post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

<h2>قضاة</h2>
ما من شك في أن القاضي غير الداعية وكلاهما يختلف عن البناء، القاضي من على منبره يصدر الأحكام ويقاضي الناس في معتقداتهم وتصوراتهم، في سلوكاتهم وتصرفاتهم، وهو إن كان نزيها، وكان الجهاز الذي ينتمي إليه مستقلا حرا – وعز ذلك فيما نرى ونسمع ونعلم ونعاين – أتاح الأجواء النقية لمحاكمة عادلة، تتيح للمتهم أن يدافع عن نفسه أو يدافع عنه من يصطفي لذلك، وللشهود أن يشهدوا، وللجهة المجرَّمة -معاديا كان أو خصيما- أن تدلي بما لديها مما يثبت التهمة ويفتل في حبل صدقيتها، وكيف يتأتى ذلك وأغلب القضاة من المفكرين والمثقفين والساسة وبعض العلماء وكثير من الدعاة يحكمون في غياب المتهم، ومن منبر أستاذية لم ينصبهم عليها أحد، وفي غياب هيئة الدفاع والشهود، محاكمة من جهة واحدة كأنها مباراة ملاكمة بين طليق ومقيد، أو عدْوٍ بين سريح ومسلسل، لك أن تتصور ما الذي يملك أن يفعله المقيد أمام الطليق والمسلسل أمام السريح، وليس للجمهور إلا أن يصفق للمنتصر المنتشر المسيطر بلا استئناف ولا نقض ولا إبرام، والأمر إلى المجلس الأعلى للقضاء لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى [ref]سورة طه، الآية 52[/ref] . قضاة ! وهم الأكثر في هذا الزمان انتصارا موهوما، وانتشارا مدعوما، ونجاحا ملغوما. كفِّر يا قاض وخون واتهم وجرم، وانسب لخصمك ما شئت فقد خلا لك الجو فبيضي واصفري [ref]خلا لك الجو فبيضي واصفري، الأمثال لابن سلام رحمه الله، باب الحاجة يقدر عليها صاحبها متمكنا لا ينازعه فيها أحد.[/ref] وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [ref]سورة الحج، الآية 41[/ref] وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ [ref]سورة فاطر، الآية 10[/ref] . أرد للبرآء العيب [ref]عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: &#8221; إن أحبكم إلي أحاسنكم أخلاقا الموطؤون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون . وإن أبغضكم إلي المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الملتمسون للبرآء العيب&#8221; رواه الطبراني في الصغير والأوسط.[/ref] ، وأطلق لسانك في الأعراض، أسل مداد قلمك لا اعتراض ولا امتعاض، وهل ينتظر من المستبد والفاسد من الظلال والأذيال وأشباه الرجال إلا أن يكون الحاقد الحاسد الجاحد، الكل وارد وأنت القائد و&#8220;الظلم ظلمات يوم القيامة&#8221; [ref]رواه البخاري ومسلم وأحمد رحمهم الله عن ابن عمر رضي الله عنه مرفوعا.[/ref] ، وإن صدقت منك النية فهل كان منك إتقان العمل تبينا حتى لا تصيب قوما بجهالة فيكون الحصاد ندما، ويكون ربك يوم القيامة لك خصيما. رحم الله سلفنا الصالح كانوا إذا عينوا من قبل أولي الأمور قضاة تمنعوا ورفضوا، وفي المنصب زهدوا لعلمهم أن قاضيين في النار [ref]قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: &#8220;القضاة ثلاثة قاضيان فى النار وقاض فى الجنة قاض قضى بالهوى فهو فى النار وقاض قضى بغير علم فهو فى النار وقاض قضى بالحق فهو فى الجنة&#8221; رواه الطبرانى رحمه الله عن ابن عمر رضي الله عنه.[/ref] وقَلَّ أن تجد الثالث الذي يزحزح عنها في تلك الدار. رحم الله الإمام الشوكاني كفر وكفر عن تكفيره، وكتب في ذلك قصيدة لو أن الدعاة القضاة من مختلف الأطياف قرؤوها لعلموا أن مقاضاة الناس بناء على غير أساس، هذا إن كان المجرم حيا يرزق، متاح لك أن تحمل نفسك على ما تكره من الذهاب إليه ولو سفرا، والاعتذار إليه ولو هدرا، أو أن تكتب في ذلك سطرا، فكيف بالذي يسكن قبرا، وقد أفضى إلى ما قدم وهو إلى حسناتك أحوج يوم الصاخة والحرج، حيث تَشَبُّثُ المرء بكل ما يتيح الفرج، وحيث الحساب ولا عمل، يوم يقال للمظلوم تقدم، وللظالم لا تتكلم. فكر في كل منصب أن تشغله إلا أن تكون قاضيا، واحمد الله إن سلم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 
<h2>دعاة</h2>
والدعوة تشرف بشرف من يدعو، ومن يستدعى وإلى ما. وكثير هم الدعاة الذين يدعون إلى الباطل، وإلى نصرة أهل الباطل ودعم جورهم واستبدادهم وفسادهم بلسانه بقلمه، بخدمه وحشمه، بفكره وعلمه. وأئمة الباطل أشكال وألوان، تسلطا على رقاب الناس بغير حق، وانتصابا لمقاضاة الناس بمنبرية وهمية ولا صدق، وولاء وانتماء لمن تعرف أنه ليس على شيء، وتَدَّعي أنه يملك كل شيء. داع إلى &#8220;نحلة الغالب&#8221;، وداع يروغ روغان الثعالب، وداع همه المناصب والمراتب والمكاسب، وداع الغاية عنده تبرر الوسيلة، ولو امتطى إليها راحلة غير نبيلة، وداع إلى قطع رحم وعدم وصل ما أمر الله به أن يوصل، ومن أمر به أن يوصل من أهل التقوى والعلم والمعرفة والدلالة على الحق. وداع إلى الكفر الصراح، وداع إلى سفاح أو ما يؤدي إلى السفاح من خطوات، وداع إلى السبل الملتوية والمنكرات والضلالات&#8230; دعاة ونقط ثلاثة تملأها إن شئت بما شئت من الدعواتوَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [ref]سورة الأنعام، الآية 116[/ref] . وقَلَّ أن تجد من يدعوك إلى خير أو إلى بر، ومن يدعوك إليهما بالتي هي أحسن، ويدعوك منهما إلى التي هي أحسن. وقل أكثر أن تجد دعوة بإذن الله وعلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تُحَيِّنُ فهمها لكتاب الله ولسيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في منهاج هو جماع سنة المعصوم قولا وفعلا وحالا وتقريرا في سياقها التاريخي، حكمة لا تقول الحق ضربة لازب، وأبدا لا تؤاكل ولا تشارب، بل تحافظ على المكاسب وتصانع الظرف بما يناسب. قل أن تجد دعوة قوامها قيادة ربانية، وأساسها الحكمة والرحمة النبوية مقترنتين، والعدل والإحسان أمرين قرآنيين مجتمعين، وتغيير ما بالنفس وما بالأمة هدفين إجرائيين عمليين، وإرادة وجه الله إحسانا، وتنزيل قدر الله خلافة على منهاج النبوة وعدا إليه نتوق، لا يخلف الله، وصدَّقنا الصادق المصدوق. قلَّ أن تجد من الدعاة من تمثل لديهم الدولة الإسلامية دنيا يزهدون فيها إن لم تكن الغاية الله، والموعد الله، والسبيل جهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله في أرض الله كل الأرض، أنت المبتدأ والخبر عند اللهوَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى [ref]سورة القصص، الآية 60[/ref] ، والله خير مما عنده وأبقى، والعاقبة لا للأقوى بل للأتقى. والخبر اليقين في ربيع العرب، هرب من هرب، وتنحى من تنحى، وأعدم قبل ذلك من أعدم، وقتل من قتل، والبقية تأتي بعد حين،فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [ref]سورة البقرة، الآية 193[/ref] . دعاة لا قضاة، رحم الله الهضيبي كانت صرخته هضبة حسنية قائمة بالحق شاهدة بالقسط، وهضبة بناوية إخوانية مسلمة، تركها في عقبنا كلمة، لعلنا نختار الأولى على الثانية، وأين القاضي من الداعية، وأين الداعية من البناء. رحم الله السعيد الشهيد سيد قطب منه هذه الكلمة، وقد أوتي خيرا كثيرا من أوتي الحكمة. 
<h2>بناة</h2>
قال سيد قطب رحمه الله: ما كل داعية يملك أن يكون بناء) [ref]سيد قطب رحمه الله، دراسات إسلامية، دار الشروق، 1398هـ/1978م، ص 225[/ref] . والباني لا يستعجل ولا يبتذل، ولا ينتقل من مرحلة بناء إلى أخرى حتى يَتَثَبَّتَ من أن الأساس قد أُحْكِمَ بلبنات غير مغشوشة، وقوام ليس فيه دغل، حتى يقف على قاعدة صلبة، وحتى لا يتصدع البناء بعد حين فيتداعى وينهار. البناء تنظير يتطلب تأطيرا، ويؤول إلى تغيير. وأين الخاطرة من الفكرة، وأين الفكرة من المشروع، وأين المشروع من التجربة العملية، وأين التجربة من الخبرة. بناء والبناة قليل. فهل دعوتك ارتجال أم تخطيط؟ وهل تخطيطك تكتيك أم استراتيجية بعيدة المدى؟ وكيف تدعي البناء وغاية ما فعلت ترميم وإصلاح لمن مآله الهدم؟ هل يكفي وضع الأصباغ على الشقوق لنقول البناء زين؟ تفضحك الأيام ولو بعد حين. وهل يستقيم لك علو ما تبني على غير أساس أو على أساس مهترئ؟ وأساس البناء التقوىأَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ [ref]سورة التوبة، الآية 109[/ref] . وتدعي أنه بناء وقد أقمته عشوائيا بليل والنية مبيتة أو ميتة. دعني من هذه الدعوى فقد كثرت البلوى وكثرت الشكوى من ظاهر مزخرف وباطن خراب، والمعول على المضغة يا صاح. كثرت الطوابق والمرافق وهل يبني منافق، يأتي الله بنيانه لا شك من القواعد. لا ثبات والبناء فاسد كما يقول الفرنسيون: &#8221; لا تبنى ناطحة سحاب فوق المستنقعات&#8221;. وأوهمني أنك بنيت وأعليت وأنك استأجرت وآويت، انطلت اللعبة على الأغرار، وتمنع الأحرار الأبرار لأنهم لم يطمئنوا إلى صنيعك، ويعلمون علم يقين أن&#8220;المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى&#8221; [ref]حديث نبوي رواه البزار والحاكم وغيرهما[/ref] ، فقد سقط برجا أمريكا فهما في خبر كان. الباني غير القاضي وغير الداعي لأنه يبني حين يبني وهو الخبير بأين؟ ومن؟ وكيف؟ ومتى؟ ولماذا؟ وإلى أين؟ وإلى أي مدى؟ ويجيب عن كل هذه الأسئلة بفكر واضح متدرج أصيل شمولي متوازن وفعال. ولسنا وحدنا في الميدان فالتنافس على أشده، فإن كنا نقاضي وندعو أو ندعي، فغيرنا يبني، حتى الشياطين تبنيوَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ [ref]سورة ص، الآية 37[/ref]

التزكية والدعوة

قضاة ودعاة وبناة

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

هدنة بطعم الانتصار

هدية إلى هنية

الحج رسالة

الحج فرصة

الحج أنواع ومعانٍ

حج الأشباح وحج الأرواح

مقالات ذات صلة