ما أعز جناب الله
الله عز وجل يحيي القلوب
لحظات القرب من الله تعالى
الفائزون
صفات الفائزين
مذكرة من الأستاذ المرشد حفظه الله إلى الإخوة والأخوات في رباطهم العشري
بالدار العامرة سلا، شعبان 1431 – غشت 2010
ما أعز جناب الله!
من كتاب التذكرة في الوعظ، لابن الجوزي رحمه الله.
لولا التفريط في حفظ الأصول لكان لكل ساع إلى النجاة وصول، ولكل واقف على الباب دخول، وإنما الوصول إحكام العمل بأحكام العلم المنقول، مما أنزله الله في كتابه وشرعه على لسان الرسول.
شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم سفينة مأمونة من اعتصم بركوبها نجا، ومحجة من سلك طريقها وصل إلى نيل المنى؛ لأنه صلى الله عليه وسلم مؤيد بالعصمة فما ينطق عن الهوى.
شرع الرسول صلى الله عليه وسلم سفينة مأمونة من يعتصم بركوبها يوما نجا، ومحجة للسالكين فمن يسر فيها على نهج الهدى بلغ المنى، شمس الظهيرة في نهار صائف من يستضئ بنورها فقد اهتدى.
هذا والله مقام الفحول الأبطال، ومنال أصحاب الهمم العوالي. قوم سمت بهم العوارف والنهى أن يرغبوا في كل فانٍ قالي. قوم أبت بهم المفاخر والعلا أن يشتروا غير النفيس الغالي، لما رأوا أن المعجل ههنا كدر المشارب مؤذن بزوال، ورأوا نعيم الخلد حظ نفوسهم والحظ لا يخلو من الإعلال، كنز متى ظفرت به كف امرئ لم يخطر الإملاق منها ببال.
يا طلاب الجنة أقبلوا! إن جناب الجنة رفيع وملكها كبير، ولكن الله أرفع وأكبر.
وسلمنا أن بهجة الفردوس بهية باهرة، ولكن بهجة حضرة الله أبهى وأبهر.
ما سمت همم العارفين عن طلب الجنة جهلا بما فيها من نعيم النفوس والقلوب، ولكن رأوا أن نعيم الحضرة أحب إليهم من كل محبوب.
يا طالب الخير، احذر أن يشغلك قلبك عن كبيرة. يا خائف الشر، لا تلهك صغيرة عن كبيرة.
اسْمُ بهمتك إلى المعالي، ونافس في كل نفيس غالي، ولكن احذر أن تقول: أنا لا أرغب في جنة النعيم، ولا أرهب من عذاب الجحيم، وأنت ممن إذا أقبلت عليه الدنيا ظل فرحا مسرورا، وإذا أدبرت عنه أسف ودعا هنا ثبورا.
ما أقبح الدعوى من المدعي! يعرف هذا كل قلب يعي. أليس يكفي المدعي أنه في نسب الصدق زنيم؟ دَعِيٌّ أنت تنظر إلى رونق زهر البيع وبهجته، وتصغي إلى ترجيع صوت العندليب ونغمته، فيلهيك ذلك عن ذكر مولاك، وتستحوذ به عليك دنياك حتى تنسى أخراك.
إنما الشغل بالله عما سواه مرتبة العارفين، فأما من لم يبلغ شأنهم فالأولى به مقام الخائفين. نستغفر الله! ما أعز جناب الله! وما أطهر حضرة الله! نستغفر الله! نحن قوم ضعفاء، خلق الله.
إنما تحل أنفسنا بحيث أحكمنا الله، عسى الله الذي أخرج الورق من الشجر اليابس أن ينقلنا عن الأحوال المبغوضة إلى أحوال رضية، ويبدلنا بهم الدنيا الدنية همما علية، فطالما أغاث المجدبين عندما قحطوا، وأنزل الغيث من بعد ما قنطوا.
يا معشر الشباب، هذا زمان ربيعكم فأين زهر علومكم؟ يا معشر الكهول، هذا أوان خريفكم فأين ثمر أعمالكم؟ يا من قد عاش في الإسلام برهة من الزمان في سماع الحديث النبوي والقرآن، أين آثار ذلك في أعمالكم وأحوالكم!
هذه أرض حرث آخرتك هامدة ما اهتزت بالأعمال الصالحة ولا ربت. هذه سيوف عزمك كلما ضربت في جهاد النفس والشيطان نَبَتْ. إذا كان البلد طيبا خرج نباته بإذن ربه، وإذا جنت لا يخرج إلا نكدا.
يا مكروبا لم ينفس من كربه! يا مصرا على ذنبه قد حال الشيطان بين التوبة وبين قلبه! اصرخ إلى الله صراخ من قد يبس عوده، وهزمت جنوده، وقل بلسان الذكر في الانكسار: يا وهاب النعم الغزار! يا فالق الحب والنوى! يا منشئ الأجساد بعد البلى! يا مؤوي المنقطعين إليه! يا كافي المتوكلين عليه! انقطع الرجاء إلا منك، وخابت الظنون إلا فيك، وضعف الاعتماد إلا عليك، ووهن الاستناد إلا إليك. نسألك بالرحمة التي كتبتها على نفسك، وبالكرامة التي أخفيتها لأوليائك، أن تمطر محل قلوبنا سحائب برِّك وإحسانك، وأن توفقنا في كل حال لموجبات رحمتك وعزائم غفرانك. إنك جواد كريم غفور رحيم.
الله عز وجل يحيي القلوب
من كتاب التذكرة في الوعظ، لابن الجوزي رحمه الله.
الله يحيي القلوب الميتة بذكره كما يحيي الأرض بغيثه. سبحان من بهرت عظمته عقول العارفين! سبحان من زهرت أنواره لبصائر السالكين! سبحان من ظهرت بدائعه لنواظر المتأملين!
انظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها، ويلبسها قبل ليل بهجتها بعد سلبها وفوتها. كذلك ينظر إلى القلوب الميتة فيحييها، وإلى المهج الصادقة فيرويها.
ينظر الله سبحانه إلى الأرض كل سنة في آخر فصل الشتاء وقد لقيت من شدة البرد جهد البلاء، فعريت أشجارها، وخرست أطيارها، وهمد حسيسها، وأوحشت آنيتها، وعبست مباسمها، ودرست مراسمها، فتداركها البر الرحيم بألطافه، فإذا هي قد اخضر يابسها، وافتر عابسها، وطفحت أنهارها، وصدحت أطيارها، وهب نسيمها الراكد، وحيي رميمها الهامد.
فأصغ أيها اللبيب تسمع الفهم والفكرة إلى ما تقوله الناشئات بلسان العبرة، فإنها تقول بلسان الحال: سبحوا بحمد الكبير المتعال، واستدلوا بقدرته على إحياء الأرض الموات، إنه قادر على إخراج الأموات بعد الشتات.
يا معرضا عن عَرْضه وحسابه! لا يستعد ليوم نشر كتابه، متعللا بعياله وبماله، متلهيا في أهله وصحابه، متناسيا لمماته وضريحه ونشوره ووقوفه ومآبه.
القول قول مصدق، والفعل فعل مكذب بثوابه وعقابه. من قال قولا ثم خالف قوله بفعاله، ففعاله أولى به.
برد العزيمة يؤثر في الأعمال والنيات كما يؤثر برد الشتاء في ناضر النبات. يلفح البرد مخضر الشجر فيصير يابسا، ويسقع مفتر الزهر فيعود عابسا، فكذلك برد العزيمة يجعل العامل عاطلا، والنابه خاملا. فإن لم يكن بد من الفتور عن طلب الخيرات، فاضعف عن السيئات ضعفك عن الحسنات.
لحظات القرب من الله تعالى
من كتاب التذكرة في الوعظ، لابن الجوزي رحمه الله.
مجالس الذكر ولحظات القرب وساعات الغفران، في مثل هذه الساعة يرجى الغفران ويتوقع الإحسان، ويطلب من صاحب الأمر الأمان.
لو كشف عن الأبصار لعاينتم الرحمة تنزل في هذا الوقت كالأمطار الغزار.
كم لله في مجالس الذكر من عين محرمة على النار! كم قد وضع فيها عن الظهور من ثقل الأوزار! وتنفجر فيها ينابيع الرحمة ويتوفر فيها على الحاضرين من النعمة، ويعطى كل سائل ما سأله، ومبلغ كل أمل ما أمله من كرم ذي الجلال والإكرام، ومواهب من له الفضل والإنعام الذي لا يتعاظم ذنب غفره لجانيه، ولا فضل ولا هبة لسائله، فأحضروا في هذه الساعة قلوبكم، واغسلوا بمياه التوبة ذنوبكم، واستغفروا ربكم فإنه يغفر ذنوب المستغفرين، واعتذروا إليه من تقصيركم فإنه يقبل عذر المعتذرين، واستنصروه على من بغى عليكم، فما أسرع نصرته إلى المنتصرين!
من كان مقيد الجوارح عن محارم الله فهو رأس الخائفين، ومن كان لا يسكن بقلبه إلى شيء سوى الله فهو سلطان العارفين، فارغبوا في القرب من الله.
لله در أقوام عكفوا بقلوبهم عليه، وتقربوا بذبح نفوسهم إليه، لا يسعون في محبته عذل العاذلين، ولا يعتذرون بالإنفاق في سبيله بنحل النحالين.
أبغضوا كل من سواه ليكون منهم دانيا، وخرجوا من كل شيء ليدخلوا إليه، وظعنوا عن كل شيء ليقدموا عليه، وهجروا كل حبيب في طلب وصاله، وأعرضوا عن كل قريب طمعا في إقباله، فلو قيل لهم: من معبودكم؟ لقالوا: الله. ولو سئلوا: ما مقصودكم؟ لقالوا: الله. فالله سبحانه هو معبودهم الذي يعبدونه، ومقصودهم الذي لا يستقرون دونه.
لربي عباد وحده يعبدونه، يرومونه لا يستقرون دونه، هو السند الأقوى استندوا به، هو القصد الأقصى الذي يقصدونه. إذا اعتمد المضطر في الخطْب غيره فليس لهم إلا هو. يعتمدونه إذا حسد الناس الملوك بملكهم، فليس لهم في الناس من يحسدونه لأنهم حلوا ضمائر مالك، فمهما أرادوا عنده يجدونه.
محبتُه القوتُ الذي يقتدونه، وتوحيد الورد الذي يرِدونه. متى فاتهم من وصله قدر ذرة فبالروح زال القدر الذي يفتدونه؛ لهذا اصطفاهم للعبادة دون من سواهم، فهم طوال المدى يعبدونه، تولاهم دون الورى فولاؤه طراز على ثوب التقى يرتدونه.
الفائزون
من كتاب المواعظ، لابن الجوزي رحمه الله.
لله در أقوام أقبلوا بالقلوب على مقلبها، وأقاموا النفوس بين يدي مؤدبها، وسلموها إذ باعوها إلى صاحبها، وأحضروا الآخرة فنظروا إلى غائبها، وسهروا الليالي كأنهم وُكِّلوا بِرَعي كواكبها، ونادوا أنفسهم صبرا على نار حطبها، ومقتوا الدنيا فما مالوا إلى ملاعبها، واشتاقوا إلى لقاء حبيبهم فاستطالوا مدة المقام بها.
إِذا كُنتَ قوتَ النفس ثُم هجرتها***فكم تلبث النفس التي أنت قوتها
كانت إحدى العابدات تقول: “والله لقد سئمت الحياة حتى لو وجدت الموت يباع لاشتريته شوقاً إلى الله وحباً للقائه”، فقيل لها: “على ثقة أنت من عملك”. قالت: لا والله! لحبي إياه وحسن ظني به. أفتراه يعذبني وأنا أحبه؟”
يا ناظرَ العينِ قُل: هَل ناظرت عينِي؟***ِليكَ يوما وهَل تَدنُو مِنَ البينِ؟
اللَهُ يعلَمُ أَني بعدَ فُرقتُكُمْ***كطائرٍ سَلَبوهُ مِن الجنَاحَين
لله در أرواح تشتاق إلى روح قُربة، وتلتذ عند ابتلائه بوقع ضربة، ويطول عليها الزمان شوقا إليه لحبه، إن سألت عن صفاتهم فكل منهم مخلص لربه، مجتهد في طاعته، خائف من عتبه، قائم على نفسه باستيفاء الحق منها على قلبه، وأنشد:
كيفَ يقعُدُ رقيبٌ مُشتاقٌ بحركةٍ***ِليكُم الخافقانِ الشوق والأَملُ
فإِن نهضتَ فما لي غَيركُم وطر***وإِن قعدت فما لي عِندكُم شغل
لَو كانَ لي يَدٌ ما اخترتُ غيركُم***فكيفَ ذاكَ وما لي غيركُم بدل
وكم تعرض الأَقوام بعدكم***يستأذنون على قَلبي فَما وصَلوا
صفات الفائزين
من كتاب التذكرة في الوعظ، لابن الجوزي رحمه الله.
طلاب هذه النفائس هم الذين مدحهم الله في محكم القرآن في أول سورة المؤمنين وآخر سورة الفرقان، تلك والله صفات الفائزين بالرضوان الخالدين في نعيم الجنان، الحائزين رغائب البر ومواهب الإحسان.
اللهم بما أنعمت عليهم فارزقنا ما رزقتهم في الدنيا من طاعتك وذكرك، وفي الآخرة من نعيم جنتك ولذة النظر إلى وجهك، وألحقنا بهم، وأدخلنا فيهم، واجعلنا منهم، ولا تجعل نصيبنا منك ما عجلته لنا من مواهب الدنيا، بل يفتقر الغني والفقير إلى رزقك.
سبحانك ما أعظم شأنك! يا من خضعت الأعناق لعزته! يا من توجهت الوجوه إلى قبلته! يا من اعترفت الخليقة بربوبيته! سبحانك ما أعظم شأنك! يا من له ما في السماوات والأرض كل له قانتون! يا من دعا إلى حج بيته على لسان خليله فلباه في الأصلاب الملبون! يا من عكف على باب فضله العاكفون! إليه بالدعاء والسؤال يجارون، وبرحمته في الدنيا والآخرة يتعرضون، ومن مخالفة أمره يستغفرون، وبأذيال عفوه يتمسكون.
سبحانك ما أعظم شأنك! سبحانك ما أوضح برهانك! سبحانك ما أقدم سلطانك! سبحانك ما أوسع غفرانك! سبحت لك السماوات وأملاكها، والنجوم وأفلاكها، والأرض وسكانها، والبحار وحيتانها، والسادات وعبيدها، والأمطار ورعودها، والملوك ومماليكها، والجيوش ومعاركها، والديار وأطلالها، والأسود وأشبالها. كل معترف فإنك لفطرته خالق، ولفاقته رازق، وبناصيته آخذ، وبعفوك من عقابك عائذ، وبرضاك من سخطك لائذ، إلا الذين حقت عليهم كلمة العذاب فالقضاء فيهم نافذ.
يا مالكا هو بالنواصي آخذ! وقضاؤه في كل شيء نافذ. أنا عائذ بك يا كريم، ولم يخب عبد بعزك مستجير، فإن لاذ غيري بالأنام وظلمهم، فأنا الذي بظليل ظلك لائذ، فامنن علي بتوبة يمحى بها ذنبي.
أضف تعليقك (0 )