post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

ملحوظة: تم تجميع مادة هذه الصفحات من كتب الإمام رحمه الله وحواراته ورسائله ولقاءاته المرئية، يتحدث فيها الرجل عن أهم المراحل والأحداث التي طبعت حياته، وعناية الله التي حفته في كل ذلك. رحم الله الإمام المجدد وجزاه عنا كل خير.



مولدي أيها الأخ الكريم أيتها الأخت الكريمة كان صباح الاثنين الرابع من ربيع الثاني سنة 1347 هـ، [20 شتنبر 1928] نشأت في بيت رجل كان فلاحا ثم هرب من بلدنا «حاحا» قبيلة «آيت زلطن»، فر بحياته لما كان يحيط به-وبأسرتنا عامة- من مؤامرات، فقد أخبر أن القايد آنذاك عول على اغتياله. كان أبي رحمه الله فارسا من فرسان القبيلة، وكان ينتمي إلى أسرة شهيرة في الجنوب تدعى آيت بهي، وكان من رجال هذه الأسرة وهم أشراف أدارسة، أصلهم من ناحية بلدة تسمى «أولوز» بسوس، كان لهذه الأسرة صيت وذكر في تاريخ المغرب. كان أشهرهم، وقد توفي رحمه الله منذ ما يقرب من مائة سنة، رجل يسمى «القايد عبد الله ولد بهي» مشهور في الأساطير المغربية. كان له جاه عريض في الجنوب المغربي. أخبرنا أهلنا أنه كان يحكم على اثنتي عشرة قبيلة وكان له أعمام وأسرة كانت أسرة رؤساء. هذا الرجل أجتمع معه في الجد الرابع، جدي الرابع هو عمه. فلما نكب هذا الرجل وقتل، قتله السلطان محمد بن عبد الرحمن، بقيت الأسرة تحت وطأة الملاحقات.



<figure class="wp-block-embed aligncenter is-type-video is-provider-youtube wp-block-embed-youtube wp-embed-aspect-16-9 wp-has-aspect-ratio"><div class="wp-block-embed__wrapper">
<iframe loading="lazy" title="#صفحات_من_سيرتي |1| بيئة النشأة وبناء الشخصية" width="500" height="281" src="https://www.youtube.com/embed/4QBarpVYGUw?feature=oembed" frameborder="0" allow="accelerometer; autoplay; clipboard-write; encrypted-media; gyroscope; picture-in-picture; web-share" referrerpolicy="strict-origin-when-cross-origin" allowfullscreen></iframe>
</div></figure>



هؤلاء الأوبهيون أشار شيخنا وأستاذنا المختار السوسي في كتاب له لما يطبع إلى نسبهم وحقق أنهم أدارسة، رغم أن وثائقهم بعثرت وأن بيوتهم دمرت بعد نكبة عبد الله أبهي، أثبت المختار السوسي أنهم أدارسة وأنهم من نسب شريف، ومازلت أنتظر صدور هذا الكتاب وعنوانه «من مراكش إلى إلغ»، لكي أتحقق من هذه الأمور، وإن كنا نعلم عندنا نقلا من الآباء إلى الأجداد أننا من الأشراف.



وأرجع إلى الوالد رحمه الله، إنه فر ودخل في الجيش الفرنسي، وشارك في الحرب العالمية الأولى. نشأت إذن في أسرة رجل ذاق مرارة الحياة، ثم استقر آخر الأمر في مراكش، وتزوج على كبر، وقد تجاوز الخمسين، من ابنة عمومته. فنشأت هكذا في جو مدني بدوي، وكان الاتصال المستمر بالبادية في صغري، فكان لهذا تأثير كبير جدا في حياتي مستقبليا، إذ كنت أتردد على البادية فأرى كيف يعيش الناس قريبين إلى الفطرة وإلى الطبيعة. كان لاتصالي بالبادية، وعيشي قريبا من الحيوان والنبات والإنسان الفطري، أبلغ الأثر في حياتي.



نشأت في أمراض متعددة كثيرة. ناهيك بطفل ثم شاب كان في حضن أسرة بدوية التكوين على كل حال، قليلة الوسائل، كان التطبيب بالنسبة إليها أعشابا من هنا وهناك، فمررت في طفولتي بأمراض شديدة. هذا كان له أثر على بنيتي بعد ذلك. كانت فيّ مثلا مرض حمى المستنقعات سنوات طويلة، حمى التِّفويد –والعياذ بالله- خضخضتني خضخضة شديدة، وحطمت مني الأركان الفيزيولوجية.



ثم قيض الله رجلا أعتبر أن اتصالي به، وإن كان بوسائط، هو نقطة الهداية الأولى في حياتي. هذا الرجل هو «محمد المختار السوسي»، وهو معروف مشهور بالتآليف المعروفة، رجل مؤرخ. هذا الرجل بعد رجوعه من فاس، أسس مدرسة في حينا قريبا من بيتنا، نحو مائة متر، كانت هذه المدرسة عشا لتربية الشباب الصالحين. كان رحمه الله يمتاز –زيادة على الفضل والعلم- بالتقوى والاستقامة والصلاح. فكنا نحن الصغار ندرج بين يدي تلامذته الذين كانوا يتلقون عنه العلم كانوا يعلموننا القرآن الكريم، ثم شيئا فشيئا -ومنذ السنوات الأولى- كانوا يلقنوننا أيضا مبادئ اللغة العربية. فكان هذا التكوين المزدوج الذي كان يومئذ جديدا على الناس، إذ المعهود أن المدرسة القرآنية لا تلقن إلا القرآن حتى يحفظه الإنسان نحن بدأنا بحفظ القرآن وبتلقي دروس العربية.



أذكر رجلا منهم رحمه الله في عنقي له دين كبير يسمى عبد الرحمن بن فارس، كان شابا من الشباب الذين يُحلّقون حول محمد المختار السوسي، هذا السيد عبد الرحمن بن فارس أذكر جيدا يوما أنه وعظنا نحن الصغار موعظة -ونحن على أعتاب المراهقة نكون يومئذ في العاشرة أو الحادية عشرة- قال إنكم ستشعرون في جسمكم بقوة وبحيوية جديدة- وكأنه يشير رحمه الله إلى البلوغ وإلى المراهقة- فاتقوا الله فيما تفعلون. كانت هذه الكلمة ذات أثر بليغ جدا في حياتي وفي مستقبلي. كان هناك من لقّنونا القرآن رحمهم الله، هؤلاء لهم عليّ الفضل الكبير.



أخطو خَطوات فأجد نفسي أمام لجنة امتحان في المعهد الديني معهد ابن يوسف، كان يومئذ الأستاذ ابن عثمان رحمه الله مدير معهد ابن يوسف، وكان مراقب الدروس الأستاذ بو رقبة رحمه الله، أجلسني هذان العالمان الجليلان أمامهما يسألاني: تريد أن تدخل المعهد فما عندك؟ فامتحناني امتحانا تبين لهما أنني أستحق أن أطوي ثلاث سنوات من الابتدائي وأدخل إلى الثانوي مباشرة.



قرأت نحو أربع سنوات في المعهد الديني ولم أكن –هذا هو الواقع- شديد الشغف بتلك الدروس التي كانت تخلو من الاجتهاد في تفهيم الطلبة، كانت ترديدا على النمط القديم لما في بطون الكتب، كانت تقريرية رغم أنهم قالوا إنهم أدخلوا التنظيم على المعهد الديني، فكنت أحضر الدروس تارة وأتغيب تارات، وكان هاجسي في آخر تلك السنوات أن أتعلم اللغات الحية لما كان يتراءى لي في الأساتذة العلماء مشايخنا رحمهم الله وجزاهم عنا خيرا، من تخلف في فهم الدين أولا والعربية ثانيا. نسيت أن أقول إن العربية التي تلقيناها من أساتذتنا في مدرسة المختار السوسي رحمه الله جعلت بعضنا وأنا كنت منهم من التمكن في اللغة بحيث كنت أقرض الشعر قرضا جيدا وأنا في الثانية عشرة. فكانت نفسي تحدثني أن أبحث عن طريقة لأتعلم، وكنت أطلع على ما يسقط في أيدينا يومئذ -وكانت الحرب العالمية الثانية على أشدها– من كتب ومجلات، وأتطلع إلى مزيد من الاطلاع.



هذه صفحة مضت. بلغت التاسعة عشرة وأنا على حدود السنة الرابعة من الثانوي فسمعت أن هنالك امتحانا لتوظيف المعلمين. دخلت الامتحان ونجحت فيه، فدخلت مرحلة أخرى من حياتي، انتقلت من مراكش البلد البعيد النائي إلى العاصمة في مدرسة ثانوية هي مدرسة مولاي يوسف كانت يومئذ فيها داخلية، وكان فيها قسم لتكوين المعلمين، فكانت تلك أولى اتصالاتي بالعالم الحي، خرجت من هامش مراكش إلى العاصمة. وكنت قد بدأت منذ نحو سنة تعلم اللغة الفرنسية بجهود خاصة، في الداخلية التقيت بالتلامذة المعلمين الذين يهيئون اللغة الفرنسية كي يكونوا معلمين للغة الفرنسية. واتصلت بقوم من التلامذة من أرجاء متنوعة من البلاد، وهذا فتح أفقي كثيرا وكان عامل التنافس مع طلبة الثانوية الذين كنت ألتقي بهم في الاستراحات وقاعات المطالعات عاملا حاسما في تشميري كي أتعلم.



تخرجت من مدرسة المعلمين في المرتبة الثالثة، عينت في مدرسة ابتدائية بالجديدة، كانت هذه مرحلة أخرى في حياتي. توفي والدي رحمه الله في آخر سنة لي بمدرسة المعلمين، فترك لي الوالدة رحمها الله فكانت هي عائلتي وحدها، سكنا في الجديدة، وتحملت أعباء الإنفاق على الأسرة، كانت هذه مرحلة أخرى.



واستمر اجتهادي في التعلم، طويت في سنوات قليلة جدا الدراسات في معهد الدروس العليا للدراسات الإسلامية في الرباط، ما لبثت أن حصلت على الدبلوم، فعينت بمراكش أستاذا للغة العربية والترجمة، عملت نحو ثلاث سنوات، تقدمت إثرها مباشرة لمباراة توظيف المفتشين في الابتدائي. كانت كل هذه مراحل تطورية فتحت أفقي على أشياء كثيرة لكنها أنستني الأصل أنستني أن أراجع وأن أحافظ على القرآن الكريم الذي حفظته وأنا في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة، فهجرت القرآن غفر الله لي، وأقبلت على تعلم اللغات وعلى ممارسة الوظيف. وكنت أعزف الكمان وكنت بين الحين والحين لم يكن لي بيانو في البيت و لكن في مدة ما كنت أخذت بيانو من أحد الأصدقاء بقي عندي في البيت و كنت أعزف أحاول، أحاول.



جاء الاستقلال وأنا مفتش للغة العربية في المدارس الابتدائية بالدار البيضاء، كانت تجربتي مع المعلمين، تجربتي مع الوظيف، اطلاعي على أسرار الإدارة، وكانت يومئذ في يد الفرنسيين، كان كل هذا دروسا في تكويني. جاء الاستقلال فكنت من الرعيل الأول من الموظفين المغاربة الذين تسلموا مقاليد الأمور من الإدارة الفرنسية. وعندئذ تعلمت أيضا من الواقع كيف كانت الحزبية والوصولية والمحسوبية والرشوة وكل هذه الأمراض التي استفحلت بعد الاستقلال إلى الآن استفحالا عظيما، كيف كانت بذور كل هذه الأمراض تكون استعدادا لما نحن فيه الآن من الويلات.



جربت أول الاستقلال أن أكون الموظف المستقيم، وكانت لي سلطة على كل حال على معلمي اللغة العربية في مدارس الدار البيضاء ونواحيها. فكانوا يقولون يومئذ هذا عمر بن الخطاب جاءنا بالعدل، لأنني غيرت عادة نشأوا عليها، وهي أن الإنسان يتقدم في وظيفه -بل يدخل إلى الوظيفة أساسا- بالعطاء والرشوة. حفظني الله عز وجل طيلة حياتي إلى الآن وأسأله المزيد من الحفظ أن أقبل شيئا من هذه المناكر، لا أذكر أنه كانت أية محاولة لإغرائي بالعطاء إلا مرة واحدة، جاءني رجل بدجاج وقال لي هدية، فعنفته تعنيفا كثيرا، وأغناني عن تعنيف الآخرين ما كان يعرف عني –بحمد الله عز وجل- من الجدية، بل من الصرامة بل من الخشونة في حكم بعض الناس[1].



أستطيع أن أقول إنني كان يغلب علي الانفعالُ في شبابي، صرامةٌ وانطواءٌ. أما الآن فأسأل الله عز وجل أن يختم لي بالحسنى ليكون طبعي طبع القرآن، أسأل الله عز وجل أن يكون طبعي طبع المؤمنين، طبع المخبتين وطبع الخاضعين لعزة المولى عز وجل.[2]



<hr class="wp-block-separator has-alpha-channel-opacity"/>



[1] . حوار شامل مع الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين رحمه الله، ص 9-13 [2] . المصدر نفسه، ص 17.

الإمام عبد السلام ياسين

بيئة النشأة وبناء الشخصية |1| صفحات من سيرتي

القرآن في حياة الإمام

من منطق التصوف إلى منطق المنهاج

الكتابة عند الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى

عشر ساعات مع الإمام رحمه الله

صفحات من سيرتي |5| الوصايا.. ولقاء رب البرايا

مقالات في سيرة الإمام

بيئة النشأة وبناء الشخصية |1| صفحات من سيرتي

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

الوضوء: فضله وكيفيته وروحه

أهلا رمضان

في شروط تحرير فلسطين عند الإمام عبد السلام ياسين

من دروس غزوة الخندق

رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان

أبواب الخير في رمضان 2/2

مقالات ذات صلة