الدعوة إلى الله سرا

يقول الله سبحانه وتعالى مخاطبا رسوله الكريم ﷺ في محكم كتابه: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثر ق ُ م ْ ف َ أ َ نذ ِ ر ْ﴾ (سورة المدثر: 1)، فأمره بتبليغ الرسالة إلى جميع الناس، فلبى ﷺ النداء طاعة لربه جل وعلا، وقام داعيا قومه إلى التوحيد ونبذ الشرك والبعد عن عبادة الأصنام ليلا ونهارا، سرا لا جهرا مدة ثلاث سنوات، فبزغت دعوته التوحيدية في مكة المكرمة التي سادت فيها الوثنية بين القبائل العربية زمنا طويلا، وتربى أهلها على العصبية المقيتة والظلم الاجتماعي الكبير، في بلد المسجد الحرام الذي ضاعت فيه معالم الديانات السابقة ديانة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام فأصبحوا يرون الباطل حقا والحق باطلا، بلد الكعبة المشرفة التي كان أهلها قائمين على خدمة حجاج بيت الله. لهذه الأسباب كان تبني معتقدات جديدة أمراً عظيماً استدعى سريّة الدّعوة في بدايتها، وتطلب عزيمة قوية لا تزلزلها المصائب لأن الدعوة الجديدة لم تكن سهلة التصديق.

اتبع الرسول ﷺ الخيرون من أقربائه وأصحابه وذوي رحمه من النساء والرجال والصبيان، فكان أول من صدقه على الإطلاق ولبى النداء الطاهرة العفيفة، زوجه خديجة بنت خويلد رضي الله عنها سيدة نساء العالمين، ثم صاحبه أبو بكر رضي الله عنه ثاني اثنين إذ أخبره بما أكرمه الله به، ودعاه إلى الإسلام، فآمن دون تردد، وشهد شهادة الحق، فكان أول المسلمين من الرجال، وقد روى ابن إسحاق عن بداية إسلام أبي بكر رضي الله عنه فقال: حدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله الحصين التميمي أن رسول الله ﷺ قال: “ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة و تردد ونظر، إلا أبا بكر ما عكم عنه حين دعوته، و لا تردد فيه “^[1].

مضت الدعوة إلى الله سرية وفردية، قائمة على الاصطفاء واختيار من وُثق بعقله وعُرف بسلامة نفسه ورُجحان رأيه، من العناصر التي تصلح لتكوين جماعة مؤمنة تسعى لإقامة مجتمع مسلم يدعو الناس إلى دين الله، وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه من أعمدة هذه الدعوة لما كان يتميز به من حسن الأخلاق، نشط فيها فأسلم على يديه ثمانية من السابقين تبعهم جمع من جميع بطون قريش. قال ابن إسحاق: “ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء حتى فشا ذكر الإسلام بمكة وتحدث به”. ثم أنزل الله سبحانه: “وأنذر عشيرتك الأقربين” (الشعراء 214). جمعَ رسولُ اللَّهِ ﷺ قريشًا فخصَّ وعمَّ فقالَ: يا معشرَ قريشٍ أنقِذوا أنفسَكم منَ النَّارِ فإنِّي لا أملِكُ لَكم منَ اللَّهِ ضرًّا ولا نفعًا يا معشرَ بني عبدِ منافٍ أنقِذوا أنفسَكم منَ النَّارِ فإنِّي لا أملِكُ لَكم منَ اللَّهِ ضَرًّا ولا نفعًا يا معشرَ بني عبدِ قصيٍّ أنقِذوا أنفسَكم منَ النَّارِ فإنِّي لا أملِكُ لَكم ضرًّا ولا نفعًا. يا معشرَ بني عبدِ المطَّلبِ أنقِذوا أنفسَكم منَ النَّارِ فإنِّي لا أملِكُ لَكم ضرًّا ولا نفعًا. يا فاطمةُ بنتَ محمَّدٍ أنقِذي نفسَكِ منَ النَّارِ فإنِّي لا أملِكُ لَكِ ضرًّا ولا نفعًا إنَّ لَكِ رحمًا سأبلُّها ببِلالِها^[2].

يدل النص السِّيري على سرعة استجابة وامتثال الرسول ﷺ لأمر الله تعالى بإنذار ذوي رحمه، وعدم تأخير البيان عن وقت الحاجة، وإقامة الحجة عليهم لتتعدى إلى غيرهم، ويكونوا قدوة لهم في الاستجابة للدعوة والثبات على المحجة.

الجهر بالدعوة

نزل أمر الله تعالى لرسوله ﷺ بإعلان دعوته والجهر بها بقوله: ﴿فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ (الحجر 94). فأعلنها ﷺ على رؤوس الأشهاد وفي مجالس القوم بلا تردد، فكانت بداية الدعوة الجهرية دليلا على شجاعته ﷺ، حيث قام بهذا الموقف أمام سادات قريش صادعاً بالحق من غير خوف، مشفقا على أقاربه وحريصا عليهم بقوله: “أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ”. وهكذا ينبغي أن يظهر الداعية حرصه وشفقته على من يدعوهم إلى الله اقتداء بالرسول ﷺ.

وقد أغضب هذا التحدي كفار قريش -وعلى رأسهم عمه عبد العزى بن عبد المطلب الملقب بأبي لهب- الذين لم يدخروا جهدا في إيذائه ﷺ، فأذاقوه وأصحابه شتى ألوان العذاب تنوع بين التسفيه والتكذيب والسب ورميه بالساحر والمجنون، وبلغ حد محاولة قتله، ظانين أنهم بالقضاء عليه سيقضى على هذا الدين، ولكن الله متم نوره ولو كره الكافرون. كان اشتداد الأذى على المسلمين بعد الجهر بالدعوة سببا في الإذن النبوي لبعضهم بالهجرة إلى الحبشة. وتلاه إسلام عمه حمزة بن عبد المطلب وبعده عمر بن الخطاب رضي الله عنهما اللذين كانا من أكبر المدافعين عن الإسلام، مما زاد الكفار غيظا وحنقا على الدعوة وأهلها.

ميثاق الظلم والعدوان

إن ما قامت به قريش لمحاربته ﷺ لم يجد نفعا، فقرروا مقاطعته ومن أسلم معه مقاطعة عامة شاملة، وكتبوا بذلك صحيفة بنودها “ألا يزوجوهم ولا يتزوجوا منهم، ولا يبيعوا لهم، ولا يبتاعوا منهم شيئا، ولا يكلموهم ولا يجالسوهم حتى يسلموا لهم رسول الله ﷺ”^[3]، وتعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علّقوا الصحيفة في جوف الكعبة، وكان كاتب الصحيفة هو منصور بن عكرمة بن عامر، ويقال إنه النضر بن الحارث؛ ودعا عليه الرسول ﷺ فشُلت يده. وقد أنشد أبوطالب قصيدته الشهيرة في ذلك والتي جاء فيها:

وَلَمَّا رَأَيْتُ القَـوْمَ لا وُدَّ فـيهِـمُ وقَدْ قَطَعُوا كُلَّ العُرى وَالوَسائِــل

وَقَدْ صارَحُونا بالعَداوةِ والأَذى وَقَــد طاوَعُوا أَمْرَ العَدوَّ المُزايِل

وَقَدْ حالَـفُوا قـَوْماً عَلَـيْنا أَظِنّـَةً يَعَضُّونَ غَيْظـا خَلْفَنا بِالأَنامِــلِ

وكان لهذه القصيدة وقع في نفوس بني هاشم وبني عبد المطلب فدخل مسلمهم ومشركهم إلى شِعْب أبي طالب حماية ونصرة للنبي ﷺ، إلا أن نصرة المشركين كانت عصبية للقبيلة لا للإسلام، فصبروا وصابروا على ضنك العيش وشدته، إلا ما كان يأتيهم خفية تحت جنح الليل من طعام، تخفيفا لمعاناة المحاصرين، فقد ورد أن هشام بن عمرو بن الحارث كان يأتي بالبعير وقد حمَّله طعامًا وآخر محمَّلا بالقمح إلى أول الشِّعْب فينزع لهما الخطام ثم يضربهما ليتجها إلى داخل الشِّعْب، فيأخذه المحاصرون ويوزِّعونه فيما بينهم. ضيقت عليهم قريش تضييقا عظيما لا يدَعون شيئا يَبلغهم وإن فعل أحد ذلك عاقبوه، وإذا جاء تجار من خارج مكة أمرهم عدو الله أبو لهب بأن يغالوا على أصحاب رسول الله ﷺ لمضاعفة أرباحهم.

كسر الحصار

واستمرت المعاناة ثلاث سنين، قال صاحب قرة الأبصار: كان في بداية محرم سنة سبع من البعثة النبوية واستمر نحو ثلاث سنين:

وأمد الحصار في الشعب على حولين أربى لا ثلاثا وصلا

واشتدَّت وطأةُ الحصار على رسول الله ﷺ ومن معه، حتى اضطر كثير منهم إلى أكل أوراق الشجر والعشب ليسدوا جوعتهم، عندها رأى عددٌ من أصحاب المروءة أن هذه الوثيقة الظالمة يجب إلغاؤها. وكما ذكر أهل السير أنه تعاقد نفر من عقلاء قريش على نقض صحيفة المقاطعة الجائرة وسعوا في ذلك، منهم هشام بن عمرو بن الحارث من بني عامر. فلما أصبحوا قام أحدهم وهو زهير بن أمية وطاف بالبيت سبعًا ثم وقف وقال: “يا أهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشمٍ هلكى، والله لا أقعد حتى تُشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة”

فإضافة إلى الجهد البشري في فك الحصار، كانت صحيفة المقاطعة على موعد مع المعجزة الإلهية التي تجلت فيها قدرة الله عز وجل وحكمته في نقض تلك الصحيفة وفي ذلك الوقت تحديداً؛ فقد أخرج ابن هشام: أن رسول الله ﷺ قال لأبي طالب: “يا عم إن الله قد سلط الأرضة على الصحيفة فأكلت جميع ما فيها من جور وقطيعة وظلم؛ إلا ذكر الله عز وجل، فأخبر المشركين أن ابن أخيه قال كذا وكذا، فإن كان كاذباً خلينا بينكم وبينه، وإن كان صادقاً رجعتم عن ظلمنا، قالوا: أنصفت…، فأنزل المطعم بن عدي ـوهو أحد النفرـ الصحيفة فلما رأوا الأمر كما أخبر النبي ﷺ ازدادوا نفوراً وعناداً…، لقد رأى المشركون آيةً عظيمةً مِن آياتِ نُبوَّتِه، ولكن كما أخبر الله سبحانه عنهم في قوله: ﴿وَإِن يَّرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِر﴾ (القمر: 2)، ويقول عز وجل: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ﴾ (الأنعام: 33)، وبهذا تمَّ نَقضُ الصَّحيفة فكُسر الحصار وخرج رسولُ الله ﷺ ومَن معه مِنَ الشِّعبِ.

انتصار بعد حصار

خرج رسول الله ﷺ ومن معه من الشعب، وذلك سنة عشر من البعثة كما ذكر ذلك غير واحد من أهل السير، فرجعوا إلى بيوتهم سالمين غانمين بما أنعم الله عليهم من نعم عظيمة رغم ما أصابهم من شدة ومعاناة، ومن هذه الأفضال والمكرمات نذكر:

الثبات على العقيدة: ثلاث سنوات من الجوع والحرمان زادتهم صلابة ويقينا وإيمانا بالله وتمسكا برسوله ﷺ وثباتا على دعوته.

إظهار عناية الله بنبيه ﷺ: أظهر الله سبحانه تأييده لنبيه ﷺ، فسلط الأرضة على الصحيفة فأكلت ما كان فيها من ظلم وجور ولم تبق إلا اسم الله جل وعلا.

تليين القلوب: كشف الحصار ظلم قريش فأثار في بعض عقلائهم نخوة دفعتهم إلى نقض الصحيفة ورفع الحصار مثل هشام بن عمر بن الحارث وأصحابه.

رص الصفوف: الصبر والوحدة التي تمت في صفوف المسلمين ساعدت على مواجهة تحديات الهجرة وتأسيس مجتمع إسلامي في المدينة، فالحصار جزء من سنن الله في تربية المؤمنين، يصقل الصف وتتميز الطينة الصادقة من غيرها، فأظهرت المحنة المؤمن الصادق الذي ثبت على الحق رغم البلاء ومن ارتاب أو تردد.

تمهيد للنصر القادم: نالت قريش نقدا أخلاقيا ومجتمعيا وسياسيا بعد أن تجلى ظلمها، مما أضعف موقفها أمام القبائل فكان سببا في التعرف على الدين الجديد وانتشار الإسلام بشكل كبير. لقد كان الحصار حصار دعوة وليس حصار رجل اختصه الله بالرسالة، أرادوا أن يطفئوا نور الله بأفواههم، لكن كلمة الحق كسرت الحصار، وكتب الله لها الانتشار والانتصار والاستمرار، والأمر يتجدد مع الدعوات الصادقة على أثر الدعوة المحمدية التي ينبغي أن تُستلهم منها المبادئ، يقول الإمام عبد السلام ياسين: “فشخص الداعي وظروف الدعوة واختلافهما يحتمان علينا البحث عن المبادئ بدل البحث عن المراحل”^[4].

إن صحيفة المقاطعة نهجت أسلوب العقاب الجماعي لخنق الدعوة الإسلامية بحصار أهلها، وقد سار على هذا النهج أعداء الإسلام عبر العصور، وبرز ماضيا بقوة في الأندلس، ثم أخذ في وقتنا الحاضر شكل العالمية بقرارات دولية طالت دولا إسلامية على امتداد العقود الثلاثة الأخيرة. ويبقى حصار غزة الذي استمر ما يقرب من عقدين من الزمن، وما تخلله من عدوان متكرر عليها شاهد واضح على ازدواجية المعايير، وعدم مصداقية شعارات حقوق الإنسان المرفوعة التي انكشف الفشل في تطبيقها في الإبادة الجماعية لغزة طيلة سنتين، وما رافقها من حصار خانق تقتيلا وتجويعا وتهجيرا تداعى أحرار وحرائر شعوب العالم لإنكاره عبر المسيرات التي تجوب الشوارع، والمواقف الأكاديمية والفنية والرياضية…المشرفة المعلنة، والحملات الدولية لأسطول الحرية التي أبحرت باتجاه غزة في خطوة إنسانية رمزية لكسر الحصار عن أهلها. فمهما علا صوت الباطل، واستفحل الظلم، فإن للحق والعدل والكرامة والحرية ضمائر مناصرة، تستيقظ فيها غيرة الإيمان، وتنبعث فيها فطرة الإنسان ليعلو صوت الإخاء الإنساني الذي ينبغي مد اليد لكل من يستمسك به بغض النظر عن انتمائه العقدي أو الجغرافي، “نمد لكم اليد، أيتها النفوس المتآخية في الإنسانية، مهما كانت اعتقاداتكم ما دامت الرحمة الإنسانية والمحبة لبني البشر تحفز قلوبكم وأعمالكم”^[5].

^[1]. السيرة النبوية، ابن هشام، 1/288. وما عكم: ما تباطأ بل سارع.
^[2]. أخرجه مسلم في صحيحه، والترمذي في سننه
^[3]. السيرة النبوية، ابن هشام، 2/5.
^[4]. رسالة الإسلام أو الطوفان، عبد السلام ياسين، ص: 131.
^[5]. الإسلام والحداثة، عبد السلام ياسين، ص: 15.

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

انتصار لا انكسار