برنامج الفاتحين
كان ربعي بن عامر رضي الله عنه جنديا بسيطا من جند الله إذ ساقه القدر إلى رُسْتُم، فقال كلمته المشهورة التي عدها الأستاذ عبد السلام ياسين “برنامجا للفاتحين”[1] و”برنامج المحجة البيضاء”[2] بما تضمنته من خطة واضحة ومنهاج مبسط وقابل للتنفيذ بل ومنفذ بالفعل. ولعل هذا سر إلحاح الأستاذ المرشد على قولة ربعي في مجمل كتبه.
فربعي رضي الله عنه كان رجلا بسيط المظهر لكنه قوي الموقف، كما رأينا في المقال السابق، وكان أيضا رضي الله عنه واضح الرسالة وعالما تمام العلم بالمطلوب منه ومن أمته، وبناء جيل من هذا العيار مهمة اصطفى الله أمثال الإمام المجدد سيدي عبد السلام ياسين رحمه الله لإكمالها بتجديد هذا الدين و توريثه ليحمله مؤمنون جدد منضوون في كوكب النور الذي تكفل الله بإتمامه والله متم نوره ، فالذي خَرَّج من مدرسة النبوة ذلك الجيلَ القرآنِيَّ “الأول” لقادر سبحانه أن يُخَرِّجَ من ميراث النبوة أجيالاً قرآنية جديدة على منهاجِ المدرسة النبوية ذاتها.
نقف إذن في هذا الجزء من المقال مع هذه المقولة الخالدة وهذا الخطاب الأصيل والشامل الذي ما زال صداه يتردد عبر الأجيال. يقول ربعي رضي الله عنه:
“الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن جَوْرِ الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها”.)
الله ابتعثنا
بعث الله الأنبياء و الرسل لهداية الخلق. بعث سبحانه وتعالى نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا صلى الله عليه وعليهم وسلم. ثم خرجت الرسالة العظيمة من الصحراء القاحلة بعد أن أخصبت قلوب البدو الجفاة، فانطلق إخوة ربعي بن عامر ولا أنساب بينهم، يخصبون المجتمعات البشرية لأنهم فهموا أن الله ابتعثهم للعالمين، فأخذوا يعلمون الإنسانية نمطا جديدا عاليا من الأخلاقوالرحمة والعدل والسياسة.
وكما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم فقد بعث أمته أيضا، قال صلى الله عليه وسلم “إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين”.نقف مع كلمة “بعثتم” الواردة في الحديث الشريف و كلمة “ابتعتنا”التي نطق بها سيدتا ربعي بن عامر لنفهم أن هذه الأمة مبعوثة ، وقد استوعب هذا وتشربه ربعي رضي الله عنه وهو الرجل البدوي الذي لم يدخل إلى جامعة ولم يقرأ في كتاب ولكنه تعلم في مدرسة النبوة، جلس بين يدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ،صحب خير مصحوب ونهل من عظيم منهل ،فلخص الإسلام في هذه الكلمات، وفي هذه الكليات.
وإذا كان الله عز وجل قد بعث الأنبياء برسالة التوحيد وأيدهم بالمعجزات، فإن بعثة غير الأنبياء هي اصطفاؤه سبحانه واختياره لعبد من عباده يؤهله للقيام بتجديد الدين لأمة رسول الله المكلفة بحمل رسالة الله إلى العالمين.
ومن هذا الباب أخبر صلى الله عليه وسلم في حديث آخر أن الله تعالى “يبعث” من يجدد لهذه الأمة دينها على رأس كل مائة سنة، قال صلى الله عليه وسلم: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها”
بشارة عظيمة يزفها الإمام المجدد عبد السلام ياسين قدس الله سره حين يوسع دلالة حرف “من” الوارد في الحديث الشريف يقول رضي الله عنه :“كما نرجوه جلت عظمته أن يستعملنا لنكون من هذا المن الذي يجدد الله به الدين للأمة. فرأينا أن «مَن» المذكورة في الحديث قد تعني شخصا بعينه كما تعني جماعة يتعاونون على إحقاق الحق بعد إبطال الباطل.”)[3]
وفي هذا الصدد يميز الإمام المرشد عبد السلام ياسين بين التجديد المئوي ويفصله عن التجديد الأعظم، لأن التجديد المئوي تم على مر القرون في غياب نظرة شمولية،تجمع العلم المشتت والإرادة المبعثرة والجغرافيا المجزأة ، وهذا ما يتأكد من مجالات اجتهاد من اتفق العلماء على كونهم مجددي القرون الفائتة، فباستثناء القرن الأول حيث قارب عمر بن عبد العزيز رحمه الله المقصود، ظل اجتهاد كل مجدد قرن محصورا في إطار جانب محدد، ولم يتجاوز واقع التجزيء ليكتشف أسرار النبوة في التربية والبناء وصناعة الرجال وبناء الجماعة، وإعادة إحياء الأمة للقيام بوظيفتها النبوية الرسالية الدعوية القرآنية لكي يسمع العالم كلمة الله .
و يكون أحفاد ربعي بن عامر اليوم ” سائمة من الأنعام”)، كما عبر عن ذلك الأستاذ المرشد، إن لم نتشبع بالرسالية التي أنطقت في بساط رستم ذلك الخارج من مسجده بقرآنه يبثها فصيحة.”)[4]
يقول رحمه الله :” نحن حاملو رسالة، لكن هل نقدر معنى أن معنا آخر كلمة خاطب بها الخالق خلقه، وأكمل رسالة أنزلها رب السماوات والأرض لعباده؟”)[5]
البرنامج الموروث
الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سَعة الدنيا والآخرة.
يتجلى في هذا الخطاب مدى فهم من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم للرسالة التي ورثوها عن النبي صلى الله عليه وسلم. ويتجلى فيه أيضا الوضوح التام للمهمة الخالدة التي اصطفاهم الله لها، المهمة التي تجمع بين الدنيا والآخرة، بين العدل والإحسان، بين المصير الأخروي للفرد والمصير التاريخي للأمة والإنسانية.
خطاب يبين الأصل في كل ذلك والغاية منه. ثم هو خطاب يعكس برنامجا تقف عنده الدعوة الإسلامية عبر كل الأجيال في سعيها إلى التجديد الرسالي الذي يعني الفرد والجماعة وحركة الأمة وسط الإنسانية “لكي يسمع العالم كلمة الله”).
إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد: وهذا هو نداء الإحسان.
إخراج العباد من جور الأديان إلى عدل الإسلام:وهذا هو مطلب العدل.
إخراج العباد من ضيق الدنيا إلى سعة ما استخلفنا ربنا فيه. وهذا هو الاستخلاف الذي يجيب عن سؤالات الإنسانية المعذبة بفعل “حضارة” مقطوعة عن الله ..
إنه خطاب شمولي متوازن يجمع بين مطلب العدل ونداء الإحسان باعتبار العدل، بلغة اليوم، إحقاق لحقوق الناس السياسية والاقتصادية والاجتماعية بما يضمن التوازن والقسط في المجتمع ليكون البساط الملائم والمهيأ لتلبية نداء الإحسان بما هو توبة مستمرة، وعبودية كاملة لله عز وجل، ورقي فردي في معارج القربى من الله سبحانه، وترق جماعي في سلم القيم الفطري.
يقول الأستاذ المرشد قدس الله سره: “في برنامج المسلمين الفاتحين، كما عرضه الناطق باسمهم في بساط رستم، إخراج الناس من جور الأديان إلى عدل الإسلام. كانت هناك خطة واضحة، كان هناك منهاج مبسط، لكنه كان واضحا وعمليا، وقابلا للتنفيذ، ومنفذا بالفعل، لعل القدرة الفعلية على إنجازه كانت من أهم عوامل وضوحه. ولاشك أن مصدره السماوي، وأثر الوحي الطري في قلوب تلك الأجيال وعقولها، والتربية النبوية، والدولة الخلافية، والقيادة الفذة على يد أمثال خالد وأبي عبيدة رضي الله عنهما كانت الأسس المتينة لتلك القدرة.) كانت واضحة أمامهم الطريق، كان المسؤول العربي المؤمن المجاهد، يتقدم على الصراط المستقيم واثقا بالله عز وجل وبما هو عليه من جهاد ما دام مستمسكا بالوحي، “فاستمسك بالذي أوحى إليك، إنك على صراط مستقيم. “هذا الصراط المستقيم كان عين المنهاج، مرتبا كما ورد ترتيب العقبة المنهوج عليها: فك رقبة، إطعام يتيم ومسكين، ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالرحمة. وربعي وإخوانه كانوا هم الجماعة المؤمنة المتواصية، متشبعين بأن الله تعالى ابتعثهم ليفكوا رقاب العباد ويحلوا سيادة الله في الأرض وفي الشعوب محل سيادة المستعبدين للخلق، ويحلوا عدل الإسلام محل جور الأديان). ثم ما لبثت تلك الطريق أن تعتمت، أول ما تعتم منها الحكم، ومن فساد الحكم إلى طاعة الحاكم طاعة العمياء، ومن ذلك إلى خضوع الرقاب لغير الله، ومن ذلك إلى فشو الجور ونشوء الطبقية مع يقظة عبية الجاهلية، ومن ذلك إلى التفتت التاريخي للمجتمع الإسلامي. في هذه الأربعة سطور طويت أربعة عشر قرنا من تاريخنا، فها نحن لا وضوح لدينا لذلك المنهاج ولصيغته البرنامجية كما أعلن عنها الجندي المجاهد ربعي رحمه الله.”)[6]
لقد وفق الله عز وجل الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله في تجديده لدين هذه الأمة وفي بحثه عن المنهاج الذي صنع امثال ربعي بن عامر، لبناء جماعة جعلت شعارا لها الآية الجامعة لكل مقاصد القرآن الكريم: إن الله يأمر بالعدل والإحسان . ووفقه لكتابة منهاج أهم خلاصاته أن التربية النبوية تفضي إلى أن لاينفك ولا ينفصل في وعي وفهم الفرد مصيره الفردي عند الله تعالى عن مصير أمته التاريخي ،وفتح الله عليه لإعداد قيادة ربانية ، ونشر دعوة، وحضور في الميدان.
التجديد الرسالي
بكلمات تنم عن درجة الاقتناع الإيماني، وعن درجة الوعي العقلي، وعن درجة التصميم الجهادي، لحملة الرسالة الأولين الذين ابتعثهم الله ،تَقَدَّمَ ممثل المستضعفين سيدنا ربعي على بساط قائد مُترف تحيط به مراسيم الاستكبار وأثاثُه وجِهازُه.
اقتحم ربعي بن عامر بساط رستم المستكبر وهو في لباسه الخشن برمحه القصيرة وهيئته الساذجة فقال كلمته “الله ابتعثنا ليخرج بنا من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.”)
ما نطق به سيدنا ربعي رضي الله عنه كان برنامج الإسلام في خطواته العالمية، في بداية الفتح الإسلام. ذهب مباشرة إلى نقطة القوة، إلى منطق الحق، إلى الإيمان بالله عز وجل إلها مطاعا أمر المسلمين أن يحرروا البشر من كل عبودية لغيره سبحانه. نسبة إلى الله عز وجل رفعت ذلك الجيل القوي إلى عالمية الدعوة وأخوة البشر.
ثم يتحدث ربعي عن ضيق الدنيا بالشرك والكفر والظلم، وعن سعتها بالإسلام، والعبارة واسعة حافلة بنوايا أمة في مسيرة النصر. ويتحدث عن عدل الإسلام. وكان عدل عمر نموذجا ماثلا عاش ربعي في وارف ظلاله، لم يكن عدل الإسلام برنامجا يوتوبيا.
كان البرنامج واضحا وضوحا تاما زمن النبوة والخلافة الراشدة عند الصحابة الكرام، وعلى أساسه أقيمت الحياة الخاصة ونظمت العلاقات العامة، كما كانت إستراتيجية البناء، بلغة عصرنا، مفهومة المعنى ومعلومة المراحل ورائدة الخطوات ومدققة الوسائل الكلية. ولما ذهبت الجماعة ذهبت معها معاني العدل و الشورى وانكمش الإحسان ..
إن الاختلال الذي حصل في الفهوم والسلوكات بعد ذهاب الجماعة ومعانيها الجامعة انعكس جملة على الواقع العام لحركة الأمة ونظامها الداخلي ومسيرتها التاريخية.
ومن هذا المنطلق لن تكون الحركة الإسلامية المعاصرة حركة مغيرة وبانية، أي حركة جوهرية تاريخية غائية، إلا إذا توفرت على هذا الوعي الغائي الذي يجمع شملها ويوجه حركتها ويجعلها حركة في صلب التاريخ الإنساني لتحدث تحولا جوهريا في مسار الإنسانية، لأن جوهر الوعي الغائي هو الوعي الأسمى الدائر جملة على معاني التوحيد والعبودية والاستخلاف الذي تجمعه كلمة: لا إله إلا الله محمد رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين تعمر حقائقها القلب.
نطقها مدوية سيدنا ربعي بن عامر في بلاط رستم “الله ابتعتنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام”)، هذه الرسالة وهذا حاملها قاصد في تجديده الرسالي للمحجة البيضاء التي تركهم عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعترف بوضوحها أبو الدرداء، واعتز باتباعها عمر، وعرض برنامجها، بوضوح ساذج من الصنعة الفلسفية ناصع، ربعي بن عامر رضي الله عنهم أجميعن.
[1]انظر كتابه الاسلام و تحدي الماركسية اللينينية ص 9
[2]نفس المصدر ص 13
[3]المنهاج النبوي ، ص،37
[4]محنة العقل المسلم،ص 122
[5]القران و النبوة ،ص 65
[6]الاسلام وتحدي الماركسية اللينينية، ص: 10
أضف تعليقك (0 )