مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسينمدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين
مدرسة الإمام المجدد
عبد السلام ياسين

قضايا فكرية

الإمام البنا والأستاذ ياسين: دراسة مقارنة 2/4

0
الإمام البنا والأستاذ ياسين: دراسة مقارنة 2/4

الأستاذ ياسين والولادة الثانية

“فللروح في هذا العالم نشأتان. إحداهما: النشأة الطبيعية المشتركة. والثانية: نشأة قلبية روحانية، يولد بها قلبه، وينفصل عن مشيمة طبعه؛ كما ولد بدنه وانفصل عن مشيمة البطن. ومن لم يصدق بهذا فليضرب عن هذا صفحا ويشتغل بغيره” ابن قيم الجوزية.[1]

الوارد على الزاوية

في المغرب خطا رجل نفس خطوات الإمام حسن البنا، فكُتب للأستاذ عبد السلام ياسين أن يجمع بين سلوك التربية الإحسانية، والقدرة على النظر في تاريخ المسلمين وحاضرهم، والتنظير لمستقبلهم. وبنى هو أيضا تنظيمه الذي جعل له الشارة والشعار “العدل والإحسان”، بغية أن تجعل الأمة حكم الاستبداد تحت أقدامها، ورغبة في أن يتطلع أبناؤها إلى السلوك إلى الله عز وجل، وما يتطلبه السلوك من صحبة، وصدق، ومداومة على الذكر.

إن كان الإمام البنا قد التحق بالزاوية الحصافية منذ صباه، فإن العلاّمة ياسين عاش حياته كعامة المسلمين إلى سن الأربعين، كان في إبانها لا يبحث إلا عن الرقي في السلم الاجتماعي، وكان ذهنه خلوا مما يجري ويمور في عالم الناس.

كيف انقلب الرجل من كرهه للزوايا والطرق إلى أن يكون أحد خريجيها المبرزين؟ كيف تحول الاسم النكرة حتى حين إلى مرشد عام لأكبر تنظيم إسلامي في المغرب بعد عقدين من السنين؟ كيف وقع التحول الثاني في حياة الأستاذ عبد السلام ياسين بالانتقال من زاوية القعود إلى التأسيس للسلوك الجماعي الجهادي؟

كان الرجل منذ صباه أبعد الناس عن الصوفية واعتقاداتهم، لم يحتضنه مرب منذ الصغر كما حصل مع الإمام البنا، فكان أن عاش في بداية عقده الرابع أزمة روحية خنقت أنفاسه، وأذهبت السكينة عن قلبه. وما عاد الموقع الوظيفي ولا المكانة الاجتماعية الراقية التي يحتلها مع علية القوم ترياقا لهمومه الداخلية التي تتمحور حول سؤال المصير، والغاية من الوجود. واستمر الرجل على ذلك الحال حتى لحقه السقم، ثم تداركته رحمة الله عز وجل بأن قيض له من يدله على الطريق، وهي تفاصيل تذكرنا بتجربة الإمام أبي حامد الغزالي.

حكى الرجل عن ذلك فقال: “كنت قد شارفت الأربعين عندما تداركني الرؤوف الرحيم بالمؤمنين بهبة ويقظة، فهام الفؤاد، وغلب التفكير في المبدأ والمعاد، فوجدتني محمولا على الطلب مدفوعا إليه. كيف السبيل إليك يا رب؟ وعكفت على كتب القوم، فما منهم إلا من صرفني للبحث عن الرفيق قبل الطريق. بمن أستنجد يا رب غيرك؟ وشككت وترددت: أهو شرك مع الله؟ لكنني بعد أن استغرقت في العبادة والذكر والمجاهدة والتلاوة زمانا تبيَّنت أن أطلب ما عند الله هو غير طلب وجه الله. الأعمال الصالحة إن كان فيها الإخلاص وقبلها الحنان المنان تُنيل الجنان. لكن أي شيء يرفعني إلى مقامات الإحسان وفسحات العرفان. واشتد بي الأسى، وعِفت نفسي، وتضرعت وبكيت عليه، هو الملك الوهاب. وأتحفتني ألطافه بلقاء عارف بالله ربانيٍّ صحبته أعواما رحمه الله. وفهمت منذئذ ما معنى كون الطريق مسدودا، ولم هذه السدود، وكيف اختراقها، وأين، ومتى، وأيان!”[2]

أصبح الرجل وليدا في طريق القوم، يتعهده شيخه بتغذيته “الغذاء الروحي الذي لا يخطر وجوده ببال من يسألني عن مؤلفات شيخي سؤال تبكيت، لأن الرجل العظيم رحمه الله ما كان معه من مؤهلات القراء المهرة الحاذقين إلا زاد متواضع من حفظ القرآن والتفقه في الدين. عالم الروح وعجائب القلب واختصاص الله عز وجل من شاء من عباده بما شاء من مادة ترياق القلوب أمور ما عند المبكتين بها خبر. كان الله لنا ولهم. وُلدت الميلاد المعتمد في طريق الله على يد محسن من المحسنين، في ظل قلب تزكى لما زكاه الله. شيخ صوفي قال الاصطلاح.”[3]

ياسين والتحول العميق

ما الذي نقل الرجل من الأنس بالذكر في أحضان الزاوية إلى ميدان التدافع السياسي؟ ما الذي غير مسار الرجل من صحبة الفقراء الدراويش إلى بناء تنظيم “العدل والإحسان” لاحقا؟ لفهم هذا التحول لا بد من استحضار خمسة محددات يتداخل فيها التربوي بالفكري بالواقع السياسي الذي عاشه الرجل.

المحدد الأول يتمثل في وفاة الشيخ الحاج العباس القادري رحمه الله سنة 1972، وهو المرشد الذي ربى الأستاذ ياسين وغذاه التغذية الروحية منذ سنة 1965، وقد كان هَمُّ المريد لحظتها هو خدمة شيخه والتلمذة له، والتعريف به والصياح على جموع الناس أن هذه هي الطريق، وأني قد“وجدت الحق مع الصوفية كما وجده الغزالي”[4]

المحدد الثاني تمثل في غزو البدع وعطايا السلطة صفوف الزاوية التي تربى فيها، يقول الرجل عن تلك المرحلة: “وأذكر نعمة الله علي في الملأ لأنه وهبني بعد وفاة شيخي منذ ثلاث سنوات ما يقصده المريدون من الصحبة، وكان رحمه الله أوصاني قبل وفاته أن ألزم ابنه وخلفه من بعده فلزمت. وعاصرت منذ تسع سنوات نشأة الانحراف عند الصوفية الصادقين إخواني، وعرفت بذلك كيف يدخل إلى أصحاب الزوايا حب الدنيا وكراهية الموت، ومن ثم كيف تتحول دعوة صادقة إلى أحبولة مشبوهة رغم صدق الشيخ وفضله، وإن خلَفَ شيخي فيما أعلم رجل الخير والفضل، لا أزكي على الله أحدا، بل الله يزكي من يشاء، لكن عناصر من الأتباع يستميلون الشيخ، وهو بشر ضعيف، حتى يحولوه إلى رمز يلوحون به، وحتى يحولوا الزاوية إلى مركز استهلاك بعد أن كانت مأوى للمساكين، ولقد رأيت كيف دخل الأثاث الزاوية وكيف غزتها الهدايا، ونصحت وآلوت علِمَ الله، وتمزق فؤادي شفقة على أهل بيت عرفوني الله وعلموني المحبة والتقوى، فعادوني وآذوني، وانتهى العداء إلى مداه لما نصحت لهم بالجهاد والنهوض للدفاع عن الإسلام الذي أصبح في ديارنا لعبة يدبر مسرحها ديدان القراء”[5] 

المحدد الثالث تمثل في تحول فكر الرجل من فقه الخلاص الفردي إلى جمعه بفقه الخلاص الجماعي، وهو ما سعى إليه الأستاذ عبد السلام ياسين مع مريدي الزاوية حين نصح “لهم بالجهاد والنهوض للدفاع عن الإسلام”، فلما لم يجد منهم العزم كتب رسالته الشهيرة “الإسلام أو الطوفان” نصيحة إلى الحسن الثاني، ملك المغرب حينها، وقد كانت رسالة قوية في المبنى والمعنى، قال “كلمة هي أقرب إلى الحق: رجل مؤمن يتقدم بالنصيحة ويأمر ملكاً حائراً مذعوراً مهدداً يجهل الإسلام، رغم السبحة والأذكار، بتقوى الله جلت قدرته. ولو وجدت لك عذراً غير الجهل لالتمسته لك إبقاء عليك ورفقا بك. لأنك تحكمنا منذ سنين بدعوى عريضة صاخبة أنك باعث الإسلام، وما بك إلا تبرير سياستك المزرية بالإسلام وأهله، متألها تائها كعهدنا بك”.

لقد شكلت الرسالة حدا فاصلا بين ياسين والزاوية البودشيشية على مستوى النظر الفكري والموقف السياسي، كما كلفته قضاء ثلاث سنوات ونصف وراء أسوار معتقل من نوع خاص، ليخرج بعدها من مستشفى المجانين وهو يعتقد جازما استحالة مدافعة الواقع العفن دون تشكيل تنظيم قوي يتبنى قضيتي الإصلاح والتغيير، وهو ما ينقلنا إلى الحديث عن المحدد الرابع.

يتلخص المحدد الرابع في مقولة أنه “لا جهاد إلا بجماعة منظمة”[6]

 وهو ما سعى الأستاذ عبد السلام ياسين إلى تشكيله متخلصا من البناء التنظيمي للزاوية، ومستفيدا من تجربة الإمام البنا التنظيمية، والتي تبدت في بناء هرم تنظيمي بألقاب استعملها البنا، أمثال: الأسرة، والشعبة، والنقيب، والمرشد العام، ومجلس الإرشاد… قبل أن تتطور “جماعة العدل والإحسان” وتكتسب التجربة الميدانية لتطور بنيتها التنظيمية بشكل مستقل نظرا وعملا عن باقي اجتهادات التنظيمات الإسلامية.

المحدد الخامس تجلى في مقولة أن “التنظيم بدون تربية جسم بلا روح”[7] وهو ما عنى عدم التخلي عن الكنوز التربوية المستفادة من العارفين بالله، والتي من أهم مرتكزاتها الحفاظ على أمهات الخصال التربوية والمتمثلة في ثلاثية: الصحبة والذكر والصدق.

لقد أصبح نموذج الصحابة الكرام الجامعين لمعاني التربية والجهاد هو النموذج المحتذى عوض القعود عند النموذج الصوفي، لذلك أكد الأستاذ عبد السلام ياسين أن “لست أدعو الأجيال المقبلة للتصوف؛ وإن كانت التربية الصوفية هي التي احتفظت بجوهر الأمر كله، بل أدعو إلى اقتحام العقبة التي انحدر منها الصوفية الكرام عن ذلك الأفق العالي الجهادي الذي تحرك في ذراه الصحابة المجاهدون، نالوا بالجهاد المزدوج، الجهاد الآفاقي والأنفسي درجة الكمال. وجمعوا إلى نورانية القلوب المتطهرة حمل الأمانة الرسالية إلى العالم. وبذلك لحقوا بمقعد الصدق”.[8]

لقد أصبحت حركية عضو جماعة العدل والإحسان تنشد كمالين عبر مسارين: مسار سلوك المجاهدة الفردية وسط جمع المؤمنين وبصحبة ولي مرشد للتحقق بمقام الإحسان، ومسار حركية جماعة تتحرك بنظام الصف لإحداث التغيير المطلوب في قطرها فتلا لحبل إعادة توحيد الأمة الإسلامية.

نقلا عن موقع الجماعة نت

[1]ابن قيم الجوزية: مدارج السالكين. 3/106 ـ 107
[2]عبد السلام ياسين “الإحسان” 1/130
[3]عبد السلام ياسين: الإحسان 1/8
[4]عبد السلام ياسين: رسالة الإسلام أو الطوفان. وهي رسالة نصيحة وجهها الأستاذ عبد السلام ياسين إلى ملك المغرب الراحل الحسن الثاني.
[5]المرجع نفسه”
[6]عبد السلام ياسين: المنهاج النبوي. ص 128
[7]المرجع نفسه. ص 68
[8]عبد السلام ياسين: الإحسان 1/94

أضف تعليقك (0 )



















0
يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لضمان حصولك على أفضل تجربة ممكنة. تعرف على المزيد