محاضرة باللغة الفرنسية
ألقاها الإمام عبد السلام ياسين في الرباط يوم الجمعة 27 يونيو 1980.
ترجمها إلى العربية: أحمد الملاخ ومحمد بشيري.
لقد كان من النتائج الحميدة للأزمة العالمية الحالية، التي فتحت أمام العالم المضطرب آفاقا مرعبة، أن زعزعت ثقة النخبات المغربة كلها أو الأكثر وعيا منها على الأقل في تحكم الغرب المزعوم في التاريخ. وشعر مناصرو البراجماتية اللبرالية أن الكتلة الرأسمالية في طريقها إلى التفتت، فالأزمة الاقتصادية وما واكبها من بأس كالتضخم النقدي والبطالة وغير ذلك قضت على التآزر الغربي الذي لم يعد له تأثير يذكر سوى التغرير بأطفال الفكر.
وفقدت الكتلة الشيوعية بدورها جاذبيتها الإيديولوجية فاتخذت من الإرهاب وسيلتها الوحيدة للسيطرة داخل الاتحاد السوفياتي وخارجه وبدا أن الدعم المادي الذي يلوح به الغرب ليحلب شفاه الحكام الذين يعانون من وطأة المصاعب المالية لا يعدو كونه خدعة ستنكشف حقيقتها للعيان عاجلا أو آجلا حينما تزج الكارثة الاقتصادية بالنظام الرأسمالي كله في هاوية الإفلاس. أما التدخل العسكري الشرقي وتصاعده للظهور كأول قوة إمبريالية في الغد واعتماده على العنف والقهر، فقد كان من السماجة المفضوحة بحيث بدد كل أمل في كون الرفيق الشيوعي الأحمر – بطيبوبته المعهودة يفكر في شيء آخر غير تدعيم إمبراطوريته ليفرض على المعسكر المواجه له قسمة تميل كفة الميزان فيها لصالح من يمتلك أكبر عدد من الدبابات والطائرات والجنود.
أما فيما يرجع إلينا نحن الإسلاميين أعضاء حزب الله والحاملين لرسالته، التي هي رسالة العدالة والتسامح والسلام الكريم، فإننا نعتبر أن الغرب بشقيه الشرقي والغربي لا يكون إلا عالما واحدا كما نعتبر أن هيمنة الإمبرياليتين تكون تهديدا مزدوجا يجب التصدي له. إن مجتمعاتنا الإسلامية تشكل صيدا مغريا وأراضينا ومواردنا الاقتصادية تعد أوراقا استراتيجية رابحة ينازع فيها الشرق الغربي الغرب الغربي. لقد مكثنا طويلا قبل الإعلان الصوري عن الاستقلال الوطني شعوبا متفرقة، وما نزال بعده يشكلنا الغرب حسب هواه، ويستعمرنا ويستغلنا ويحتقرنا كما يحلو له.
وهكذا فسح الاستعمار الرأسمالي الذي استمر طوال القرنين الماضيين المجال أمام الاستعمار الجديد ليمارس الاستغلال البشع نفسه بشكل أكثر مخاتلة وطمعا وإن كان أقل تجليا وبروزا من سابقه، وبين لنا الأخطبوط الشيوعي الذي اتخذ من أفغانستان ميدانا لتجاربه أن فشل الإديولوجية كوسيلة للتغلغل بواسطة الأفكار قد عوض بالاحتلال المسلح العنيف.
وكانت الحركات التحريرية قد وجدت سندها الأخلاقي لمقاومة المحتل في إيقاظ وتجنيد الشعور الإسلامي الذي كان نائما لدى الشعوب الإسلامية، وبدا لنا غداة الاستقلال الصوري، وفي غمرة الحماس الذي أذكته الأعياد الصاخبة، أن بإمكاننا الإفلات من مصيرنا الذي فرض علينا أن نكون مجرد أدوات يتلاعب بها، وظننا أن بإمكاننا تحسين مركزنا في المعترك الدولي لنظهر كمجتمعات عادلة كريمة وكدول مستقرة وقوية، وكرجال لهم وزنهم الملحوظ في الساحة الدولية، إلا أن النخبات التقليدية التي كانت قد بدأت المقاومة الوطنية من أجل التحرر، وأنعشتها واستقطبت طاقة الشعب وعرفت كيف تحركها دب إليها الوهن، وتسربت إليها أجيال من الأطر والمثقفين المكونين على النمط الغربي والمتنكرين لقيمنا الإسلامية.
وبمجرد الإعلان عن الاستقلال الصوري سارعت الأطر المغربة المتوفرة على كفاءات تقنية والمزودة بعقلية أكثر وعيا وتنظيما إلى اختلاس المكانة التي كان يشغلها مشيدو الحركة الوطنية التحررية. وتمت مصادرة السلطة والدولة من قبل هذه النخبات المغربة بأشكال قلما تختلف من بلد إلى آخر. فهذا الحزب الجديد سواء اتخذ شكل تنظيم أحادي أو متعدد يقضي على الحزب القديم أو على الأقل يدخل معه في صراع ويفرض نفسه كمنقذ للشعب زاعما تجسيد آمال الشعب في العدالة الاجتماعية والتقدم العصري.
وبعبارة موجزة فإن صناع الحياة العصرية الذين نصبوا أنفسهم لهذه المهمة باستعمالهم الإسلام كإيديولوجية أو بقيامهم بانقلاب، عدلوا عن الاعتماد على عقيدة الشعب ليرفعوا الشعارات التقدمية التي تعاون الفقر والجهل فصوراها وعودا صادقة انخدع بها الشعب. وسرعان ما تجمع الدكتاتورية الشخصية أو الحزبية أو هما معا الكثير من عناصر الفشل لينتهي بها الحال إلى تعذيب الشعب وتقتيله بالوسائل البوليسية وعندئذ تفقد النخبات التقنية المتعاونة مع هذه السلطة البوليسية فعاليتها ويفقد المثقفون المتورطون مع النظام القائم الحظوة التي كانت لهم في أعين الشعب دونما تمييز بين المثقفين المعارضين شكلا أو المتعاطفين صراحة مع السلطة ويعلو خطاب جديد ليصدم الضمير الجماعي بصراحته ووضوحه، وينفجر الغضب الدفين في كيان الشعب، ويولد أمل جديد باندحار المعصرين الذين لا يملكون أي أفق أخلاقي وروحي يمكن بواسطته أو في إطاره وضع هذا التحديث وجعله متلائما.
وأدرك الشاه المسكين بعد أن دفع الثمن غاليا -أن التبعية للغرب والتحديث الوحشي تحت السوط والتعذيب لا يجديان نفعا أمام الدم المراق طواعية ليسقي نبت الإسلام القوي المنبعث اليوم في إيران.
وليس في صالح نخبتنا المغربة أن تواصل العيش حائرة أمام الأوضاع الجديدة المفاجئة مثلما يحدث للمثقفين الإيرانيين الذين لم يشموا في أي اتجاه تهب رياح التاريخ، ولم يحسنوا بالتالي تقدير المرمى التاريخي للوثبة الإسلامية التي دفعت الأمة تحت الأنوار الكاشفة وأعادت لها كرامتها أمام العالم. إن المصير اللائق بنخباتنا المغربة- ذلك المصير الذي يجب أن يرتفعوا إلى مستواه بالاعتماد على ذكائهم وصدق التزامهم- يتحدد بالمشاركة في هذه الوثبة التحررية وفي توظيف كفاءاتهم وخبراتهم لخدمة شعبهم الذي ينتظر منهم جهدا واعيا مدعما لجهده هو لإعادة بناء اقتصادياتنا المعوجة، وإقامة العدالة والمساواة الاجتماعية وانتزاع حريتنا الحقيقية وكرامتنا واستقلالنا من أيدي الإمبرياليات الغربية والمستغلين الداخليين.
إن موضوع هذا الحديث هو فتح أفق الحوار والاتصال والتفاهم والتعاون المتبادل بين نخبتين مختلفتين من حيث العقلية، لا يمكن أن يقرب ويوحد بينهما إلا إرادة مشتركة وملتزمة تظهر جديتها على أرض المعركة. إن سلالة آيات الله عندنا رخوة جدا، وإنه لمن الصعب خاصة على مثقف يساري مهما بدا في خطابه أنه مغرم بالإسلام المجاهد والمنتصر أن يجد أي جدوى في ربط الحوار مع بعض معممينا المتخلفين فكريا الذين لا يكادون يبينون عن أي فهم مهما كان بسيطا مكتفين بالركون إلى التذلل على أعتاب الحكم والرضى بالمواقف الهامشية. فينبغي أن لا يصرف هؤلاء المدجنون اهتمام نخباتنا المغربة عن القاعدة العريضة التي تتكون من الآلاف بل عشرات الآلاف من المعربين الذين تخرجوا من القرويين، ومن أولئك الفقهاء البسطاء المنتسبين إلى المدارس القرآنية والعاملين في القرى، فهؤلاء وأولئك جميعا وإن لم يصلوا إلى درجة الالتزام بالإسلام الجهادي فإنهم على الأقل يشاركون الإسلاميين في الشطر الأهم من معتقداتهم وإرادتهم. وأصبحت مصالح المخابرات التابعة للقوى الإمبريالية والشرطة المحلية ترى في كل ملتح أو مواظب على المسجد ثائرا محتملا يحسب له حسابه، ذلك أن حرارة الوثبة الإسلامية وحزمها كانا من القوة بحيث جعلا قوى الشر ترتعش وأفقدا أعتى حماتها رباطة جأشهم. إن الغالبية العظمى من الشعب تملك طاقة غير محدودة إذا أحسن توجيهها وتجنيدها للبناء أمكنها تحقيق المعجزات. وقد تعلم مثقفونا اليساريون المغربون والمتنكرون لقيمنا كيف يحترمون الثورة الإسلامية الإيرانية واضطر الموجودون منهم على مسرح الأحداث إلى السير في ركاب هذه الثورة. ومازالت هذه الظاهرة الفريدة التي لم يسبق لها مثيل تزيد في دهشة العالم، ويحق للعالم أن يندهش وملايين من الناس تشارك في الثورة وفي الإضراب وفي الكفاح عبر الشوارع بأكثر ما يمكن من انضباط وتعاون أخوي. ونحن لا نريد من نخباتنا العزيزة المغربة أن تنحو نحو الغرب الفاشل في تحليله الحاقد لأحداث إيران الذي حاول أن يجعل من اللامبالاة ستارا له. كما لا نريد منها أن تقع في خطأ الماركسيين الإيرانيين الذين ظنوا أنهم سيخلفون الخميني بعد استغلاله في المرحلة الأولى من الثورة كما استغل لنين كرنسكي.
أضف تعليقك (0 )