الاستقرار الأسري: أسسه وثماره:
مقدمة
تعد الأسرة المسلمة اللبنة الأساس في بناء الفرد الصالح والمجتمع الراشد، فهي المأوى الكريم الذي هيأه الحق سبحانه للبشر من ذكر وأنثى يستقر فيه ويسكن إليه، وبقدر ما تكون الأسرة صالحة متماسكة يكون المجتمع أخويا وقويا، لذلك اعتنى الإسلام بها منذ اللحظات الأولى بدءا من التفكير في تكوينها حيث حثّ على إقامتها على الأسس المتينة التي تضمن لها السعادة والسكينة، وليكون هذا البيت بحق محضنا رفيعا لتربية أجيال تحمل لواء الإسلام، وتنشر نوره في الآفاق.
ويستمد الحديث عن الاستقرار الأسري أهميته، ويثبت جدوى الاعتناء به لما تعيشه كثير من الأسر في زماننا من الاهتزاز المريع، والتنافر الواضح بين أفرادها، لأسباب متعددة أهمها البعد عن الامتثال للوحي المؤسس لبنيانها قرآنا وسنة، ولذلك أولى العلماء أهمية كبرى لبناء الأسرة المسلمة على الأصول القرآنية النبوية كي تنعم بالحياة الطيبة في الدارين: دنيا وآخرة، ومن جملة هؤلاء العلماء الإمام عبد السلام ياسين، حيث نلفيه رحمه الله في مؤلفاته يؤكد على بناء الأسرة المسلمة بناء متوازنا يخدم استقرارها لتؤتي أكلها بإذن ربها عز وجل، فماهي الأسس التي ينبني عليها الاستقرار الأسري؟ وماهي ثماره المرجوة؟
العنصر الأول: أسس الاستقرار الأسري
أولى الإمام عبد السلام ياسين في مشروعه التجديدي عناية كبيرة ببناء الأسرة المسلمة؛ لأن في إحكام بنائها استقرار للمجتمع، وقد ركز رحمه الله على أصلين قرآنيين يتوقف عليهما استقرار الأسرة لتقوم بوظائفها المرجوة، هذان الأصلان هما: القوامة والحافظية، قال رحمه الله: “يعيش الزوجان المؤمنـان في كَنف الرعاية المتبادلة، لكليهما مهمته وصِبغتُه ومسؤوليته:على الزوج القِوامة، وهي حماية الزوجة وصيانتها وجلب المصالح إليها، وعليها هي الحافظية، تحفظه في نفسها وبيتها وولده وماله، قال الله تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ﴾” (سورة النساء: 34)، [ref]ـ عبد السلام ياسين، العدل؛ الإسلاميون والحكم، دار الآفاق، بيروت، ط 3، 2001م، ص:280.[/ref]وبهذا يتبين أن قوامة الزوج تنبني على حسن رعاية زوجته وخدمتها وحمايتها، والسعي إلى تحقيق ما يجلب لها المصالح ويدفع عنها المفاسد، فهو أمين عليها، يتولى أمرها ويصلحها في حالها. وحافظية الزوجة تتم من خلال حفظها لزوجها في نفسها وولده وماله وكذا الإحسان إلى أهله وقبول قوله في الطاعات.
ويمكن أن نفرّع عن هذين الأصلين العظيمين: القوامة والحافظية أسسا كثيرة يتوقف عليها بناء الأسرة واستقرارها؛ لتؤدي الوظائف المنوطة بها على أحسن وجه، ومن هذه الأسس أذكر:
أولا ـ الأساس الإيماني
إن العلاقة بين أفراد الأسرة المسلمة ليست علاقة دنيوية مادية، محدودة بالزمان والمكان فحسب، بل إنها علاقة دينية سامية متينة، ينتظمها رابط الإيمان بالله وحبه سبحانه وتعالى وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، وكل أعمال البر التي ارتضاها دين الإسلام، قال الإمام: “المرأة الصالحة للرجل الصالح نعمة ما مثلها نعمة: يتعاونان على دنياهما وأخراهما”، [ref]ـ المرجع نفسه، ص: 267.[/ref] فحينما تصح هذه العلاقة وتتأسس على تقوى من الله عز وجل، فإنها تمتد إلى الحياة الآخرة بعد الممات، قال تعالى (جَنّاتُ عَدْن يَدْخُلونها وَمَن صَلَحَ مَن آبَائِهم وَأَزْواجِهم وَذُريّاتهِم والَمَلاَئِكة يَدْخُلُون عَلَيْهِم مَن كُل بَاب) (الرعد:23)
إذ في هذه الجنات يجمع الله سبحانه شمل أفراد الأسرة الصالحة من آباء وأزواج وذريات، فيكرمهم المولى سبحانه بتلاقي أحبابهم، وهي لذة أخرى تضاف إلى لذة مقامهم العالي في جنات عدن.
ولا سبيل إلى تحصيل هذا الأساس الإيماني والعيش في كنفه داخل الأسرة إلا بحسن اختيار المسلم ذكراً كان أو أنثى لشريك حياته، ذلك أن الزواج ليس مجرد قضاء وطر أو إشباع شهوة، بل إنه فطرة إنسانية وضرورة اجتماعية لها منزلة سامية، ومن هنا يتعين حرص المسلم على التدقيق التام في مسألة انتقاء الزوج أو الزوجة امتثالاً للتوجيهات الإلهية والنبوية في هذا الشأن، يقول الله عز وجل: (وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُم والصّالحِين مِن عِبِادِكُم وَ إِمائِكُم إِن يكُونُوا فُقَرَاء يُغْنهُم الله مِن فَضْله واللَّه وَاسع عَلِيم) (النور:32)، ويقول الرسول صلى الله على عليه وسلم : (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوِّجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)، [ref]ـ محمد بن يزيد ابن ماجة، سنن ابن ماجه، كتاب النكاح، باب الأكفاء، رقم الحديث: 1967.[/ref] ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، وجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)، [ref]ـ محمد بن اسماعيل البخاري، صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب الأكفاء في الدين، رقم: 4802.[/ref] وليس معنى ذلك أن الإسلام لا يقيم وزنا للمال والحسب والجمال في الزواج، فلاشك أنها مرغوبة ومحبوبة، قال الإمام رحمه الله في هذا الصدد: “فتلك الأهداف مقصودة فيه، لكن فوق ذلك معانٍ أخرى تسمو به ليكون الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات، يجمع شملهم الطهر والإيمان والإحسان والرحمة والمودة في الدنيا لِتسْعَدَ رحلتهم إلى الآخرة حيث يُقال (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ) “. (الزخرف: 70)[ref]ـ عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، ط 1، 1996، 2/160.[/ref]
وتبعا لذلك، فإن الصفة التي تجب مراعاتها في الزوجة عند الاختيار هي الدين، وأنه بالإمكان بعد ذلك البحث عن بقية الصفات الواردة في الحديث السابق، وهي الحسب، والمال، والجمال، كلها أو بعضها.
قال محمد الجوابي: “والمتتبع لآراء الأئمة يجدهم أجمعوا على صفة الدين، واختلفوا في أولوية الصفات الأخرى بعده؛ لأن الدين صفة جامعة للاعتقاد، وطيب المعاشرة، والوفاء بالواجبات، وكل مكارم الأخلاق”.[ref]ـ محمد جابر الجوابي، المجتمع والأسرة في الإسلام، دار عالم الكتب للطباعة والنشر، الرياض، ط 3، 2000م، ص: 100.[/ref]
وحاصل الأمر، فإن الاختيار القائم على أساس الإيمان وحسن الخلق من جانب الزوج والزوجة هو صمام أمان الحياة الأسرية، فبالإيمان يستقيم عود البيت وتثبت قوائمه، ويصبح على أتم الاستعداد لمواجهة المشاكل الداخلية والخارجية.
ثانيا ـ الأساس الاجتماعي:
أقصد بهذا الأساس الحرص على المودة والرحمة والألفة بين أفراد الأسرة بشكل عام، والتكريم المتبادل بينهما، والتعاون على رعاية الأسرة، قال الإمام “بالمودة والرحمة الحميمين يتميز الزواج المطابِق بالقصد والفعل والتوفيق الإلهي للفطرة، وبهما لا بمجرد العَقْد القانوني يحصل الاستقرار في البيت، وبالاستقرار في البيت يشيع الاستقرار في المجتمع”.[ref]ـ عبد السلام ياسين، العدل، ص: 278.[/ref]
إن تلك المودة والرحمة المتبادلة بين الزوجين ينشأ عنهما الاستقرار والوقار، وتعد المرأة حسب الإمام رحمه الله “فاعلة في هذا مُجلِّيَةٌ فيه مُقدَّمةٌ، من لطافة عواطِفِها تشتقُّ الرحمة بين الناس، مَنْ مِثْلُها يبَرّ الوالـدين، ويصلُ الرحِمَ، ويحفظ حق الزوج، ويصبر للأطفال، ويرعى حرمة الجوار، ويعطِف على المحتاج، ويكفُل اليتيم، ويُطبب المريض، ويحسن إلى الضعيف؟”[ref]ـ المرجع نفسه والصفحة.[/ref]
وإن من تمام مظاهر الاستقرار في البيت عدم تَجَبُّر الزوج على زوجه وأولاده، ولا تمرد الزوجة على زوجها، ولكن محبة ورحمة وتعاون، قال تعالى (وَمِن آيَاتِه أَنْ خَلَقَ لَكُم مِن أنفُسِكم أزْوَاجًا لِتسْكنوا إِليْها وَجَعَل بَينَكُم مَوَدّة وَرَحمَة إِنّ فِي ذَلِك لَآيَات لقَوْم يَتَفَكّرُون) (الروم: 21)
هذا التعبير القرآني اللطيف الرفيق كما يقول سيد قطب: “يصور هذه العلاقة تصويرا موحيا، وكأنما يلتقط الصورة من أعماق القلب وأغوار الحس: «لتسكنوا إليها» .. «وجعل بينكم مودة ورحمة» ..
«إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون» .. فيدركون حكمة الخالق في خلق كل من الجنسين على نحو يجعله موافقا للآخر، ملبيا لحاجته الفطرية: نفسية وعقلية وجسدية، بحيث يجد عنده الراحة والطمأنينة والاستقرار ويجدان في اجتماعهما السكن والاكتفاء، والمودة والرحمة، لأن تركيبهما النفسي والعصبي والعضوي ملحوظ فيه تلبية رغائب كل منهما في الآخر، وائتلافهما وامتزاجهما في النهاية لإنشاء حياة جديدة تتمثل في جيل جديد..”[ref]ـ سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق، القاهرة، ط 17، 1412هـ، 5/2763.[/ref]
فالقرآن الكريم يبعث في نفس كل من الزوجين الشعور بأن كلاًّ منهما ضروري للآخر، ومكمّل له، ومن عظمة القرآن الكريم وكماله أيضا، نجدُ كل هذه المعاني محصورة، في قوله تعالى (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) (البقرة: 187)، قال القرطبي رحمه الله: “أصل اللباس في الثياب، ثم سُمِّي امتزاج كل واحد من الزوجين بصاحبه لباسًا، لانضمام الجسدين وامتزاجها وتلازمها؛ تشبيهًا بالثوب”. [ref]ـ شمس الدين القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، تحقيق: هشام سمير البخاري، دار عالم الكتب للطباعة والنشر، الرياض، طبعة 2003م، 2/316.[/ref]وبذلك يتضح أنَّ العلاقة بين الزوجين هي علاقة امتزاج وتكامل، وهي أقوى علاقة اجتماعية، وفي هذا السياق، قال الإمام ياسين رحمه الله تعالى: “منّة عظمى وآية كبرى من مننه المشكورة وآياته المذكورة، سكون شطر هذه النفس الإنسانية إلى الشطر المكمل راحة واطمئنان وألفة واستئناس واستيطان، لولاه لكانت الحياة وحشة وغربة وقلقا. فالحمد لله رب العالمين، وله الحمد في الأولى والآخرة”.[ref]ـ عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، 2/74.[/ref]
وإن مما يساعد على تماسك الأسرة وترابطها اجتناب الأفراد أزواجا وأولادا للكلام الفاحش، والالتزام بالآداب الإسلامية، فإن الكلام السيء والسلوك البغيض مما يوجب انتشار الكراهية وشيوع الوحشة والقلق، الأمر الذي يسهم في انهيار الأسرة، ويستأصل شأفة المودة والمحبة بين أفرادها.
ثالثا: الأساس الاقتصادي:
نظَّم الإسلام أمور الأسرة المالية، فبيَّن من تجب عليه النفقة ومن تجب له النفقة، وبيَّن حدودها وطريقة استيفائها، وأنها واجب من الواجبات الدينية، وليست صدقة فيها مِنّة، وأنها واجبة للزوجة والوالدين وإن كانوا مخالفين للولد في الدين، وتجب للأولاد ما داموا صغارا فقراء محتاجين، قال الإمام رحمه الله: “فالرجل مسؤول عن رعيته يربيها ويطعمها ويكسوها”، [ref]ـ عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، الشركة العربية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط 2، 1989م، ص: 142. [/ref]كما تجب النفقة أيضا في حدود الاستطاعة على جميع الإخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات ومن وراءهم، ما داموا فقراء عاجزين عن الكسب، قال تعالى (وأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) (الأنفال: 75)، فهذه هي نظرة الإسلام للأسرة، إذ يريد أن يربط المجتمع بشبكات قوية تبدأ بهذه الأسرة الموسعة؛ بحيث لا يعيش الإنسان بمعزل هو وأولاده في بيت، ولا يهمه من وراءه من ذوي الأرحام.
العنصر الثاني: ثمار الاستقرار الأسري
الثمرة الأولى: الحياة الكريمة
الحياة الكريمة مطلب كل أحد، بها تحصل الحياة الطيبة، ويتم السرور والابتهاج، وهي ثمرة من ثمار الاستقرار الأسري المبني أساسا على الإيمان بالله تعالى والعمل الصالح، إذ الحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لدعوة الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال الإمام ياسين: “الحياة الطيبةُ جزاءُ المؤمن والمؤمنة هنا إن عملا صالحا وأقاما شرع الله في علاقاتهما. والحياة الطيبة في الجنة هي الجـزاء الأوفى الأبقى. يتغير كل شيء في فكر المرأة والرجل وسلوكهما إن آمنا باليوم الآخـر. وتنقلب دولتهما النفسية العقلية إن قويَ هذا الإيمان فصـار يقينا. ذلك هو السبيل لدحض مغريات الفتنة الإباحية لا الدفاع الفكري المقارِنُ لجزئيات حجاب المسلمة وتعدد الزوجات وسائر ما يَنْقِمُه أعداء الدين على الدين من جراء انتهاك المسلمين لحقوق المرأة بالفعل، أو من جراء التحامُل والهيمنة الثقافية المادية التي تجعل المرأة موضوع الشهوة المباحة، وزبونَةَ صناعات التجميل، ومحور الفن الخلاعي، ومُدِرَّةَ الأموال على صناع اللهو، ودميةَ الرجل”، [ref]ـ عبد السلام ياسين، العدل، مرجع سابق، ص: 266 ـ 267. [/ref]قال الله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل: 97)، فأخبر الله تعالى ووعد من جمع بين الإيمان والعمل الصالح، بالحياة الطيبة في هذه الدار، وبالجزاء الحسن في هذه الدار وفي دار القرار.
فإذا بنيت الأسرة على تقوى من الله وتحمل كل طرف منها مسؤوليته المنوطة به، المرأة المؤمنة تعمل ضمن اختصاصها، وما يتفق مع طبيعتها وأنوثتها، وذلك في الإشراف على إدارة البيت، والقيام بتربية الأولاد، والرجل الصالح كذلك يعمل ضمن اختصاصه، وما يتفق مع طبيعته حماية للأسرة من عوادي الزمن، ومصائب الأيام، وبهذا يتم التعاون بين الزوجين، فيصلان إلى أفضل الثمرات في إعداد أولاد صالحين، وتربية جيل مؤمن يحمل في قلبه نور الإيمان، كما ينعم البيت بأجمعه ويرتع ويهنأ في ظلال المحبة والسلام والاستقرار الكريم.
الثمرة الثانية: التنشئة السليمة
لا يخفى على أحد أن الأسرة هي الوطن الصغير الذي تتشكلُ فيه شخصيّة الطفل، إذ يعتبر الوالدان أهم مصادر حمايته وتزويده بالسّنَدِ العاطفي الذي يُعطيه الشعور بالأمن والدفء والحنان، في مناخٍ أُسَريّ يسودُهُ التفاهم والانسجام بين أفراد العائلة، فالأُسرة الواعية المبنية على أسس متينة هي التي تؤمن بأهمية بناء نشء صحيح الأخلاق، سليم الجسم والروح، يُمثّل في نهايةِ المطافِ هَدف التربية وغايتها، وبالنظر إلى ما يشهده عصرنا من التطوّر العلمي والتكنولوجي وما يعرفه المجتمع من تحولات سريعة مُتلاحقة انعكست بشكل سلبي على دور الأسرة في تربية الأولاد، فإنه يلزم مصاحبة الأولاد داخل البيت وخارجه لما يتهددهم من مخاطر التيار الجارف، قال الإمام ياسين: “لا بد للأطفال واليافعين والشباب من رفقة خارج البيت. في المدرسة وحولها تتألف الصداقات، ونديّ الشيطان والمخدرات متربص في الأرجاء. لا تنكصْ المؤمنة وتنطبِعْ بطابع الحماة والجدة الحاضنة: أين كنتَ، ولمَ خرجْتِ؟ مراقبة لا بد منها، لكن ما فائدة الردع والزجر إن كان عقل الفتاة ولب الشاب خِلْواً من فِكرة، يتيما من صحبة صالحة؟ زوِّديها وزوديه بفكرة، بمهمة إيجابية يغزو بها الساحة، اجعليها واجعليه طليعة بين الأقران. ذلكِ، وإلا فالتيار جارف”.[ref]ـ عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، 2/240.[/ref]
فالأسرة هي المحضن الطبيعي الذي يتولى حماية الناشئة ورعايتها وتنمية أجسادها وعقولها وأرواحها، وفي ظلها تتلقى مشاعر الحب والرحمة والتكافل، وتنطبع بالطابع الذي يلازمها مدى الحياة، وعلى هدي الأسرة وتوجيهها تتشرب معنى الحياة الإنسانية وترسم أهدافها، وتعرف كيف تتعامل مع الآخرين.
إن الأولاد غرس الوالدين، وثمرات أفئدتهم، فإن كانا حريصين على رعايته بالتعاهد، والحماية من الآفات التي قد تفسده أو تهلكه، فإنه يكون غرسا صالحا، مثمرا نافعا بإذن الله، وإن أهملاه وتركاه، ولم يعطياه حقه من الرعاية والعناية، فإن مصيره في غالب الأحوال هو الهلاك والبوار، فيشقى بنفسه، ويشقي والديه ومجتمعه من حوله.
الثمرة الثالثة: بناء الأمن الاجتماعي
نقصد بالأمن الاجتماعي اطمئنان الفرد والأسرة والـمـجتمع على أن يحيوا حياة طيبة، بحيث لا يخشون على أنفسهم وعقولهم وأعراضهم وأموالهم وممتلكاتهم من الأخطار الداخلية والخارجية التي قد تهددها، وتأتي عليها بالإفساد والتخريب والتدمير.
إن بين الأمن الاجتماعي واستقرار الأسرة ترابطا وثيقا، فلا حياة للأسرة إلا باستتباب الأمن، ولا يمكن للأمن أن يتحقق إلا في بيئة أسرية متماسكة مؤسسة على تحمل المسؤولية من قبل الزوج وزوجه، قال الإمام ياسين: “الاستقرار الاجتماعي بالزواج والإنجاب، وحمل مسؤولية بيت”، [ref]ـ عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، مرجع سابق، ص: 141.[/ref] وبحسن الرعاية وتحمّل المسؤولية يسود الأسرة التعاطف والتآلف، ويفيض حب الخير بين أفرادها.
إن الاستقرار الأسري كفيل بتحقيق الأمن الشامل والدائم، حيث يحمي المجتمع من المخاوف، ويبعده عن الانحراف، وارتكاب الجرائم.
وحاصل الأمر، فإن بناء الأمن الاجتماعي لا يتحقق إلا في ظل أسرة واعية تحقَّق في كل مكوناتها الأمن النفسي والجسدي والغذائي والعقدي والاقتصادي والصحي بما يشبع حاجاتهم النفسية، والتي ستنعكس بالرغبة الأكيدة في بث الطمأنينة في كيان المجتمع كله، وهذا ما سيعود على الجميع بالخير العميم والأمن المنشود.
خاتمة
إن الأسرة المسلمة لا استقرار لها يرجى إلا إذا بنيت على الأسس القرآنية النبوية، فإذا أحكمت هذه الأسس صلح شأن الأسرة وقوي عمادها، وحُفظ أفرادها من الانتكاس والارتكاس، وأدت دورها الفعال في تربية الأجيال، وإعدادهم ليكونوا أعضاء صالحين نافعين للدين والدنيا. وعليه، فإن الاستقرار الأسري ضمان لاستقرار المجتمع، ورافعة أساسية في بناء العمران الأخوي المنشود.
أضف تعليقك (1 )