post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

<h1 class="wp-block-heading">مقدمة</h1>



يخاطب القرآن الكريم <a href="/%D8%AA%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%86%D8%B3%D8%A7%D9%86-%D9%82%D8%A8%D9%84-%D8%B1%D9%87%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%86%D9%85%D9%8A%D8%A9">الإنسان</a> من حيث كونه إنسانا خلق في كبد، يستحثه على اقتحام العقبات كي يصبح مؤهلا للانضمام في سلك المؤمنين المتواصين بالصبر والمرحمة، المصطفين للميمنة والسعادة عند الله. قال الله تعالى (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) (البلد)، وقال جل جلاله يلوم هذا الإنسان لميله إلى الراحة وإخلاده إلى الأرض، ويحثه على اليقظة والاقتحام (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ) (البلد)



إن النداء القرآني يخاطب أعمق ما في الإنسان وهو شعوره بالخواء والعبث ما دام بعيدا عن الله. ثم يرفعه في صحبة المؤمنين المتواصين الصابرين المتراحمين إلى طلب أسمى غاية وهي وجه الله والاستواء مع أصحاب الميمنة. لكن تعترض تربيةَ المؤمن وبناءه البناء القويم عقباتٌ عدة ورد ذكرها في كتاب ربنا عز وجل ، منها على سبيل الذكر لا الحصر:



<h1 class="wp-block-heading">العقبة الأولى: الإبليسية</h1>



ويراد بالإبليسية في هذا المقام، الأنانية المستعلية التي يعوق أصحابَها عن اقتحام عقبات السير إلى الله تعالى امتلاءُ مما هم فيه وطلب المزيد مما هم فيه[1]. أنانية تستعبد الفرد لهوى نفسه، وأول من سن ّذلك إبليس، قال الله تعالى (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ. فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ . فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ . إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ . قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ . قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)  هذه هي الإبليسية التي تقطع حبال الوصل بالله تعالى وتؤدي إلى الامتناع عن امتثال أمره سبحانه وحكمه، إنها آفة عظيمة مهلكة. قال ابن كثير:&#8221; كان  ـ أي إبليس ـ من الجن فخانه طبعه وجبلته أحوج ما كان إليه فاستنكف عن السجود لآدم وخاصم ربه عز وجل فيه وادعى أنه خير من آدم فإنه مخلوق من نار وآدم خلق من طين والنار خير من الطين في زعمه، وقد أخطأ في ذلك وخالف أمر الله تعالى وكفر بذلك فأبعده الله عز وجل وأرغم أنفه وطرده عن باب رحمته ومحل أنسه، وحضرة قدسه، وسماه إبليس إعلاما له بأنه قد أبلس من الرحمة وأنزله من السماء مذموما مدحورا إلى الأرض&#8221;[2].



وقال ابن كثير في موضع آخر في شأن امتناع إبليس لأمر الله تعالى بالسجود لآدم عليه السلام بسبب أنانيته المستعلية وحبه المفرط لذاته: &#8220;وقول إبليس لعنه الله أنا خير منه من العذر الذي هو أكبر من الذنب، كأنه امتنع من الطاعة لأنه لا يؤمر الفاضل بالسجود للمفضول، يعني لعنه الله وأنا خير منه فكيف تأمرني بالسجود له؟ ثم بين أنه خير منه بأنه خلق من نار، والنار أشرف مما خلقته منه وهو الطين، فنظر اللعين إلى أصل العنصر ولم ينظر إلى التشريف العظيم، وهو أن الله تعالى خلق آدم بيده ونفخ فيه من روحه، وقاس قياسا فاسدا في مقابلة نص قوله تعالى: فقعوا له ساجدين فشذ من بين الملائكة لترك السجود&#8221;[3].



إن الأنانية مرض عضال ومعول هدام يفوق خطرها كل غريزة لأنها تستخدم بقية الغرائز لإشباع متطلباتها، إنَّها أعظم عقبة تعانيها البشريَّة ـ فردا وجماعة ـ لأنها تسكن النفس، فمن لم يمسك بتلابيب نفسه واقتحم عقبة أنانيته ضل وهلك. كما أنها إذا شاعت في المجتمع انحلّت عقده، وانفصمت عراه؛ ولذلك جاء الإسلام لعلاج هذا المرض الذي يفتك بالفرد والمجتمع، حيث دعا الإسلام إلى التحلي بالإيثار ومحاربة الأنانية، قال النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه: &#8220;لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه&#8221;[4].



قال النووي: &#8220;قال العلماء رحمهم الله معناه لا يؤمن الإيمان التام&#8221;[5]، فالمراد من النفي في هذا الحديث نفي كمال الإيمان، قال ابن دقيق في شرح الأربعين: &#8220;لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب لأخيه في الإسلام ما يحب لنفسه، والقيام بذلك يحصل بأن يحب له حصول مثل ذلك من جهة لا يزاحمه فيها بحيث لا ينقص عليه شيء من النعمة، وذلك سهل قريب على القلب السليم، وإنما يعسر على القلب الدغل عافانا الله تعالى وإخواننا أجمعين&#8221;[6].



وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي: &#8220;وحديث أنس يدلُّ على أنَّ المؤمنَ يَسرُّه ما يسرُّ أخاه المؤمن، ويريد لأخيه المؤمن ما يريده لنفسه من الخير، وهذا كلُّه إنَّما يأتي من كمال سلامة الصدر من الغلِّ والغِشِّ والحسد، فإنَّ الحسدَ يقتضي أن يكره الحاسدُ أن يفوقَه أحدٌ في خير، أو يساويه فيه؛ لأنَّه يُحبُّ أن يَمتاز على الناس بفضائله، وينفرد بها عنهم، والإيمان يقتضي خلافَ ذلك، وهو أن يشركه المؤمنون كلُّهم فيما أعطاه الله من الخير، من غير أن ينقص عليه منه شيء&#8221;[7]، وقال رحمه الله أيضا: &#8220;وفي الجملة فينبغي للمؤمن أن يُحبَّ للمؤمنين ما يُحبُّ لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، فإن رأى في أخيه المسلم نقصاً في دينه اجتهد في إصلاحه&#8221;[8]. وحاصل القول، فإن جذام الأنانية من أكبر عوائق البناء السليم للإنسان، ومن أعظم مهالكه في الحال والمآل.



<h1 class="wp-block-heading">العقبة الثانية: الفرعونية</h1>



&nbsp;وأقصد بهذه العقبة الكبر والاستعلاء على الخلق، وحقيقة الكبر كما نص الإمام الغزالي رحمه الله أن يرى المرء &#8220;نفسه فوق غيره في صفات الكمال، فيحصل فيه نفخة وهزة من هذه الرؤية والعقيدة&#8221;[9]، والكبر من الصفات الذميمة وشر محض لا خير فيه، فكفى به داء عضالا، وكفى به على صاحبه وبالا، وهو من أعظم عوائق بناء الإنسان وتربيته التربية المتوازنة، ذلك أن المتكبر تصدر عنه أفعال بغيضة كالترفع في المجالس، والنظر إلى الناس بعين التحقير، قال الإمام ياسين: &#8220;كن عزيزا على الكافرين من حيثُ أمرَكَ الله بذلك، أما مع المؤمنين فإن تكبرت عليهم فقد عرَّضْت نفسك للخطر الرَّديء&#8221;[10].



وقد ضرب الله تعالى لنا في القرآن العظيم أمثلة للمستكبرين المتجبرين في الأرض، أقتصر ـ اختصارا ـ على ذكر مثال واحد وهو فرعون إمام المتكبرين الذين تجبروا وعثوا في الأرض فسادا، بلغ به الكبر أن ادعى الربوبية )أنا ربكم الأعلى(، و )يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري(، فأغرقه الله تعالى وغيبه في قعر الماء جزاء تكبره، قال أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط: &#8220;ولما كان الغرق من أعسر الموتات وأعظمها شدة، جعله الله تعالى نكالا لمن ادعى الربوبية، فقال: أنا ربكم الأعلى، إذ على قدر الذنب يكون العقاب، ويناسب دعوى الربوبية والاعتلاء انحطاط المدعي وتغييبه في قعر الماء&#8221;[11].



<h1 class="wp-block-heading">العقبة الثالثة: القارونية</h1>



&nbsp;ومعنى القارونية استغناء النفس البشرية عن الله تعالى في جميع الأمور، وهي عقبة تمنع المرء من الاتصاف بالخلال الحميدة وتمثل الفضائل ومحاسن الأفعال والأقوال، إنها رذيلة خطيرة مهلكة موجبة لمقت الله وعذابه، ونمثل لها في هذا المقام بقارون الذي حكى لنا القرآن الكريم قصته، قال تعالى: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ . وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ . قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) (القصص:76-78)



قال الشوكاني رحمه الله تعالى: &#8220;قيل المعنى: إن الله آتاني هذه الكنوز على علم منه باستحقاقي إياها لفضل علمه مني&#8221;[12]. فقارون لم ينسب ما أوتي إلى بارئه سبحانه افتقارا إليه وانكسارا إنما نسبه إلى نفسه استحقاقا واغترارا، وقد &#8220;نبه القرآن على خطئه في اغتراره وعارض منزعه&#8221;[13]. &nbsp;إن الناس جميعا ـ غنيهم وفقيرهم كبيرهم وصغيرهم ـ فقراء إلى الله تعالى في كل شيء في تدبيرهم وتخطيطهم، وقيام أمورهم، وإصلاح شؤونهم، لا يستغنون عنه طرفة عين، ولا أقل من ذلك، فالله هو الغني المطلق، والناس فقراء محتاجون إليه، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (فاطر:15). وقد جعل الله استغناء العبد عنه موجبا لهلاكه، قال تعالى: (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) (الليل:8-10)، وأخبر أن رؤيته غنى نفسه، سبب طغيانه، فقال: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى)(العلق:6-7)، ولذلك فالموفق من خَلق الله تعالى أعظمهم رؤية وشهودا لفقره وحاجته إلى ربه جل وعلا. اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت ولها ومولاها.



<hr class="wp-block-separator has-alpha-channel-opacity"/>



[1] &nbsp;ـ ينظر <a href="https://siraj.net/ar/books/%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%86%D9%87%D8%A7%D8%AC-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%A8%D9%88%D9%8A-%D8%AA%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%AA%D9%86%D8%B8%D9%8A%D9%85%D8%A7-%D9%88%D8%B2%D8%AD%D9%81%D8%A7/pages/">عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا</a>، دار إقدام للطباعة والنشر والتوزيع ـ إستانبول، الطبعة الخامسة، السنة 2022م، ص: 31 [2]ـ تفسير القرآن العظيم لابن كثير، تحقيق سامي بن محمد السلامة، الطبعة الثانية، السنة 1999م، دار طيبة للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية ـ الرياض:7/ 81 ـ 82 [3] ـ نفس المصدر، 3/392 [4] &nbsp;ـ صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، رقم: 13، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير، رقم: 71 [5] &nbsp;ـ صحيح مسلم بشرح النووي، الطبعة الأولى، السنة 1929م، المطبعة المصرية بالأزهر، 2/16. [6] &nbsp;ـ ابن دقيق العيد، شرح الأربعين النووية، الطبعة السادسة، السنة 2003م، مؤسسة الريان، ص: 63 [7] &nbsp;ـ ابن رجب، جامع العلوم والحكم، تحقيق صلاح عويضة، الطبعة الأولى، السنة 1999م، دار المنار للطبع والنشر والتوزيع، القاهرة، ص: 120 [8] ـ نفس المصدر، ص: 121 [9] &nbsp;ـ الغزالي، كتاب الأربعين في أصول الدين في العقائد وأسرار العبادات والأخلاق، تحقيق عبد الله عبد الحميد عرواني، الطبعة الأولى، السنة 2003م، دار القلم، دمشق، ص: 157 [10] &nbsp;ـ رشيد حليم، أحاديث في العدل والإحسان من محاضرات الإمام عبد السلام ياسين، دار إقدام للطباعة والنشر والتوزيع، إستانبول، الطبعة الثانية، السنة 2021م، ص: 133 [11] &nbsp;ـ أبو حيان الاندلسي، البحر المحيط في التفسير، تحقيق صدقي محمد جميل، طبعة 1420هـ، الناشر: دار الفكر، بيروت. 1/ 320 [12] &nbsp;ـ الشوكاني، فتح القدير، الطبعة الأولى، السنة 1414ه، الناشر: دار الكلم الطيب، دمشق ـ بيروت، 4/215 [13] &nbsp;ـ ابن عطية، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، تحقيق عبد السلام عبد الشافي محمد، الطبعة الأولى، السنة 1422هـ، دار الكتب العلمية ـ بيروت، 4/300

التزكية والدعوة

عقبات بناء الإنسان في ضوء القرآن الكريم

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

سنة التدافع ووعد النصر

رمضان شهر تجديد الصلح مع الله

عقبات بناء الإنسان في ضوء القرآن الكريم

إسرائيل ابتلاء مؤقت

الإيمان بالقضاء والقدر

ولذكر الله أكبر

مقالات ذات صلة