مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسينمدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين
مدرسة الإمام المجدد
عبد السلام ياسين

التزكية والدعوة

صحبة المؤمنين وإكرامهم

صحبة المؤمنين وإكرامهم

صحبة المؤمنين وإكرامهم

   لا شك أن البَوْح بمحبة الله عز وجل ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، والإفصاحَ عن تعلّق القلب بحب المؤمنين، يظل مسطورا في صفحات الادّعاء، وحبيسا في أقبية الأماني والأحلام، إلى أن يُقِرَّ بصدقه شهودُ الأعمال، وتختم على رُقعة صحّته براهينُ السلوك والآداب. لذلك نجد الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله وهو يتقدم في عَدِّ شعب خصلة الصحبة والجماعة يجعل مفهومها يتَّسع لِيَعُمَّ «مَنْ أَمَرَ الله ورسولُه بمحبتهم وإكرامهم وحسن عِشرتهم »[1].

   أَوَّلُ هؤلاء أخيارُ عباد الله وأكابرُهم. بالصبر على الكينونة معهم جاء الأمر الإلهي: ﴿وَٱصۡبِرۡ نَفۡسَكَ مَعَ ٱلَّذِینَ یَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِیِّ یُرِیدُونَ وَجۡهَهُ وَلَا تَعۡدُ عَیۡنَاكَ عَنۡهُمۡ تُرِیدُ زِینَةَ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَلَا تُطِعۡ مَنۡ أَغۡفَلۡنَا قَلۡبَهُۥ عَن ذِكۡرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمۡرُهُۥ فُرُطࣰا﴾[2]، وبالحرص على مخاللتهم وَصَلَتْنا الوصيةُ النبوية : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ” الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ “[3].

   ولقد وعى الصالحون -في كل جيل- مغزى الأمر وفحوى الوصية، فهذا عَلْقَمة رحمه الله قال: « قدمت الشامَ، فصليت ركعتين، ثم قلت: اللهم يسر لي جليسا صالحا. فأتيت قوما فجلست إليهم، فإذا شيخ قدْ جاء، جلس إلى جانبي. قلت: مَن هذا؟ قالوا: أبو الدرداء. فقلت: إني دعوت الله أن ييسر لي جليسا صالحا، فيسرك لي »[4].

وهذا أبو إدريس الخولاني يصف لُقياه بمعاذ بن جبل فينقل لمن بعده تفاصيل مشهد التوقير بكل دقة وأمانة. يقول: «فلما كان الغدُ هجَّرتُ إليه «ذهبت إليه قبل الظهر»، فوجدته قد سبقني بالتهجير، ووجدته يصلي. فانتظرته حتى قضى صلاته، ثم جئته من قِبَل وجهه، فسلمت عليه ثم قلت: والله إني لأحبك في الله! فقال: آللهِ! فقلت: آللهِ! فقال: آللهِ! فقلت: آللهِ! فأخذ بحبوة ردائي إليه وقال: أبشر! فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تبارك وتعالى: «وجبت محبتي للمتحابين فيَّ، والمتجالسين فيّ، والمتزاورين فِيَّ، والمتباذلين فِيّ»[5].

   يقول الإمام رحمه الله: «هكذا كان يلتقي جيل بجيل، وهكذا كان يبحث اللاحق عن صحبة السابق ومجالسته، وفي هذا كانوا يتذاكرون، وعنه يتساءلون»[6].

   كان التزاور سنة ثابتة. لا يسكن شوقُهم إلا في رحاب أهل الصلاح. يلتمسون منهم الخير، ويسألونهم الدعاء. حَاديهم في ذلك قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ أَتَى أَخًا لَهُ يَزُورُهُ فِي اللَّهِ إِلَّا نَادَاهُ مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أَنْ طِبْتَ، وَطَابَتْ لَكَ الْجَنَّةُ، وَإِلَّا قَالَ اللَّهُ فِي مَلَكُوتِ عَرْشِهِ: زَارَ فِيَّ وَعَلَيَّ قِرَاهُ»4»، فَلَمْ أَرْضَ لَهُ بِقِرًى دُونَ الْجَنَّة «[7]، وأُسْوَتهم قولُه لِعُمَر لمّا أذِن له في العمرة: «لَا تَنْسَنَا يَا أُخَيَّ مِنْ دُعَائِكَ»[8].  

   عُمَرُ الذي كان يذكرُ الرجلَ من إخوانه بالليل، فيقول: يا طولَها من ليلة. فإذا صلى المكتوبة غدا إليه، فإذا التقيا عانقه.

   كانوا يستمتعون بلذَّة الزيارة، وحلاوة اللقاء. قال سفيان لمحمد بن المنكدر: ما بقي من لذتك؟ قال: «لقاء الإخوان وإدخال السرور عليهم»[9]. وكان طلحة بن مصرف إذا لقي مالك بن مغول يقول له : لَلُقياك أحبُّ إليَّ من العسل.

   كان هذا الشوق إلى اللقاء تخالطه المهابة والتوقير فتزيده رونقا وجمالا. يقول سفيان بن عيينة : حدثني أبي قال : كنا إذا قدم داود بن أبي هند خرجنا نتلقاه ننظر إلى هيئته وسمته وتشميره.[10]

   وروى ابن عساكر في “تاريخ دمشق” أن محمد بن سيرين قال: جلست إلى عبد الرحمن بن أبي ليلى وأصحابُه يعظمونه كأنه أمير.

   لذلك فلا عجب أن تقول أُم ولدٍ للرشيد لمًّا قدِم الرِّقة، فانجفل الناس خلف ابن المبارك، وتقطعت النعال، وارتفعت الغبرة: «هذا والله المُلك، لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشرط وأعوان».

   ومثلُه ما حدث لهشام بن عبد الملك لما حج قبل أن يلي الخلافة[11]، فاجتهد أن يستلِم الحجر فلم يُمكنه، وجاء علي بن الحسين فوقف له الناس، وتنحَّوا حتى استلمَه[12].

   وقد كان لأهل البيت توقير خاص استمدُّوه من وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي «[13]، ومِنْ فِعْلِ الخلفاء المهديين، فقد كان أَبو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا في وِلَايَتِهِمَا لَا يَلْقَى الْعَبّاسُ مِنْهُما وَاحِداً وَهُوَ راكِبٌ إِلاّ نَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ وَقَادَهَا، وَمَشَى مَعَ الْعَبّاسِ حَتّى بَلَّغَهُ مَنْزِلَهُ أَوْ مَجْلِسَهُ فَيُفَارِقَهُ[14].

   وكان علي بن عبد الله بن العباس إذا قدم مكة حاجا أو معتمرا، عطَّلت قريش مجالسها في المسجد الحرام، وهجرت مواضع حِلَقِها ولزِمت مجلس علي بن عبد الله إعظاما وإجلالا وتبجيلا، فإن قعد قعدوا، وإن نهض نهضوا، وإن مشى مشوا جميعا حوله[15].

   كان الأخيار يُقَدِّرون هذا التبجيل فيقابلونه بأدب حسن، وذوق رفيع. فعن جميلة مولاة أنس قالت: « كان ثابت إذا جاء قال أنس: يا جميلة، ناوليني طيبا أمسُّ به يدي، فإن ابن أم ثابت لا يرضى حتى يُقَبِّلَ يدي، ويقول: قد مَسَّت يدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم .[16]

   وفي كتب التراجم والطبقات، وسِيَر الصالحين من أهل الله، ما لا يُعدُّ ولا يُحصى من مشاهد التوقير للأكابر وأهل الفضل، سَنَّتْها الوصايا النبويةُ من أمثال: « البركة مع أكابركم»[17]. و» لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا – يَعْنِي حَقَّه -»[18].

   قال الإمام عبد القادر الجيلاني قدس الله سره، يُمَحِّضُنا النصيحة: «أنت ميّت القلب وصحبتك أيضا لموتى القلب. عليك بالأحياء النجباء البُدلاءِ. أنت قبر تأتي قبراً مثلك! ميت تأتي ميتا مثلك! أنت زَمِنٌ يقودُك زَمِنٌ، أعمى يقودك أعمى مثلك! اصحب المؤمنين الموقنين الصالحين. واصبر على كلامهم واقبله واعمل به وقد أفلحت. اسمع قول الشيوخ واعمل به واحترمهم إن أردت الفلاح»[19].

   وقال الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله في القطف 305[20]:

فصل يا ربَّنَا على المصطفَى
بَرَّحَ فِي فُؤادِنَا شَوْقُهُ

 

[1]  ياسين، عبد السلام. المنهاج النبوي، الطبعة االرابعة، 2001، ص144.
[2]  الكهف : 28
[3]  أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب من يؤمر أن يجالس، رقم: 4833. والترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في أخذ المال بحقه، رقم: 2378، واللفظ لهما. وهو حديث حسن.
[4]  متفق عليه
[5]  رواه الإمام مالك في الموطأ والحاكم وابن عبد البر بسند صحيح.
[6]  ياسين، عبد السلام. تنوير المؤمنات، ج2، مطابع أفريقيا الشرق 2018، المغرب، ص23.
[7]  أخرجه البزار، مسند أبي حمزة أنس بن مالك، رقم: 6466، واللفظ له. والضياء في الأحاديث المختارة، رقم: 2679، وقال: إسناده حسن.
[8]  أخرجه أبو داود، في كتاب الصلاة، باب الدعاء، رقم: 1498، واللفظ له. والترمذي، كتاب الدعوات، باب: 110، رقم: 3562. وقال: حديث حسن صحيح.
[9]  الهبدان، محمد بن عبد الله بن صالح. التهذيب الموضوعي لحلية الأولياء، ط1، دار طيبة للنشر والتوزيع1426/2005م، الرياض، ص 474.
[10]  التهذيب الموضوعي لحلية الأولياء، ص 211.
[11] . إنما يقصد بذلك المُلك.
[12]  التهذيب الموضوعي لحلية الأولياء، ص 8.
[13]  رواه الإمام مسلم.
[14]  أخرجه ابن عساكر في “تاريخ دمشق”.
[15]  التهذيب الموضوعي لحلية الأولياء، ص 902.
[16]  التهذيب الموضوعي لحلية الأولياء، ص 216.
[17]  رواه ابن حبان والطبراني عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
[18]  رواه الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
[19]  الجيلاني، عبد القادر. الفتح الرباني، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1983، ص: 201.
[20]  ياسين، عبد السلام. ديوان قطوف، ج4، 2000.

أضف تعليقك (0 )



















يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لضمان حصولك على أفضل تجربة ممكنة. تعرف على المزيد