مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسينمدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين
مدرسة الإمام المجدد
عبد السلام ياسين

المرأة والأسرة

المرأة والرفق في فكر الإمام عبد السلام ياسين

0
المرأة والرفق في فكر الإمام عبد السلام ياسين

المرأة والرفق في فكر الإمام عبد السلام ياسين:

يعتبر الرفق من المفاهيم الحاضرة بقوة في المشروع التجديدي للإمام عبد السلام ياسين رحمه الله، فلا يخلو كتاب من كتبه إلا وفيه ذكرٌ للرفق، سواء بذات اللفظ أو بغيره من الألفاظ التي تهدف إلى نفس المعنى. فهو مفهوم محوري في فكره وعمله التربويين، فسواء تحدث في التربية أو في التغيير أو في السياسة أو في الاقتصاد أو عن المرأة أو في غيرها من الموضوعات والقضايا التي تناولها في مشروعه، إلا ونجد حديثه يتمحور حول معاني الرفق والرحمة والتؤدة.

الرفق مفهوم منهاجي تُستمد دلالاته من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد تمثل ذلك المفهوم واقعا في سيرة جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. من لدن سيدنا آدم إلى سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين. يقول الإمام رحمه الله: “كلمة رفق الغنية بدلالاتها تتطلب ترجمتها استحضار كل مفاهيم القرآن والسنة، إضافة إلى المثال الحي الذي قدمه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في سيرتهم”، [ref]عبد السلام ياسين، الإسلام والحداثة، دار الآفاق، الدار البيضاء، ط1، 2000، ص: 222. [/ref]وبعد استقرائه لمفهوم الرفق يؤكد أنه: “سيكون من الوجيه إذن أن تلجأ الترجمة المفسرة إلى مقابلة لفظ الرفق بالكلمات التالية: “الحلم، اللين، السماحة، الطيبة، العطاء، العفو، الشفقة”.[ref]المرجع نفسه، والصفحة.[/ref]

فـ”الرفق هو المنهاج الإسلامي، ووازع القرآن والدعوة أسبق” [ref]عبد السلام ياسين، العدل، الإسلاميون والحكم، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، ط1، 2000، ص 289.[/ref] من وازع السلطان والدولة، لذلك يجعل الرفق في صلب العمل التربوي والتغييري البنائي للإنسان والأوطان. حتى يكون “الرفق سمتنا الواضحة وشارتنا البائحة”، [ref]المرجع نفسه، ص 429.[/ref] وبهذا الاعتبار نجد أن مفهوم الرفق وأبعاده وتجلياته وتوظيفاته، لها حضور مركزي في المشروعي المعرفي التجديدي عند الإمام ياسين.

المحور الأول: موقع الرفق في المشروع التجديدي للإمام عبد السلام ياسين

التجديد هو إحياء لسنة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم بما تمثله من تطبيق عملي للدين كله، هو إحياء لمعاني الإيمان بالله تعالى وباليوم الآخر، كما أنه إحياء واستنهاض للأمة لتنال وتحقق فيها الخيرية التي حباها الله بها إن هي استوفت الشروط وعملت بالأسباب.

ولقد كان الجمع والوصل بين الإحياءين من أهم معالم التجديد، روى الإمام أحمد وحسنه السيوطي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن الإيمان ليخلق في القلب كما يخلق الثوب، فجددوا إيمانكم”، وفي رواية أخرى: “إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم” . [ref]سليمان بن أحمد الطبراني، صحيح الجامع الصغير، رقم 1590، عن ابن عمر بن الخطاب بإسناد حسن ورواه الحاكم عن ابن عمرو بن العاص ورواته ثقات. [/ref]كما روى أبو داود والبيهقي والحاكم بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها”، [ref]سليمان بن الأشعث، سنن أبي داود،  كتاب الملاحم، باب ما يذكر في قرن المائة، (4/ 109) [/ref]وروى الإمام أحمد والطبراني، ورجاله ثقات، والحديث صححه السيوطي، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “جددوا إيمانكم قيل: يا رسول الله وكيف نجدد إيماننا؟ قال: أكثروا من قول لا إله إلا الله”، [ref]قال المنذري (الترغيب والترهيب 2/ 268) رواه أحمد والطبراني وإسناد أحمد حسن.[/ref] هذه الأحاديث النبوية نظر إليها الإمام وقرأها في مجموعها مستحضرا أنه “من أصبح وهمه غير الله فليس من الله، ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم”، [ref]- سليمان بن أحمد الطبراني، في “الأوسط” (‏1/29 /1/ 466/ 2) .[/ref] فتحصل لديه رحمه الله أن: “الإيمان يبلى فيجب تجديده، ويضعف فيتعين تقويته، وأن الأمة تكلؤها عناية الله فيبعث سبحانه لها من يجدد لها دينها، وأن الإيمان يعالج من بلاه وضعفه بطبٍّ موصوف لا لبس في كنهه وماهيته ووسيلته”.[ref]عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، الشركة العربية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 1989، ص 31.[/ref]

فلا يتحقق تجديد الدين إلا بتجديد الإيمان فهو الباعث والموجه والضامن بأن يكون تجديدنا لأمر الدين في شموليته تجديدا على منهاج النبوة. إذ “التجديد المطلوب للأمة هو تجديد بواعثها لتقوم، أفرادا تجدد إيمانهم بالتربية، وجماعة تجددت قوتها بتجدد بواعث أعضائها الإيمانية بواجب الجهاد واقتحام العقبة”.[ref]المرجع نفسه، ص 31.[/ref]

فأين الرفق من كل ما سبق؟

يجيبنا الإمام رحمه الله بقوله: “كان محمد صلى الله عليه وسلم مؤيدا معصوما، وكانت مزايلة الجاهلية وهي ظلام بيِّن، والخروج إلى الإسلام وهو نور ساطع، بنزول الوحي وحضور المصطفى القائم بالقسط. أمرا فاصلا له حدود واضحة. أما التجديد من فتنة وهي غبش معتم غامض إلى إسلام يختلف الناس في فهمه، ويتفاوتون في إدراك ما يعنيه بالنسبة للفرد والمجتمع والسياسة والاقتصاد والحياة اليومية، فأمرٌ شاق يطلب رفقا وتدرجا، إن آثرنا البناء على الكسر، والسير الثابت على القفز، لاسيما وقد انقطع الوحي، وانتفت العصمة، وعظم الخطب من كل جانب”.[ref]المرجع نفسه، ص 314.[/ref]

الرفق إذن وما يحمله من معاني التدرج والأناة والحِلم ورحمة الخلق، هو أمر آكد ولازم في عملية التجديد، لا على مستوى تجديد الإيمان ولا على مستوى تجديد الدين ككل. وسيادة السلوك الإيماني في المجتمع في كل مستوياته لن يتم ضربة لازب وإنما عبر أجيال مؤمنة متواصية بالحق والصبر والمرحمة، فليس التحويل الإسلامي مسرحا يرفع معه ديكور ليوضع ديكور، يخرج المجرمون ليدخل الأتقياء البررة”.[ref]المرجع نفسه، والصفحة.[/ref]

أولا: من أجل تربية متوازنة رفيقة

تحتل التربية بمفهومها الشمولي الصدارة في المشروع التجديدي للإمام عبد السلام ياسين رحمه الله، فهي الأس والأساس لكل حركة تغييرية تبتغي رضا الله سبحانه، وتحقيق موعود رسول الله صلى الله عليه وسلم في إمامة الأمة على منهاج النبوة.

التربية باعتبارها: “سماع فطري وصحبة عملية، وملازمة وأخذ عن أكابر العلم الإيمان” [ref]عبد السلام ياسين، الإحسان، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، ط1، 1981، 1/ 114.[/ref]تستلزم صحبة رفيقة تأخذ بيد التائب بحلم وأناة وصبر وتدرج في مراتب الدين، إسلام ثم إيمان ثم إحسان، “فالتربية معالجة لمادة إنسانية، وشخصية لها ماض وبيئة اجتماعية واستعدادات، هذه المعالجة تريد من المربي حلما كثيرا و صبرا و مداراة و تنويعا في أساليب التأثير”، [ref]عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، مرجع سابق، ص 293.[/ref] ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فيكون من صلب التربية والتعليم النظر في أمثلة حلمه صلى الله عليه وسلم وأناته وصبره وتحمله وشفقته على الخلق ليكون ذلك لنا نموذجا يحتذى، فإننا لن نسع الناس ولن ينفتح لنا الناس إن تقدمنا إليهم بالوجه العابس والتشديد والتعسير. وفي سيرته مطهرة أمثلة رفيعة في رفق رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعليم الناس دينهم، وتدرجه بهم، وحلمه على ذوي الطباع الخشنة وقليلي الفقه”.[ref]المرجع نفسه، ص 293.[/ref]

ثانيا: مركزية الرفق في التغيير المجتمعي

إن نظرة الإمام رحمه الله للتغيير تستند في أساسها على قانون التغيير القرآني، يقول سبحانه وتعالى: “إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ”(الرعد:11)، وبالتالي فإن تغيير الواقع في مستوياته المتعددة السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، هو مرتبط بل متوقف على تغيير ما بالنفس أو بتعبير آخر متوقف على التربية. و”كل تغيير في السياسة والاقتصاد فإنما هو تبع لهذا التغيير الكلي الجوهري للإنسان ونفسيته وعقيدته وأخلاقه وإرادته”، [ref]عبد السلام ياسين، إمامة الأمة، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، ط1، 2009، ص 88.[/ref] فإذا كانت حاجتنا إلى الرفق شديدة أثناء التربية، فإننا إلى الرفق أشد حاجة أثناء التغيير إذ “لا يغير العنف إلا المظاهر والهياكل النخرة”،[ref]عبد السلام ياسين، رسالة إلى كل طالب وطالبة، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، ط1، 1995، ص19.[/ref]وقد ميز الإمام بين مرحلتين أساسيتين في عملية التغيير، مرحلة “نزع قوة السلطان من الأيدي الخبيثة”، وهي التي لخصها في مفهوم القومة، ثم مرحلة ما بعد القومة، وأكد رحمه الله أن الرفق مطلوب فيهما معا، لأن “الأمناء الموعودين بالخلافة الثانية لفي أمس الحاجة إلى تؤدة الصبر والأناة وكظم الغيظ لإحقاق الحق وبناء الأمة، بقدر ما هم بحاجة إلى القوة العازمة المنضبطة لإبطال الباطل، هذا الباطل لا صبر عليه إلا بمقدار ما يكون الصبر دؤوبا على العمل من تحته لنسف أصوله، ومعظم هذا العمل الناسف إيقاظ الأمة، وتأليف حزب الله، والتبشير بالإسلام.”، [ref]عبد السلام ياسين، الإحسان، مرجع سابق، 2/315.[/ref] وبعد ذلك، أي “بعد نزع قوة السلطان من الأيدي الخبيثة فحاجة المؤمنين المحسنين لتؤدة الرفق وكظم الغيظ والعفو عن الناس تزداد إلحاحا. ذلك أن ماضي الفتنة لابد وأن يخلق آثاره الفاسدة المفسدة المتمثلة في أقوام بأعيانهم وفي تضامنات وعصبيات ومصالح متحجرة مشتبكة مع مصالح جمهور الأمة. فالحل العنيف الصراعي الثوري الذي يوصي بالقتل والسفك وتخريب بيت كل من انتمى للماضي حل غير إسلامي”[ref]المرجع نفسه، ص 315.[/ref]

إن التخوف الذي يبديه البعض من الإسلام، خصوصا عندما يطرحه بعض “الإسلاميين” منهاجا للتغيير هو في جانب منه تخوف مشروع، فبغض النظر عن التشهير والدعاية المغرضة التي يتعرض لها الإسلام من أعدائه وخصومه، فإنه لا يمكن أن ننكر أو نتجاهل أن المسلمين أنفسهم أو بعض من ينتسب إلى التيار الإسلامي يقدمون بحسن نية أو سوء نية، صورة مشوهة عن الإسلام، يقول الإمام رحمه الله: “شرى العنف وتفاقم في العالم، وكان لبعض الإسلاميين انسياق مع منطق العنف، العنف يأتي من سوء الطبع العنيف، كما يأتي من سوء الفهم للواقع”.[ref]عبد السلام ياسين، العدل، الاسلاميون والحكم، مرجع سابق، ص 425.[/ref]

ولقد أصبح من آكد مهماتنا ونحن نبشر بغد الإسلام، الحرص على أن يكون خطابنا خطاب طمأنة للآخر وتعايش معه وتعاون. يقول الإمام رحمه الله: “في رفق الإسلام سعة، وفي باب التوبة انفتاح ليرجع أعداء الشعب المسؤولون أمس الفتنة عن توحيل الشعب وظلمه إلى الله في غد الإسلام. جسم الأمة مريض، لكن آثرنا أن نعبر إلى ما نريده بقصة سفينة يعاد ترتيبها. وتصحح وجهتها وترحض مياهها، لكي لا نتحدث عن العملية الجراحية، وعن العنف الذي لا تنفك عنه ثورة الثائرين، وتريد قومتنا أن تتجنبه”.[ref]عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، مرجع سابق، ص 246.[/ref]

لقد حدد الإمام ياسين الوجهة، وصحح القصد، وأعاد البوصلة إلى سيرتها الأولى، واعتبر أن استعادة ثقة وصحبة الشعب من أساسات وظائف حاملي المشروع من أبناء العمل الاسلامي، لـ” استعادة الثقة، والنزول إلى الشعب وتربية الشعب”،[ref] المرجع نفسه، ص 246. [/ref]مع التذكير بأنه “ليس الرفق هو السكوت عن الماضي جملة، فلابد من رد المظالم ولا بد من كنس القمامة، ولابد من التغيير الجذري، والرفق في هذه العمليات والأناة فيها، وحقن الدماء هي الحكمة المطلوبة”.[ref]عبد السلام ياسين، الإحسان، مرجع سابق، 2/315.[/ref]

المحور الثاني: مكانة الرفق في المشروع التنويري للمرأة

الحاجة إلى تجديد الدين في فكر الإمام ياسين حاجة عامةٌ تهم النساء والرجال على حد سواء، وباستقراء كتاباته ودروسه ومحاضراته رحمه الله يتبين أنه استطاع أن يجدد النظر في قضايا المرأة –في نظري- على مستويين اثنين:

تجديد على مستوى التشخيص والتحليل، بحيث ربط قضية المرأة بقضية الأمة، بعدما كانت حبيسة بين دين الانقياد ونحلة الغالب لقرون من الزمن.
وتجديد على مستوى المعالجة، بحيث عالج قضيتها معالجة تنويرية شاملة وعميقة، لا معالجة حقوقية صرفة، عنوانها مطلبية تجزئية تسطيحية.
وتساءل الإمام رحمه الله: “ما هي قضية المؤمنة ومسؤوليتها؟ أن ترضى “الدرجة” والرعاية، يتصرف بمقتضاها الرجل اتجاهها على هواه تبقى عالة لتنكمش في خصوصيتها تتفقه في أحكام النساء لا تتطلع إلى ما وراء ذلك؟ أم أن لها قضية ومسؤولية في تغيير المنكر وبناء المعروف متقربة بذلك إلى ربها ؟”[ref]عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، 2/67 و68.[/ref]

فأين الرفق من مسؤولية المرأة في البناء والتغيير؟

يجيب الإمام رحمه الله بسؤال في طياته ما يحمل من نظر ثاقب وحكمة رحيمة. ما بال أحاديث التدرج والرفق واللين واليسر ترويها امرأة؟ فـ”القلب الرحيم لا شك، وحس المؤمنة المجبولة على تعهد الحياة وبناء الإنسان محمولا في البطن وموجعا من أجله في الوضع، ومرضعا محنوا عليه ومفطوما مفصولا بدقة. وصبيا يلعب في الحجر، وغلاما مشاكس، ويافعا ثائرا، وزوجا بعد و أبا. كل ذلك يطلب من المعاناة والصبر واللين والحب والرفق ما تقدره المرأة حق قدره. فتسمعه من الوحي وتخزنه لنا في ذاكرتنا “، [ref]المرجع نفسه، 2/72. [/ref]فجبهة المرأة إذن هي الرفق، بل المرأة هي الرفق ذاته.

أولا: الرفق وبناء الأسرة

لقد سمى الإمام رحمه الله الأسرة بالبُرج الاستراتيجي، وبذلك أخرج مفهوم الأسرة من المعنى الجزئي إلى المعنى الأرحب والأوسع والأعمق. ليرتقي به إلى أبعاده البنائية والإنسانية المؤسسة ليعتبرها لبنة وبرجا وخندقا، أي “أسرة لبنة، أسرة برج، أسرة خندق، أسرة مبعث”.[ref]المرجع نفسه، ص 242.[/ref]

إن استصحاب الإمام كل هذه المفاهيم التي لها دلالات قوية وربطها بالأسرة تؤكد أنها معركة حاسمة تخوضها المرأة المؤمنة وهي متأبطة بسلاح الرفق والرحمة في أداء وظائفها المجتمعية، والتي لا يمكن أن ينوب عنها غيرها، بدءا من بيت الزوجية إلى بيت المجتمع والإنسان، يقول الإمام رحمه الله: “نحتفظ بالرباط الفطري القلبي الذي هو روح الزوجية: المودة والرحمة المتبادلين، ينشأ عنها الاستقرار والوقار. والمرأة فاعلة في هذا مجلية فيه مقدمة. من لطافة عواطفها تشتق الرحمة بين الناس. من مثلها يبر الوالدين، ويصل الرحم، ويحفظ حق الزوج، ويصبر للأطفال، ويرعى حرمة الجوار، ويعطف على المحتاج، ويكفل اليتيم، ويطبب المريض، ويحسن إلى الضعيف ؟”، [ref]عبد السلام ياسين، العدل، الاسلاميون والحكم، مرجع سابق، ص 268.[/ref] وفيما أخرجه البخاري ومسلم قالت أمنا عائشة رضي الله عنها: “جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “إنكم تقبلون الصبيان ولا نقبلهم، فقال رسول الله أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك”، حيث “الحكمة حنان ومحبة ورفق بالجيل”.[ref]عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، مرجع سابق، 2/ 274.[/ref]

وروى الشيخان وأصحاب السنن عن أبي هريرة قال: “قَبَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي، وعنده الأقرع بن حابس التميمي. فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبّلت منهم أحدا. فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: من لا يَرحم لا يُرحم”، يقول الإمام: “رحمة مؤدية قست قلوب وكلت عقول عن بذلها لما نزع الله الرحمة من القلوب والحكمة من العقول. كان للأقرع أليف الجاهلية الأولى عشر من الولد ومعنا اليوم بين ظهرانينا ولد غثائي كثير مغطوس هو والوالدان في مجتمع الكراهية و البؤس. فما في قلب الأمهات البائسات من بقايا الفطرة الرحيمة يئن موجعا”.[ref]المرجع نفسه، ص 274.[/ref]

روى الشيخان وغيرهما عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم من زوجها العاص بن ربيعة، فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها”، ويُوضح الإمام رحمه الله: “غاية ما يكون العبد في ذكر ربه أثناء الصلاة لا يستطيع أحدنا أن يقبل على الله والصبية المحبوبة على عاتقه، لكن فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أتقى الناس. فلينظر ناظرٌ أي مرقى ترقاه البنات”.[ref]عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، 2/ 276.[/ref]

ثانيا: الرفق وبناء الأمة

يقول الله عز وجل: “وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ”(التوبة: 71)، تؤكد الآية الكريمة على مكانة المرأة في واجب السهر على دين الله وحمل العبء والبناء. “إنها الولاية العامة، لها فيها مكانها الأصيل ووظيفتها الحيوية، ومسؤوليتها العظمى”، [ref]عبد السلام ياسين، العدل، مرجع سابق، ص 265.[/ref] وقد “قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما لأنجشة وهو يحدو بإبل عليها مؤمنات، فتعدوا الإبل وتزعج راحة الظعائن: “رفقا بالقوارير” شبههن للُطفهن وحساسيتهن بالأواني الزجاجية، سريعة العطب شفافة، فإن أحسنا دعوة المسلمات برفق وحدب وصدق أشركنا في عملنا خير مَن حافظن على الفطرة وحمين ظهر المجاهد”.[ref]المرجع نفسه، ص 266.[/ref]

حضور المرأة إذن في جهاد التغيير أمرٌ حاسم لا رجعة فيه، و”من لا يعتبر بالتحول الشاسع الذي حمل المرأة من هوان جاهلية ما قبل البعثة ولا يتفقه بالحياة النشطة ومشاركة الصحابيات رضي الله عنهن في بناء الإسلام كان ما يهلك من كيان الأمة أكثر مما يبني. وهل يتصور بناء دون مشاركة المؤمنات؟”[ref]عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات 1/ 68.[/ref]

ونتساءل بدورنا، وهل يتصور بناء بدون رفق؟ يجيب الإمام رحمه الله: “فللمؤمنة في فقه التغيير وتفقيه الرجال بأسلوبه المرتبة الأولى، وكم أمامها من معاناة لتقنع الشباب المتحمس إكراه المتبرجات على ستر شعرهن إنما يبلد الشعور وينفر القلوب”، [ref]- المرجع نفسه، 1/ 72. [/ref]ويضيف رحمه الله مؤكدا على ما سبق: “ما يعمل وازع الخشونة إن تقدم وبارز بالعداوة إلا أن ينفر المسلمات من دينهن، وأن يوطد سمعة أن الإسلاميين وحوش ضارية. وما كلف الله عز وجل عامة المؤمنين أن يعنفوا على الناس في منكر صغير إن كان العنف يلد منكرا كبيرا. وأي منكر أشد من التعسير والتقتير بدل التيسير والتبشير”.[ref]عبد السلام ياسين، العدل، الإسلاميون والحكم، مرجع سابق، ص 261.[/ref]

إن أي تغييب للمرأة، وتهميش دورها المحوري في عمليتي التربية والتغيير، سيكون أثره وخيما على مستقبل الأمة، بل والانسانية. لذلك “لابد إذن من المساهمة النسائية في القرار الرجالي، إذ لا يمكن أن يعوض إحساسها المرهف وحبها الأمومي الحاسمان في عملية التغيير لكي يتحقق تداول الأيام، لابد أن توقف اليد الحازمة للحكومة الإسلامية نزيف المجتمع الجريح. لكن لا مناص من اللجوء إلى الحنان النسائي لمداواة الجراح البدنية والنفسية ومعالجتها بالبلاسم الناجعة”.[ref]عبد السلام ياسين، الإسلام والحداثة، مرجع سابق، ص 200.[/ref]

 

أضف تعليقك (0 )



















النشرة الإخبارية

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لضمان حصولك على أفضل تجربة ممكنة. تعرف على المزيد