الدعوة إلى الله من أعظم ما يتقرب به المتقربون، هي طريق السعادة في الدنيا والآخرة، هي مهمة المرسلين، وسبيل المصلحين، ومن اتبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين. وقد فضل الله تعالى هذه الأمَّة على غيرها من الأمم من جهة كونِها أمَّةً مؤمنة بالله، وداعية إلى المعروف والخير، وناهية عن المنكر والشَّر.قال تعالى:كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ ﴿آل عمران:110﴾، وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تحث الإنسان على الدعوة إلى الله كما تبين أهميتها وضرورتها على مر العصور والأزمان قال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّـهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴿فصلت:33﴾، وقال تعالى على لسان نبيه، قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّـهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّـهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿يوسف108﴾ وقال تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴿النحل:125﴾.
وللأهمية التي تكتسيها الدعوة ومكانتها، فقد أولى لها الإمام ياسين رحمه الله تعالى، أهمية كبرى بما يليق بها في مقام التبليغ عن الله، فقام يدعو إلى الله تعالى على هدي وبصيرة _مستعينا بالله وبقلمه ولسانه وداعيا الإنسان لحمل الأمانة العظمى أمانة رسالة الله مبلغا عن رسول الله وممتثلا أمره “بلغوا عني ولو آية”،[ref]صحيح البخاري كتاب الأنبياء الباب ( 50 ) حديث ( 4361 ص496 ) .[/ref] فكيف نظر الإمام ياسين رحمه الله تعالى إلى الدعوة من خلال مشروعه؟
الدعوة تكليف:
والدعوة إلى الله عند الإمام ياسين رحمه الله تعالى فرض عين على كل مسلم، وليس فرضا كفائيا كما يرى بعض العلماء. بل وجب تنشئة الوليد على ذلك منذ الصغر لأن ذلك عماد دين أمته “وأن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حكمة عُليا يجب أن يربَّى عليها الوليد منذ نشأته. قال الله عز وجل حكاية لنصيحة لقمان لابنه وإقرارا لها : ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾﴿لقمان:17﴾. فكما يؤمر الصبي بالصلاة ويربّى عليها لأنها عماد دينه في نفسه، كذلك يؤمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن ذلك عماد دين الأمة، لا يستقيم للأمة دين ولا دنيا ولا آخرة إلا به. ويكفي دلالة على فظاعة ترك هذا الواجب المقدس أن الله تعالى لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ﴿ذلك بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾﴿المائدة:78﴾. فعدَّ سبحانه الإخلال بهذا الواجب العظيم عصيانا له وعُدوانا على خلقه“.[ref]ياسين الإحسان ج 2 ص: 145/146.[/ref] ولم يقتصر على كونها فرض عين فقط بل جعلها هي الأمر كله “إن الدعوة إلى الله عز وجل هي لبُّ الأمر كله، هي وراثة النبوَّة.”[ref]ياسين عبد السلام إمامة الأمة ص: 128[/ref] ويعرف الإمام رحمه الله تعالى الدعوة بقوله “الدعوة خطاب للإنسان من جانب معناه، ومعاده، وآخرته“.[ref]ياسين عبد السلام في الإقتصاد ص: 225[/ref] خطاب يسائل فطرة الإنسان من جانب معناه من أنا؟ وهل يكون وجودي في الحياة بدون معنى؟ وإلى أين؟ هل إلى جنة أو إلى نار؟
الدعوة تشريف:
الدعوة إلى الله تشريف لعبد أحبه الله، الدعوة إلى الله اختيار من الله أراده لعبده لينال بذلك شرف التأسي برسله وأنبيائه “الدعوةُ إلى الله وراثَةً للنبوة وتأدية لوظيفتها“.[ref]ياسين، عبد السلام الإحسان ج 2 ص: 106[/ref] وهل هناك أشرف للمرء من تعهد البذور حتى تتفتح أزهارا؟، يقول الإمام ياسين رحمه الله تعالى :“وشرف المؤمن والمؤمنة في أزماننا هذه الغريقة في جاهليتها وجهلها بالله والمَعاد أن يتعهَّدا البذرة الدفينة في كل فرد فرد بالدعوة الحكيمة والرفق الحاني والمحبة والإيناس حتى يَنتعش الذابل ويتفتق المكموم وتتفتح الزهور عن حياة جديدة ثمرتها العمل الصالح المقبول عند الله، المُقَرِّب إلى الله. شرفٌ حمْل الرسالة وسعادة“.[ref]ياسين عبد السلام رسالة إلى الطالب والطالبة ص: 33[/ref]
حمل الرسالة سيرا على نهج المجددين المصلحين والتمتع بحلاوة القرب منه سبحانه وتعالى، والدعاة إلى الله يشملهم الله برحمته الغامرة، ويخصهم بنعمته الفائقة: قال عز من قائل في سورة التوبة ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾﴿التوبة 71﴾
قال تعالى:﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾﴿ فصلت:33﴾ في الآية استفهام تقريري بمعنى النفي: أي لا أحد أحسن قولاً وعملا ممن دعا إلى الله, وقد قال بعض العلماء هذه الآية بشرى لأهل الإيمان وصالح الأعمال. وإذا كانت الدعوة إلى الله تعالى تكليف وتشريف كما ذكرنا ومنطلق ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل:“بلغوا عنى ولو آية”[ref]صحيح البخاري كتاب الأنبياء الباب ( 50 ) حديث ( 4361 ص496 )[/ref] فهي أحوج ما تكون إلى:
أ_ لسان صدق:
“تحتاج الدعوة للسان صدق بين الكاذبين، ولسان تبليغ بين الساكتين الخُرْسِ عن الحق، ولسان فُرْقان وسط اللَّغَط الحزبي السياسي”[ref]ياسين، عبد السلام الإحسان، ج:2 ص:330[/ref] بالصدق تميز أهل النفاق من أهل الإيمان، لقد حض الله المؤمنين على الصدق حيث قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين﴿التوبة:119 ﴾ وقال تعالى:فإذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا الله لَكَانَ خَيْراً لَهُم﴿محمد:21﴾ والدعوة إلى الله عزم وحزم للنفس في طلب وجه الله تعالى بصدق القول والفعل.
والدعاة إلى الله أولى الناس باتباع هذا الأمر والإسراع إلى امتثاله والتخلق به؛ لما له من أثر عليهم وعلى دعوتهم ومدى قبول الناس لهم ولها، وإلا ففاقد الشيء لا يعطيه، وقد كبر عند الله مقتا أن يقول المرئ ولا يفعل.
وما أجمل ما قال الشاعر:
وقد ابتلى الله الأمة اليوم بدعاة يتقنون فن الخطاب متجملين بأحسن الثياب يخطبون ود السلطان على الأبواب يحسنون علم الثرثرة، في غياب تام للعالم الورع الذي لا منبر له ولا قناة، يقول الإمام في هذا “وقلَّ العالم الـمُعَلم الورع الذي يقول : لا أدري، ففات الـمُتَعالِمَ نصفُ العلم بزعمه أنه كنزٌ للعلوم لا ينضُب، وفات المستفتين والسامعين والقارئين كلُّ العلم لأنهم يَرِدون مِنْ بحر لا ساحل له من الدعوَى الهائمة.”[ref]ياسين، عبد السلام الإحسان، ج:2 ص:330[/ref]
-
بيان وجهر بالحق
وكل دعوة لا تقول الحق ادعاء الدعوة التي يخاف حاملها من بطش السلطان دعوة هالكة الدعوة التي لا تنهي عن منكر هي دعوة منكرة. يقول الإمام ياسين “يجب أن يكون خطابنا بالقرآن قويا. فلا نسكت عن بعض ما لا تسيغه عقول الجاهلية المريضة. لا نخاف في الله لومة لائم أن نقول كلمة الحق. نجهر ولا نهمس.[ref]ياسين ، عبد السلام المنهاج النبوي تربية وتنظيما، وزحفا. ص 405[/ref]
قال صلَّى الله عليه وسلَّم: “والذي نفسي بيده، لتأمرنَّ بالمعروف، ولتنهوُنَّ عن المنكر، ولتأخذُنَّ على يدي الظالم، ولتأطرُنَّه على الحق أطْرًا، أو ليضربنَّ الله قلوب بعضِكم ببعض، ثم يلعنكم كما لَعَنهم“.[ref]رواه أبو داوود 4337 والحديث حسن[/ref]
وسبب تنزُّلِ اللَّعنة على بني إسرائيل أنَّهم كانوا لا يتناهَوْن عن المنكرات فلعنهم الله قال تعالى:﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾﴿المائدة:78﴾ وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: “مَن رأى منكم منكرًا فلْيُغيِّره بيده، فإن لم يستطعْ فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعفُ الإيمان”،[ref]أخرجه مسلم في صحيحه رقم الحديث:189[/ref] يقول الإمام ياسين رحمه الله تعالى “تحتاج الدعوة إلى “علوم الخطاب والبلاغ” بقدر ما تحتاج إلى “علوم الصمت” حتى لا تقول إلا الحق ولو سكتتْ مرحليّاً عن بعض الباطل. تحتاج علماءَ يعلِّمون العامة مبادئ دينهم وفقَ الربانية التي تربي بصغار الأمور قبل كبارها كما روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس”.[ref]ياسين عبد السلام ياسين نفسه ص: 330[/ref]
وقد كانت سيرة الإمام رحمه الله تعالى كلها جهر بالحق وأول خطوة وكلمة له في طريق الدعوة كلمة حق عند سلطان جائر فبعد خروجه من الزاوية البوتشيشية أرسل رسالة مفتوحة إلى ملك البلاد الحسن الثاني عنونها بعنوان “الإسلام والطوفان” دعاه فيها إلى التوبة إلى الله، والرسالة كونها نصيحة والدين من النصيحة كما أخبر بذلك سيد المجاهدين عن تميم الداري رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: “الدين النصيحه قلنا لمن قال لله ولكتابه ولرسوله ولائمة المسلمين وعامتهم”[ref]رواه مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان حديث 205 [/ref]
وأحوج ما تحتاجه الأمة “لِعلماءَ ناطقين بالحق غير متملقين ولا متزلفين للسلطان الجائر كما يفعل علماء السوء الذين شبَّهَ رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلُّلَهم بألسنتهم بفعل الباقورة، وهي البقرة الشابة”.[ref]ياسين عبد السلام الإحسان ج2 ص: 330[/ref]
ج- الرفق:
والرفق في الدعوة واجب يقول الإمام رحمه الله تعالى الدعوة “ليكن الرفقُ سِمَتَنا الواضحة وشارتنا البائحة”،[ref]ياسين، عبد السلام ، العدل ص:429[/ref] والرفْقُ مسلك إسلامي أصيل، هو منهاج القرآن الكريم والسنة النبوية في هداية الخلق ودلالتهم على الله باللين بالقول والفعل، وهو ضدّ العنف والحدّة، والرفق لين من غير ضعف.
ولهذا أرشد الله نبيه إِليه فقال له: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴿آل عمران:109﴾ أي: لو كنت قاسياً جافاً ما تَأَلَّفَت حولك القلوب، ولا تجمعت حولك المشاعر، وقد أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرفق وبالغ فيه فقال: “مَهْلًا يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ“،[ref]صحيح البخاري /كتاب الأدب/ باب الرفق في الأمر كله 5678[/ref] ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الرفق بوابة كل خير فقال“مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ، يُحْرَمِ الْخَيْرَ“، كما بَيَّنَ أَنَّهُ زِينَةُ العمل فقال:”إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ“، وقد تمثل الإمام ياسين رحمه الله تعالى خلق الرفق في دعوته وكتاباته متأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول رحمه الله في المنظومة الوعظية:
والدعوة اليوم أحوج ما تكون إلى الرفق، محتاجة إلى من يؤلف قلوب المؤمنين بالموعظة الحسنة قال تعالى:ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن﴿النحل:125﴾ وعليه، فالدعوة المثمرة تقوم على أُسسٍ ثلاثة: الحِكمة، والموعظة الحسنة، والجدال الحسن، الذي يُراد منه الوصول للحق، لا الإفحام وحب الظهور. وكم جنا حب الظهور على الدعوة. يقول الإمام ياسين متسائلا: “من أين تأتي بالأخوة والرفق والمحبة تحرثها في أرض الأمل إن لم تستوح الكلم الطيب، ولم تتقيد بشريعة الرحمة، ولم تتكئ على مثال سنة الرفق؟” ، وقد أرسل الله نبيه رحمة للعالمين وكان عليه الصلاة والسلام بالمؤمنين رحيما ومن محاسن ما في التراجم والسير قولهم في تعريف أحد من الخلفاء أو الملوك الصلحاء أو العلماء “وكان أرفق بالناس” ونجد أيضا بعض العلماء يقدمون رأيا على رأي آخر وحجتهم في ذلك الرفق “هذا أرفق بالناس” فيأخذون برأيه وإن كان مخالفا لمذهبهم.
وخلاصة القول أن الصدق وقول الحق بالرفق من ميراث النبوة، ومَنْ أَحَقُّ بهذا الميراث غير الدعاة إلى الله تعالى!!
أضف تعليقك (0 )