منارات لإحياء الفقه الجامع |
في هذه السطور نحاول أن نشير إلى بعض صُوى ومناراتِ لإحياء الفقه الجامع، صُوًى تهدي السائر في منعرجات علوم وتراث من سبقنا بإيمان، ومناراتٍ تردُّ الشارد عن صدق الإرادة إلى منهاج العلم النافع.
أولا: في التعامل مع الموروث الفقهي
§ الإرث الفقهي ثروةٌ وصِلَة
يؤكد الإمام غيرَ ما مرة أن ما خلَّفه لنا أئمتُنا رحمهم الله إرثٌ عظيم لا يمكن تجاهله أو التقليلُ من شأنه، بل يذهب أبعدَ من ذلك فيعتبره صِلة وَصلٍ بين الأجيال. صلة بما هي اعتراف بالفضل، واعتزاز بالانتساب لذلك الأصل، وبما هي تقدير للجهود، وإجلال لأشكال الصمود أمام مكر الشبهات، وزينة الشهوات. يقول رحمه الله: “إن ما ورثناه عن سلفنا الصالح من علوم وقواعد مؤصلة ثروة بالغة الأهمية”[1]. ويقول :”ثروتنا الفقهية العلمية الموروثة صلة غالية انحدرت إلينا من تلك الأجيال، تصلنا بهم”[2].
§ الاجتهاد تَحَدٍّ ورجولة
دعا الإمام إلى الاجتهاد من أجل استكمال الآلة الأصولية فقال :” وكاد علم أصول الفقه أن يبلغ الكمال بعد انبثاقه عن عقل عبقري الفقهاء الإمام الشافعي رحمه الله، وبعد تأصيل الأفذاذ من العلماء بعده. يزيد كماله بالتتويج العظيم الذي أنشأه الغزالي ونظم لؤلؤه الشاطبي رحمهما الله، هذا التتويج المسمى علم مقاصد الشريعة. نكمِّلُ كماله بإيراد مسائل الحكم والشورى وسائر هموم العصر التي كانت غائبة في فقه من ماتوا قبلنا رحمهم الله”[3]. واعتبر هذا العملَ تحديا أمام من يطمع في تجاوز التجزئتين الفقهية والسياسية، فقال : “تجزئة ذلك الفقه، مثل التجزئة السياسية المعاصرة في أقطار الفتنة، تمثل تحديا لنا أن نقوم نجمع بالإجتهاد شتات العلم، وبالجهاد شتات الأرض والمجتمع الإسلامي، متخطين كل التجزئات وكل الأفكار والاجتهادات والمواقف النسبية المظروفة بظروفها التاريخية”[4]. هذا التحدي يحتاج في نظر الإمام إلى رجولة، إذ نجده يؤكده رحمه الله على أنه : “يجب ألا يكون الخلاف على اجتهاد سلفنا شغلنا، لكن الاستفادة من مناهجهم في الاجتهاد، نتمرس لنتجاوزها ونستقي من المعين الذي استقوا منه. فإلى تلك الرجولة ينبغي أن نهدف لا إلى الحومان حول ما قالت أجيال من سبقونا بالإيمان رحمهم الله”[5].
§ فقه الواقع والتاريخ
رجولةُ الاجتهاد خيالٌ ووهم، وشعارٌ لا هَمّ له ولا عزم إن لم يتسلَّح صاحبُها ب”فقه الواقع والتاريخ”. يقول الإمام مُؤكدا : “من لا يتصفح مع نصوص القرآن وصحيح الحديث صحيح الواقع المتغير الذي جعل الله تَغَيُّرَه بلاءً، يَعْجزُ عن عبادة الله وعن الاجتهاد”[6].”ومن لا يعرف واقع المسلمين ومنابع الفتنة في تاريخه، وحاضرهم في العالم وحضورهم، وطبيعة الصراع الدائر بين الإسلام والصليبية اليهودية، لا يستطيع أن ينزل شرع الله على واقع يستعصي، ويمتنع، ويماطل، ويتحكم في السلطة من لا يحبون الإسلام ولا يريدون لأهله خيرا “[7].
§ تجديد الإرادة الجهادية
من أجل أن نغالب أعداء الأمة، ومن أجل أن يسمع العالم كلمة الله، لا بد مع كل ما سبق من تجديد الإرادة الجهادية. يقول الإمام رحمه الله: ” تقليدنا المتحجِّر، خاصة في ميادين الحكم، لمن سبقونا بإيمان، سيبقى بنا في مستنقع التخلف. هم رضي الله عنهم اجتهدوا في زمانهم وبلغوا رسالات ربهم وحاربوا الظلم والكُفر ووقفوا في وجه الطاغوت على قدر فهمهم، وبتقديرهم لما فيه مصلحة الأمة في عهدهم وظروفهم. أما نحن فلكي نفعل ما فعلوا يجب أن يَتجدد لنا إيمان، أن تَتجدد لنا إرادة جهادية حتى نصبح عاملين مجاهدين في سبيل الله، ويتجدد لنا علم مسبق على ضوئه نتحرك ونجاهد”[8].
ثانيا: في فقه إحياء القلوب
§ تخصيص الوقت الكافي لبحث هذا الفقه
من آفات العصر أن تجد أحدَهم يُلَوِّح بالأحكام في موضوع لم يُكَلِّف نفسَه ولو قليلَ عناء في التقصي عنه من مَظانِّه، خصوصا إن كان ذلك الموضوع يهُمّ مصيرَ العبد في أخراه، وصِلَتَه بمولاه. يقول الإمام رحمه الله : “لا تكن المؤمنة مثل بعض السطحين الذين خصصوا لهذا الموضوع الحيوي بضع ساعات قرأوا فيها ما جمعه سطحيون قبلهم من أخطاء بعض الصوفية. إن كان حب إماء الله لربهن دينا، وكان حب الله لإمائه المتقربات المقربات غاية يوصل إليها، فالشقية المحرومة من لا تخصص عمرها، ليله ونهاره، لتتفقه أولا وتتثبث، ثم لتعمل وتجاهد وتصفي القلب. دعي الحيرة والسطحية لغيرك يا أخت الإيمان، وعمقي البحث”[9].
§ الاطلاع بِنِيَّة المنافسة في الخير
لكنَّ بحثَ المستنكِفِ عن نية العمل، واطلاعَ الجالس على أريكة الكسل، لا يُسمنان من لهَف طلب الحق. ” وما يغني العلم إذا كان وراءه فضول فكري فقط. حديثي حديث القلب إلى القلوب الحرة. نحتاج في حوارنا إلى استبصار العقل وإلى الاطلاع على أحوال القوم لنقوم ننافسهم ونسابقهم في الخيرات كما أمرنا الله جل شأنه”[10].
§ صحبة الأكابر والصدق في الطلب
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: “لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا أَخَذُوا الْعِلْمَ عَنْ أَكَابِرِهِمْ، فَإِذَا أَخَذُوهُ عَنْ أَصَاغِرِهِمْ وَشِرَارِهِمْ هَلَكُوا “[11]. هذا في كل علم، فكيف بعلم التربية وفقه القلوب، وهو الذي يعالج دقائق السير إلى الله. لذلك أكد الإمام على هذه الحاجة فقال : “بيد أننا نحتاج لمن يشرح لنا فقه السلوك كما نحتاج لمن يضبط لنا فقه الأحكام أصوله وفروعه، وفقه الحلال والحرام، وفقه الفرائض، وفقه اللغة، وفقه أصول الاعتقاد. سمي فقه المحبة والتربية والتقرب من الله تصوفا، وعاش جنبا إلى جنب مع الفقه الآخر منكمشا معه عن ساحة الحكم”[12].
إن كان تخصيص الوقت الكافي ضروريا، والاطلاعُ على أحوال السالكين مُحَفِّزا، فإن صحبة “أهل الفن” مع تحري الصدق هي مفتاح أبواب الخير. ينصح الإمام قارئه فيقول : “واعلم من هنا أن ألف كتاب تحفظه لا يتقدم بك شعرة في الطريق إلى الله إن لم تنبثق فيك إرادة ويقظة وهمة وطلب ولم تجد من يسدد خطاك من رجال عصرك !”[13].
§ اقتران الهمّ التربوي بالإرادة الجهادية
هذا الحضُّ الدائم على إرادة وجه الله والدار الآخرة، يُلازمه – في مشروع الإمام – التحريضُ الجادُّ على خوض معمعان الجهاد. يقول باختصار: ” المجاهدة بلا ذكر عملٌ مفضولٌ مسبوقٌ. والذكر بلا جهاد ولا عذر مفضول مسبوقٌ. لا شك في ذلك”[14]. وهذا عَيْنُ التربية القرآنية، وسِمَةُ السلوك النبوي. يقول مُستفِزًّا ذهن القارئ : “فما السبيل إلى أن تقترن إرادتنا لله والآخرة بالإرادة الجهادية القائمة أسبابها على العمل الدنيوي التصنيعي التكنولوجي التنظيمي؟ مهما نَحِدْ عن تربية القرآن وأحضان النبوة نَزِغْ عن الطريق”[15]. الطريق هو أنه : “متى انجمع همي وتوحد، ومتى أصبحت قضيتي مع ربي أم القضايا، عندئذ تأتي القضايا الأخرى في مرتبتها حيث تخدم الوسائلُ الغاية، وحيث يلتحق الفرع بالأصل، وحيث لا تغطي الشروط على المشروط”[16]. لذلك أوصى شبابَ الصحوة وصيَّةَ المحذِّر الحريص: ” وتُعجبنا قرة العين ونزهة الفؤاد بهذه الأجيال المومنة من شباب الإسلام. ويستولي هَمُّ الواجب الجهادي الآتي على هم القرب من الله، وعلى تحرير النية لكيلا يكون جهادنا باطلا وعملنا مُحبطا، ويغيب ذكر الآخرة أو يكاد. ذلك الذكر الدائم لله والدار الآخرة الذي نقرأه في القرآن والحديث إنما يصبح جزءا من كياننا النفسي القلبي التَّفكري بمجالسة الذاكرين”[17].
[1] ياسين، عبد السلام. نظرات في الفقه والتاريخ، دار البشير للثقافة والعلوم الإسلامية، مصر، الطبعة الثانية 1415-1995، ص17.
[2] نفس المرجع، ص17.
[3] ياسين، عبد السلام، تنوير المؤمنات، مطابع أفريقيا الشرق، طبعة 2018م، ج1، ص227.
[4] نظرات في الفقه والتاريخ، ص18.
[5] ياسين، عبد السلام، المنهاج النبوي، الطبعة الثانية 1410-1989، ص213.
[6] تنوير المؤمنات،ج1، ص59.
[7] تنوير المؤمنات،ج1، ص58.
[8] ياسين، عبد السلام. سلسلة دروس المنهاج النبوي1/ كيف نجدد إيماننا ؟ كيف ننصح لله ورسوله ؟، مطبوعات الأفق، الطبعة الأولى 1998، ص 25-26.
[9] تنوير المؤمنات، ج2، ص32.
[10] ياسين، عبد السلام. الإحسان، ج1، مطبوعات الأفق، المغرب، الطبعة الأولى1998، ج 1ص27.
[11] أبو عمر يوسف، ابن عبد البر. جامع بيان العلم وفضله ج 2 / باب حال العلم إذا كان عند الفساق والأرذال، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، ط1، ص 616.
[12] تنوير المؤمنات،ج2، ص31.
[13] الإحسان، ج1، ص165.
[14] الإحسان، ج1، ص276.
[15] الإحسان، ج1، ص126.
[16] تنوير المؤمنات،ج1، ص7.
[17] تنوير المؤمنات،ج1، ص250.
أضف تعليقك (0 )