post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

المجتمع الأُخوِيُّ
علاقات الناس بعضِهم مع بعض، وعلاقاتهم بالحاكم في بلاد الحضارة المادية المصنعة الغربية علاقات قانونية محضة. انمحت فيها أو كادت كل عاطفة إنسانية. حتى الأمهات والآباء لا يجدون من البنات والأبناء الرعايةَ التي تُعْتَبَرُ في بلاد المستضعفين، لا سيما في بلاد المسلمين، حقا مقدسا. الأسرة مفككة، ولا يكادُ البنونَ والبناتُ يبلغون سن الثامنة عشرة حتى يُدفعوا خارج الأسرة أو يندفعوا. فتنفصم عرى الرحِمِ كما انفصمت عُرَى الزوجية. ويبلغ الآباءُ والأمهاتُ سن الكِبَر فتُؤويهم دارُ العجزة، الجرداء من العطف والحنان، أحوجَ ما يكون الناس إلى العطف والحنان. ومن المألوف في تلك المجتمعات القانونية أن يرفع الوالدان قضية ضد أبنائهما ليتقاضيا النفقة. في مجتمعاتنا أيضا دخل الانحلال علاقات المسلمين بعضِهم مع بعض، لكن لا تزال هنالك مُسْكَةٌ من الرحمة، خاصة في الأوساط الشعبية التي لم تُبْتَلَ بالعَدْوَى الجاهلية من قريب.
وبما أن حقوق الناس موكولة للقانون والمحاكم لا إلى الضمائر الإنسانية، فإن الحقوقَ في بلاد الغرب تباع لمن يدفع أجرَ المحامي الأحذق، الأقدر على الاحتيال على القانون. وفي بلاد الاشتراكيات حقوق صورية ومحاكمات صورية تعطي حرمة صورية لقبضة الحزب الحاكم والطبقة المستبدة.
من داخل تلك الأسوار يبلُغُنا حنينُ الإنسان المعذَّبِ ببهيميته وعلاقاته الجافة، وحقوقه القانونية الآلية المتوفرة لمن يدفع ومن يحكم. هذا صاحبُنَا رجاء جارودي يبسط لقارئه أرجاء الأخوة الإسلامية كما يتصورها ويشتاق إليها. نقرأ ما وراء البسط من شكوى لما عاناه الفيلسوف المُهْتَدِي حين كان مواطنا في ذلك المجتمع، وباحثا ومناضلا. قال: «إن تعليمَ القرآن يخالف فرديتنا الغابَوية، فهو لا يعتبر الإنسان حقيقةً منفردة منعزلة، لكن يعتبره جزءا من كلِّ أكبرَ، هو المجتمع الأخويُّ. ويعتبر في نفس الوقت هذا المجتمعَ الأخوي راميا إلى غايات أعلى منه&#8221;.
 عندما نقول إن الإنسان جزء من كل أكبرَ فإن هذا لا يعني من وِجهة النظر الإسلامية ما يمكن أن يُفهم منها في الغرب حيث لا نتصور بديلا للفردية إلا الاستبدادَ الشموليَّ. هذا الكلُّ الذي يعتبر المسلم جزءا منه ليس «الكل العضويَّ» الذي حدده هيجل، لا ولا هو المعنى الذي يقصده الفاشيون الذين يعتبرون أن الإنسان الفردَ لا معنى له ولا قيمة، بل ولا حقيقة، إلا بنسبته للدولة. ليست هذه العلاقةُ بين الإنسان وبين هذا «الكل» الأكْبر، كلِّ المجتمع الأخوي، علاقة بيولوجية دنيا بين الخلية والجسم العضويِّ الذي هو جزء منه. لا ولا هي العلاقة الوظيفية الاجتماعية المفروضة على كل فرد بواسطة توزيع العمل توزيعا يجعل هذا الفرد مخلوقا جزئيا محبوسا في دائرة تقنية أو اقتصادية أو سياسية تغربه عن ذاته وعن قدرته.&#8221; مثل تلك العلاقات (يقصد علاقات مجتمعات الغرب كما وصفها) لا يمكن أن تتكون إلا في أحضان مجتمع وجودُه هو الغايةُ في حد ذاته. أعني المجتمع الذي لا يحمل أيَّ مشروع غير مشروع تنميته وقوته.
&#8220;لكن المجتمع الأخويَّ الإسلاميَّ يخدم أهدافا تتجاوز وجودَه، حددَها الله (عز وجل). هاتان العلاقتان الساميتان، علاقةُ الإنسان بأسْمَى منه وهو المجتمع الأخوي، وعلاقة هذا المجتمع بأسمى منه وهو الله (عز وجل)، لا تؤسِّسان سلما سلطويا واضطهاد الإنسان للإنسان.
&#8220;إن المساواة والحرية (في الإسلام) لهما أسس مختلفة اختلافا جذريا عن أسسنا. إنهما ليسا وصفين للفرد المنعزل، لكنهما التعبير والنتيجة لتعلق كل الناس بالمطلق (يعني الله تعالى)، لتعلقهم بالجانب الربانيِّ من حياتهم الباطنية تعلقا يمكنهم من التعالي على المؤسسات البشرية وعن الاستكبار والتعسف استعلاء لا نهاية له».
لا حِظْ تكرار الشكوَى من الفردية المنعزلة. فمن خصائص المجتمعات الجافة من التراحم البشري، المتماسكة فقط بالعلاقات القانونية، أن يعْزَل الفرد في وظيفته التقنية، ودوره الاقتصاديِّ، موكولا إلى حيلته وماله، أو إلى الدولة التي تعتبره قطعة من جهازها، ومادة أولية من موادها.
كانت علاقات المسلمين بعضِهم ببعضٍ دائما علاقاتِ تراحم، باستثناء علاقة الحاكم بالرعية التي فسدت في وقت مبكر. لكن منذُ هجم علينا الاستعمار داخلَتْنَا فرديةُ الجاهليين الأنانيةُ، فنَزَعَ منا الاستعمار حريتنا باعتبارنا أمة، ونزع منا حرياتنا أفرادا أثناء حكمه المباشر، وبعد انْسِحَابه وحكم أذنابه. كان التفاوت الطبقي بيننا قبل الاستعمار، في أوساط الرعية، في حدود معقولة. لكن بعد انسحابه الصوريِّ وحكم الطبقات المفرنجة، ظهرت الطبقية الفاحشة. وانزوت علاقات التراحم بين المستضعفين نتيجة لبؤسهم، فإن الفقر يكاد يكون كفرا، وإنَّ العُدْمَ والفاقَةَ يُقسيان القلوب.
إن الفردية الجافة تهددنا بفساد العلاقات الإنسانية أكثرَ مما هي فاسدة. ومن شأن التصنيع على النمط الغربي، والتنمية عليه، والحكم، والتنظيم الاجتماعي، أن يشجع الفردية الأنانية أو الجزئية كقِطَع الغيار. وباتباعنا لديننا وتعاليمه فقط، وبابتكارنا لنمط التصنيع والتنمية، والحكم والتنظيم الاجتماعي، على ضوء كتاب الله وسنة نبيه، لا نكون رأسماليين أنانيين، ولا قطع غيار في آلة الدولة الشيوعية، ولا أدوات فارغة لا معنى لها في دولة فاشية.
المصدر: الإمام عبد السلام ياسين، إمامة الأمة، الطبعة 1 السنة 2009م، ص: 109 ـ 112

السياسة والحكم

المجتمع الأُخوِيُّ

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

الحج مطهرة وهداية

فضل العشر الأوائل من ذي الحجة

من شعب الإيمان..الحج والعمرة

صور من محبة رسول الله ﷺ

خطاب الروح الصليبي وبطشه

الأنانية والجشع وصناعة الفساد

مقالات ذات صلة