post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

قلوب كالحجارة
في القرآن الكريم الحكيم أوصاف شتى لقلوب الطوائف المتباعدة عن الإيمان والإسلام. يأتي ذكر الذين في قلوبهم مرض مع ذكر المنافقين في مثل قوله تعالى: ﴿إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ﴾1. وينعت المنافقون تارة بأنهم هم مرضى القلب في مثل قوله تعالى عن الذين يخادعون الله والذين آمنوا فيظهرون الإسلام ويبطنون الكفر: ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾2. إلى أن قال: ﴿أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ﴾3. إلى أن قال: ﴿أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ﴾4. جامع مشترك هو رابطة مرض القلوب تحالف عليها اليهود في المدينة مع المنافقين. اختصّ المنافقون بأصناف الخداع والكذب والسفه، وهو الطيش والخفة، وبأنهم لا يشعرون ولا يعلمون. وكلها صفات ضعف في الإدراك وضعف في الموقف وضعف في السياسة. مرض ضعف إذن. بينما مرض اليهود مرض مكر وشيطنة جامع آخر مشترك بين اليهود وبين المشركين وهو ختم الله جلت عظمته قلوب الطائفتين، وطبعه عليها، وعلى سمعهم وأبصارهم، فهم جميعا لا يعقلون، ولا يسمعون، ولا يعلمون. غلف القلوب، صم بكم عمي فهم لا يعقلون. يجتمع اليهود مع المشركين أيضا في نعت قسوة القلب. في مقابل لين القلوب المؤمنة إلى ذكر الله والرحمة السائدة بينهم، متساكنة مع الشدة على الكفار، لا نجد في قلوب اليهود والمشركين إلا القسوة. والقسوة غير الضعف الذي وصفت به القلوب المنافقة. والقسوة العصبية التي يوقظها دعاة القومية في عصرنا فلا تريد أن تستيقظ إلا في مجال الهتاف والشعار المحموم ليست الشدة على الكفار التي ذكرها القرآن. ذكر مرض القلب في القرآن اثنتي عشرة مرة. يعلمنا الله تعالى فيهن كيف يزيد في مرض من به مرض قلبي. قال عز من قائل: ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً﴾5. ويعلمنا أنه يزيد المؤمنين إيمانا ومرضى القلوب رجْسا إلى رجسهم عند نزول القرآن وتلاوته: ﴿وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾6. ازداد المؤمنون إيمانا لما انفتحت قلوبهم للقرآن يتلى عليهم ويدخل نوره جوفهم. وادْلَهَمّ باطن اليهود والمنافقين لإعراضهم عن مصدر النور، وانغلاقهم عنه، وتكذيبهم له. في ساعة الأزمة ينـزل القرآن ويتلى فيثبت الله أقدام المؤمنين، ويظهر ضعف مرضى القلوب المنافقين. قال الله القوي العزيز: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾1. أما حلفاؤهم وشركاؤهم في مرض القلب اليهود، فهلعهم في ساعة الأزمة لا يقل عن هلعهم. قال الله تعالى عنهم: ﴿لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ﴾2. قسوتهم تدفعهم للقتال، يستميتون فيه كما نشاهد في عصرنا، لكن الهلع الآتي من مرض القلب وخوائه من الإيمان تجعل الواحد منهم أشد الناس خوفا وأعجزهم عن المواجهة إلا إن كان في عُصبة من قومه ووراء حصن من حجر، كما كان في العهود السابقة، أو حصن من فولاذ يدبُّ في الأرض أو يطير في السماء. ذكرت قسوة القلوب في خمسة مواضع في كتاب الله العزيز. عمت صفة القسوة القلبية كل كافر بالله من الأمم في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ. فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾3. وتأتي عليهم سنة الله، تطوي في النقمة الإلهية والسنة الأزلية كل قوم قست قلوبهم. قال الله العزيز: ﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ. فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾4. وقد تنتظر النقمة الإلهية طويلا، لكنها لا تتخلف، والعاقبة دائما للمتقين، متى أذن الله رب العزة واستيقظ المسلمون من الغفلة، وتطهروا من دخن الفتنة، وذكروا الله كثيرا فذهبت القسوة، ودخل الإيمان والنور، فقويت العزائم وانتظمت الشؤون بنواظم الإيمان والإحسان، وتجند جند الله، وتحزبوا لله، وتقدموا رحماء بينهم أشداء على الكفار لاستقبال موعود الله. يملي الرب القادر المقتدر، ويفتح أبواب الأرزاق والعلوم والاختراع والسلطان في الأرض حتى يفرح قساة القلوب بما أوتوا، ويَشمت الشامتون المنافقون، ويَسْتَيْئِس المسلمون لبعد الشقة بين وسائلهم ووسائل غيرهم، وتمكن أعدائهم منهم. فذلك أوان مجيء نصره، وظهور سنته بشروط النصر يعدها حزب الله، هي الدعاء الكسبي لقدره المقدر، لا إله إلا هو العليم الحكيم. قسوة القلب في سائر المواضع خصت اليهود. تفردوا عن طوائف الكافرين والمنافقين بذلك وبكون قلوبهم في أقسى درجات القسوة. قال الله تعالى يخاطبهم ليذكرهم سوء أعمالهم من بعدما كذبوا موسى عليه وعلى جميع الرسل والأنبياء أزكى السلام وجادلوه وأتعبوه: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾1. واختص بنو إسرائيل من بين كل الأمم باجتماع الشر كله في قلوبهم: غلاف القلوب ومرضها وقسوتها والطبع الإلهي عليها والختم. زادوا على ذلك اللعنة والغضب. استحقوا ذلك كله فتهيأوا بتراكم اللعنات والأوبئة ليكونوا كما نشاهد، أو كما لا يحب البعض أن يشاهدوا، جرثومة الفساد في الأرض وعينه منهم يتفجر، وسدَنَتَهُ ومدبريه وتجاره. وتهيّأوا لنقمة الله بهم الموعودة على أيدينا يوم تتوفر فينا الشروط. فتح الله عليهم أبواب كل شيء، المال والبنين والاستحكام في مراكز السلطة والإعلام والتمويل الربوي والجاسوسية والصناعة ومعاهد البحث وأوراش الاختراع ومكاتب التزوير والجمعيات العلنية والسرية ودور العهارة وإدارة الرذيلة وتوجيه الفلسفة، في كل القارات وعلى كل المستويات وبكل الوسائل. هم هم بنو إسرائيل الفرحون بما أوتوا المنتصرون على العرب لغفلة العرب عن الله، المحتلون لبلاد المسلمين لتمارض المسلمين عن الإيمان. هم هم بنو إسرائيل الذين قال الله فيهم وهو أعلم: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنبِيَاء بغيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾1. هم نفس الأمة الملعونة في القرآن الذين أخبرنا الله عن دخيلة قلوبهم ومصير تاريخهم وجزائهم في الدنيا والآخرة بما عتوا وكانوا يعتدون. هم الأمة المطبوعة إلى الأبد وإلى هلاك دولتهم على أيدي أمة الإسلام بطابع الخزي والمسخ وقسوة القلب ونسيان الله وإنساء الخلق إياه، ذلك النسيان المقرون في سنة الله بالنقمة بعد الإملاء ولو طال. قال الله تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ﴾2. وقد حذرنا الله من النسيان كما نسوا، قال: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾3.
1 سورة الأنفال، الآية 49. 2 سورة البقرة، الآية 10. 3 سورة البقرة، الآية 12. 4 سورة البقرة، الآية 13. 5 سورة البقرة، الآية 10. 6 سورة التوبة، الآية 125-124. 1 سورة محمد، الآية 20. 2 سورة الحشر، الآية 14. 3 سورة الأنعام، الآية 43-42. 4 سورة الأنعام، الآية 54-44. 1 سورة البقرة، الآية 74. 1 سورة النساء، الآية 155. 2 سورة المائدة، الآية 13. 3 سورة الحشر، الآية 19.
عبد السلام ياسين، سنة الله، ص 57-61.

قضايا فكرية

قلوب كالحجارة

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

الأسرة والاستقرار المادي

المكارمة في الحياة الزوجية

ترشيد الشباب

الأسرة مصدر قيام الأمم وانهيارها

الطلاق.. أحكام واجتهادات وإحسان

سعد مثال الشباب المحمدي

مقالات ذات صلة