملك، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، ط 4، 2018م، ص 64.
[7]- عبد السلام ياسين، الإحسان، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، ط 2، 2018م، 1/399.
[8]- عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، الشركة العربية للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، ط 2، 1989م، ص 354.
[9]- عبد السلام ياسين، العدل، الإسلاميون والحكم، مرجع سابق، ص 199.
[10]- مجتمع المؤمنين من هدي القرآن، تفسير الدلالة لآيات تكوين المجتمع، عبد الكريم غلاب، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، ط 1، 1408ه- 1988م، ص 249.
أضف تعليقك (0 )