post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

<p><span class="citation">في معاني الاستقامة ومقتضياتها:</span></p>
<p>خلق الله عزّ وجلّ الإنسان لمعرفته وعبادته سبحانه وللاستقامة على صراطه المستقيم؛ الذي لا اعوجاج فيه، فمن راغ عنه وحاد عن الطريق النيرة الواضحة التي رسمها القرآن الكريم وتركنا عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأمرنا بالتمسك بها والعض عليها بالنواجذ؛ فإنه لا مناص سيسلك طرقا منحرفة، وهذا مسلك أهل البدع والضلالات من أهل الأهواء، قال تعالى (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِه) (الأنعام: 153)، وقد حذّر الشرع الحكيم من الوقوع في هذه السبل لكونها مخالفة لقصده، ولأنها تنتهي إلى الضلال.</p>
<h2>مفهوم الاستقامة</h2>
<p>الاستقامة ضد الاعوجاج، وهي لزوم الطريق المستقيم الذي رسمه النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن رجب رحمه الله معرفا الاستقامة: «هي سلوك الصّراط المستقيم، وهو الدّين القويم من غير تعويج عنه يمنة ولا يسرة، ويشمل ذلك فعل الطّاعات كلّها الظّاهرة والباطنة وترك المنهيّات كلّها كذلك»،[ref]ـ ابن رجب الحنبلي، روائع التفسير، جمع وترتيب: طارق بن عوض الله بن محمد، الناشر: دار العاصمة &#8211; المملكة العربية السعودية، الطبعة 2 السنة 2001م، 2/263[/ref] فهي استقامة على محبة الله وعبوديته ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم واقتفاء أثره والاقتداء بسنته الشريفة وإحيائها في أمته، فبالاستقامة تحصل الخيرات، وتُدفع بإذن المولى الكريم الكروب والآفات، ومن لم يكن مستقيما على شرع الله سبحانه ضاع سعيه وخاب أمره.</p>
<h2>شيبتني هود</h2>
<p>قال الله تعالى (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (هود: 112) قال الخازن رحمه الله: &#8220;الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم يعني فاستقم يا محمد على دين ربك والعمل به والدعاء إليه كما أمرك ربك، والأمر في (فاستقم) للتأكيد لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان على الاستقامة لم يزل عليها&#8221;.[ref]ـ الخازن، لباب التأويل في معاني التنزيل، الطبعة 1 السنة 1415هـ، دار الكتب العلمية ت بيروت، 2/ 505  [/ref]</p>
<p>وعن الحسنِ البصري قال: لمَّا نزلتْ هذه الآية ُ شَمَّرَ رسولُ اللَّهِ &#8211; صلى الله عليه وسلم -، فما رؤي ضاحكًا، وفي رواية عَنهُ أيضا قَالَ: لما نزلت هَذِه الْآيَة (فاستقم كَمَا أمرت وَمن تَابَ مَعَك) قَالَ عليه الصلاة والسلام: شمروا شمروا فَمَا رُؤِيَ ضَاحِكا&#8221;.[ref]ـ السيوطي، الدر المنثور، دار الفكر، بيروت، 4/480[/ref]</p>
<p>ولذلك قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مَا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةٌ هِيَ أَشَدُّ وَلَا أَشَقُّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ حِينَ قَالُوا لَهُ: لَقَدْ أَسْرَعَ إِلَيْكَ الشَّيْبُ! فَقَالَ:&#8221; شَيَّبَتْنِي هُودٌ وأخواتها&#8221;.ـ[ref] السيوطي، الدر المنثور،  4/397[/ref]</p>
<p>قال البيهقي معلقا على الحديث ـ وهذا من فقهه رحمه الله ـ :&#8221;وَكُلُّ هَذَا مِنْ شِدَّةِ مَعْرِفَتِهِ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَخَوْفِهِ مِنْهُ عَلَى أُمَّتِهِ&#8221;.[ref]ـ البيهقي، شعب الإيمان، تحقيق وتخريج: مختار أحمد الندوي، مكتبة الرشد للنشر والتوزيع بالرياض بالتعاون مع الدار السلفية ببومباي بالهند الطبعة 1 السنة 2003م،  2/221[/ref]</p>
<p>واللائق كما هو معلوم، أن إشفاقه عليه الصلاة والسلام من أجل أمته لا من أجل نفسه لأجل عصمته، وإنما أشفق عليهم لتوعد الشيطان اللعين لهم بقوله (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) (الأعراف: 16)</p>
<h2>أنواع الاستقامة</h2>
<p>أصلُ الاستقامةِ استقامةُ القلب على التوحيدِ، وأعظمُ ما يُراعى استقامتُه بعدَ القلبِ مِنَ الجوارح: اللسانُ، فإنَّه ترجمانُ القلب والمعبِّرُ عنه، عن أنس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: &#8220;لا يستقيمُ إيمانُ عبدٍ حتَّى يستقيمَ قلبُه. ولا يستقيمُ قلبُه حتَّى يَّسَتقيمَ لسانُه&#8221;.[ref]ـ البيهقي، شعب الإيمان، بَابُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ التَّصْدِيقَ بِالْقَلْبِ، وَالْإِقْرَارَ بِاللِّسَانِ أَصْلُ الْإِيمَانِ، وَأَنَّ كِلَاْهِمَا شَرْطٌ فِي النَّقْلِ عَنِ الْكُفْرِ عِنْدَ عَدَمِ الْعَجْزِ، رقم: 8.[/ref]</p>
<p>والاستقامة أنواع، يقول سيدي ابن عجيبة: &#8220;الاستقامة على ثلاثة أقسام: استقامة الجوارح، واستقامة القلوب، واستقامة الأرواح والأسرار.</p>
<p>أما استقامة الجوارح فتحصل بكمال التقوى، وتحقيق المتابعة للسنة المحمدية. وأما استقامة القلوب فتحصل بتطهيرها من سائر العيوب، كالكبر والعجب، والرياء، والسمعة، والحقد والحسد، وحب الجاه والمال، وما يتفرع عن ذلك من العداوة والبغضاء، وترك الثقة بمجيء الرزق، وخوف سقوط المنزلة من قلوب الخلق، والشح والبخل&#8230;إلى غير ذلك من أنواع الرذائل.</p>
<p>فإذا تطهر القلب من هذه العيوب اتصف بأضدادها من الكمالات: كالتواضع لله، والخشوع بين يديه، والتعظيم لأمره، والحفظ لحدوده، والتذلل لربوبيته، والإخلاص في عبوديته، والرضى بقضائه، ورؤية المنة له في منعه وعطائه. ويتصف فيما بين خلقه بالرأفة والرحمة، واللين والرفق، وسعة الصدر والحِلم، والاحتمال والصيانة، والنزاهة والأمانة، والثقة والتأني، والوقار، والسخاء والجود، والحياء، والبشاشة والنصيحة. إلى غير ذلك من الكمالات.</p>
<p>وأما استقامة الأرواح والأسرار، فتحصل بعدم الوقوف مع شيء سوى الله تعالى، وعدم الالتفات إلى غيره حالاً كان أو مقاماً أو كرامة&#8221;.[ref]ـ ابن عجيبة، البحر المديد، تحقيق أحمد عبد الله القرشي رسلان، الناشر: الدكتور حسن عباس زكي – القاهرة، طبعة 1419 ه، 2/565[/ref]</p>
<h2>ـ الاستقامة اقتحام صاعد لعقبة صاعدة</h2>
<p>بيّن الإمام عبد السلام ياسين أن حقيقة الاستقامة إنما هي اقتحام صاعد لعقبات صاعدة، يقول: &#8220;الاستقامة اقتحام صاعد لعقبة صاعدة. وبجهد استقامتك وجهادها تتقرب إلى الله عز وجل حتى يُحِبَّك ويكون سمعك وبصرك ويدك ورجلك. وقد كتب سبحانه الاستقامة على كل كثائفك ولطائفك، من جوارح ونفس وقلب وروح وسر&#8221;،[ref]ـ عبد السلام ياسين، الإحسان، الطبعة 1 السنة 1998م، 2/246 [/ref]ولهذا الاقتحام الصاعد من المؤمن السالك طريق الحق سبحانه مراحل ذكرها الإمام رحمه الله، قال: &#8220;المراحل بالنسبة لطالب الحق، السالك طريق الاستقامة، المقتحم العقبة إلى الله كما يلي:</p>
<p>-1 انجماع على الله بصحبة الأخيار وذكر الله وعبادته.</p>
<p>-2 إعداد القوة بالانضمام للجماعة المجاهدة.</p>
<p>-3 ثم بذل الثمن المعلوم، المال والنفس، الموت في سبيل الله، الفرار إلى الله&#8221;. [ref]ـ عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، الطبعة 3 السنة 1994م، ص: 345[/ref]</p>
<h2>في مقتضيات الاستقامة</h2>
<p>إن الاستقامة تقتضي من طالب الحق سبحانه الكينونة مع أهل الاستقامة والتشمير وحمل النفس على الجد، ورسوخ القدم في أرض العبودية، ويؤكد الصالحون من خلق الله تعالى على الاستقامة على شرع الله سبحانه، قال أبو علي الجوزجانيّ: &#8220;كن طالب الاستقامة لا طالب الكرامة. فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة، وربك يطلب منك الاستقامة&#8221;. [ref]ـ نقلا عن عبد السلام ياسين، الإحسان، 2/248[/ref]</p>
<p>وقد أكد الإمام ياسين رحمه الله على صحبة أهل الاستقامة ومحبتهم، وحذر من آفة الانعزال عنهم، إذ البعد عنهم مجلبة للشرور والوقوع في حبال الشيطان، كما حثّ السالك سبيل المولى عز وجل على لزوم حلق أهل العلم والذكر، قال رحمه الله :&#8221;دوام الاستقامة يوجب دوام الكرامة، والروَغَان عن الطريق غرامةٌ وندامة. فمن استقام على صحبة الكاملين دامت له كرامة التوفيق. ومن انعزل عن جماعة الصالحين ابتلعته الفتنة المحيطة. ومن زهد في حِلَقِ الذكر، وزاغ عن الأوراد، وتهاون في الأوقات، قسا قلبه، وكسِلت جوارحه، وأظلمت روحانيته. ومن عامل الله عز وجل بإرادة مائلة، وأنانية متطاولة، وجبن في مواطن الثبَات، وبخل في حلول الحاجات هَوَى عن العقبة، وسقط فاندقَّت منه الرقبة&#8221;. [ref]ـ  عبد السلام ياسين، الإحسان،، 2/248[/ref]</p>
<h2>الاستقامة أعظم كرامة</h2>
<p>مما يجدر التنبيه إليه في حديثنا عن الاستقامة ـ وهي مطلبنا ودعاؤنا الدائم ورجاؤنا في الله تعالى ـ أن عامة الناس يحصرون معاني الصلاح والولاية في ظهور الكرامات وخوارق العادات، مع أن كل ذلك لا يشترط في الوليّ الصالح، يقول سيدي ابن عجيبة: &#8220;لا يُشترط في الولي ظهور الكرامة، وإنما يشترط فيه كمال الاستقامة&#8230; فكثير من العوام لا يقرون الولي حتى يروا له آية أو كرامة، مع أن الولي كلما رسختْ قدمه في المعرفة قلَّ ظهور الكرامة على يديه لأن الكرامة إنما هي معونة وتأييد وزيادة إيقان. والجبل الراسي لا يحتاج إلى عماد&#8221;. [ref]ـ ابن عجيبة، البحر المديد، 1/ 150[/ref]</p>
<p>وفي السياق نفسه يقول الإمام ياسين رحمه الله: &#8220;يتصور عامة الناس أن الولاية تنحصر في أسرار تنزل، ومعارف توهب، وكرامات تخرق العادة. وليست الولاية إلا الاستقامة على الصراط المستقيم صراط الذين ﴿أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيماً﴾ النساء: 69. فما جاء مع الاستقامة من كشوفات وأسرار وكرامات فإنما هو ابتلاء بالنعمة المطلوب معها مزيد من الاستقامة لقوله تعالى لإمام المنعم عليهم محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾&#8221; [ref]ـ عبد السلام ياسين، الإحسان، 2/248[/ref] هود: 112.</p>
<p>نسأل الله تعالى أن يمنّ علينا بكمال الاستقامة، فضلا منه ونعمة، وأن يعيننا ويوفقنا لامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وصلى الله على سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.</p>


في معاني التربية الإيمانية عند الإمام عبد السلام ياسين

التزكية والدعوة

في معاني الاستقامة ومقتضياتها

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

رمضان شهر البركات

إنهم فتية آمنوا بربهم

صور من حبّ الصحابة الكرام للرسول عليه الصلاة والسلام

سنة التدافع ووعد النصر

رمضان شهر تجديد الصلح مع الله

عقبات بناء الإنسان في ضوء القرآن الكريم

مقالات ذات صلة