post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

وأنت تقرأ كتب الأستاذ عبد السلام ياسين توقفك الصور البلاغيةُ الجميلةُ، والتدفق البياني الماتِعُ، فتجد نفسك أمام مدرسة أسلوبية نسيج وحدها. بيان مشرق، وقدرة بلاغية، وأسلوب متميز، يكاد يعرف به كاتبه دون أن يذكر اسمه. فقد نسجت كتاباته بكلمات مُتناسبة يأخذ بعضها برقاب بعض، فلا يُمكنك أن تضع يدك على كلمة وتقول: ليت هذه الكلمة تقدَّمَتْ عن تلك الكلمة أو تأخَّرتْ عنها .. كلمات لها مغزى، تحمل معنى، تبلغ رسالة، تتلطف بأدوات التعبير العصرية كما تلطف مبعوث أصحاب الكهف ليقضي حاجة أصحاب الكهف من سوق كانوا يخشون غائلة أهلها،هكذا وصفها الاستاذ ياسين؛ فهمه المقيم المقعد أن تنفذهذه الكلمات الصادقة إلى أعماق النفس، لعلها تطرق في ليل الغفلات أبواب القلب، لعلها تسري بالمستيقظ على ضربات التذكير بالآخرة من دار لدار، من حال لحال، من نمط عيش إلى حياة إيمان . إن الأستاذ عبد السلام ياسين يقتبس طريقته في الكتابة من البلاغ القرآني النبوي إذ يطمح في كل ما يخط ويسطر أن يحافظ على ذكر الله وما يقربنا إليه، وأن يدل على الله وعلى الطريق إليه. يقول: إن مطمحنا الأول والأساس أن تكون كل كلمة نخطها ونقرؤها تذكرنا بالله.<a id="_ednref1" href="#_edn1">[1]</a> ولاغرو، فالرجل كما عبر في كتابه الاحسان: أحيى معاني ما أكتب بلحمي ودمي وروحي وعقلي.) <a id="_ednref2" href="#_edn2">[2]</a> وكما هو معلوم، فكتابات الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين تسير في اتجاه قاصد، يتجلى أساسا في توضيح مشروع &#8220;المنهاج النبوي&#8221; والإقناع بضرورته في التغيير إلا أن هذا لم يمنعه من حسن حياكة الألبسة اللغوية التي ترتديها معاني هذا العمل التجديدي الشامل والمتكامل. يقول الأستاذ ياسين في كلمة جامعة مانعة: جهاد كلمة في جهاد تربية، مشاركة كلمة وفن وصنعة بلاغية متلطفة وقول بليغ قوي في مشروع تربية متكاملة تحقن منعة العافية في شرايين أجيال السلامة والإسلام.<a id="_ednref3" href="#_edn3">[3]</a> يروم المقال التالي استحضار هذه القدرة البلاغية الفائقة للأستاذ ياسين في تقديم بعض الأمثلة التي تحمل معاني عميقة جدا في كلمات قليلة جدا ، حتى لكأن الكلمات توشك ان تتصدع من ثقل المعاني..



<h2 class="wp-block-heading">البلاغة الأدبية للأمثلة</h2>



قال ابن المقفّع: إذاجعـل الكلام مثلاً كان أوضح للمنطق، وآنق للسمع، وأوسع لشعوب الحديث.&nbsp; وقال إبراهيم النظّام: يجتمـع في المثل أربعـة لا تجتمع في غيره من الكلام: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه، وجودة الكناية، فهو نهاية البلاغة.) <a id="_ednref4" href="#_edn4">[4]</a> وقال عبد القاهر الجرجاني : إعلم أنّ مما اتّفق العقلاء عليه أنّ التمثيل إذا جاء في أعقاب المعانى، أو أُبرزت هي باختصار في معرضه، ونُقلت عن صورها الاَصلية إلى صورته كساها أُبّهة، وكسبها منقبة، ورفع من أقدارها، وشبّ من نارها، وضاعف قواها في تحريك النفوس لها، ودعا القلوب إليها، واستثار من أقاصي الأفئدة صبابة وكلفاً، وقسر الطّباع على أن تُعطيها محبة وشغفا.&nbsp;فإن كان ذمّاً: كان مسه أوجع، وميسمه ألذع، ووقعه أشدّ، وحدّه أحد.&nbsp;وإن كان حجاجاً: كان برهانه أنور، وسلطانه أقهر، وبيانه أبهر.)وإن كان افتخاراً: كان شأوه أمدّ، وشرفه أجد ولسانه ألد.)وإن كان اعتذاراً: كان إلى القبول أقرب، وللقلوب أخلب، وللسخائم أسلّ، ولغَرْب الغضب أفلّ، وفي عُقد العقود أنفث، وحسن الرجوع أبعث.)وإن كان وعظاً: كان أشفى للصدر ، وأدعى إلى الفكر ، وأبلغ في التنبيه والزجر، وأجدر أن يجلى الغياية ويُبصّـر الغاية، ويبريَ العليل، ويشفي الغليل.<a id="_ednref5" href="#_edn5">[5]</a> ولقد أكثر القرآن الكريم من التمثيلات إلى أن بلغت الألف؛ قال سبحانه وتعالى: ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون. <a id="_ednref6" href="#_edn6">[6]</a> واستعان النبي صلى الله عليه وسلم بالأمثلة في قيامه بمهمة التبيين والبلاغ التي كلفه بها ربه عز وجل. يقول الشيخ إسماعيل حقي البروسوي: لأن في التمثيل سرًا لطيفًا وحكمة عالية؛ إذ به يصير الوهم مغلوبًا للعقل، والخيال مجبورًا للانقياد للفكر، وبه يتحول الغائب حاضرًا، والمعقول محسوسًا، والمعنى مجسمًا، وبه يجعل المتفرق مجموعًا، والمختلط ممتزجا، والمختلف متحدًا، والمنقطع متصلا، والأعزل مسلّحا.<a id="_ednref7" href="#_edn7">[7]</a>



<h2 class="wp-block-heading">الأمثلة عند الأستاذ ياسين</h2>



أتحفنا الأستاذ عبد السلام ياسين في كتبه بأمثلة نفيسة وبليغة تبعا لحاجة المقام لتأدية المعنى وتوصيل الرسالة، فكان كل مثال قدمه نكتة بلاغية ودلالة معنوية يثبتها السياق في مضمونه وبين طياته.. سنقدم بعضا من هذه الأمثلة باعتبارها جزء لا يتجزأ من الملامح البلاغية لمشروع ضخم هو دليلُ منهاجِ دعوةٍ وبناءٍ ونصرِ كلمة الله..



<h2 class="wp-block-heading">العقل الخفاش</h2>



يصف الأستاذ ياسين العقل المحجوب عن حقائق الغيب وفتوحاته المادية وقدرته الفائقة على استنباط أسرار المادة واستكناه خبايا الكون قائلا: وما هذا العقل إلا كخُفَّاش جيِّدِ الإبصار في ظلمات الكون المادي وما أودع الله فيه من أسباب. حتى إذا خرج من كهفه ذاك إلى حيث تسطع شمس حقائق الغيب عَمِيَ عَمىً مُطْبَقا، وأنكر أن يكون في الوجود غيرُ ما وقع عليه حسُّه الكليلُ.<a id="_ednref8" href="#_edn8">[8]</a> فانظر رعاك الله الى هذا الوصف البليغ والذي قد يلخص نظرية شاملة لمفهوم العقل عند الأستاذ ياسين فلا تضارُبَ بين العلم والإيمان. إنما يتضارب مع العلم استعمالُ العقل في غير ما خلق له. فالأستاذ ياسين يرى أن للعقل مجالا واسعا للتفكير والتدبير المنطقي في نطاق الكونيات، لكن متى حاول هذا العقل أن يقتحم ما فوق طوره هام في بحور الفلسفة والأطروحات والتقديرات، إلا أن تتداركه رحمة من الله فتسوقه من آفاقه التائهة رجوعا إلى عتبة الفطرة التي يتساوى فيها الإنسان الأمي الباقي على فطرته مع الفيلسوف العائد من جولاته وأطروحاته.



<h2 class="wp-block-heading">الضيف والذباب</h2>



مثال آخر يضربه الأستاذ المرشد عن علم التصوف والجدال الذي يثار حوله فيقول: يحتد الخصام حول التصوف في زماننا احتدادا شديدا. كل جدران الاحتياط التي أقامها نقاد التصوف السابقون خرقها بعض كتبة العصر يسايرون في غلوهم هذا تلامذة المستشرقين الذين يسعون جهدهم أن يقدموا التصوف على أنه علم دخيل، والصوفية على أنهم تلامذة البراهمة والغنوصيين. ما مثل هؤلاء إلا كمثل من رأى مائدة حافلة حولها ضيف مكرمون ومن حوالي الضيف ذباب يتطاير ويطن، فزعم أن المائدة ما نصبها إلا الذباب وأن الضيف المحلقين ما هم إلا ذباب كبير.<a id="_ednref9" href="#_edn9">[9]</a> وهو مثال يبين حجم الحول و العورالذي أصاب من استخف بأجيال العلماء من الأمة الذين دانوا الله وحققوا ودققوا ونصحوا .. فمن الناس من لا تتسع حويصلته ليفهم أن الله عزوجل قيض لهذه الأمة رجالاً كُمَّلا، كانوا ولا يزالون وسيبقون إن شاء الله ورثة الأنبياء وخلفاءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته جامعين بين الأقوال والأفعال والأحوال، يخرجهم الله من الظلمات إلى النور، ويجعل لهم نورا، ويجعلهم نورا.. حقيقة التصوف عند الأستاذ ياسين هي البحث عن حب الله و معرفته أما &#8220;التصوف الفلسفي&#8221;، تصوف الحلول والاتحاد الذي ليس من الإسلام ولا من التصوف في شيء، فيشبهه الأستاذ ياسين بالذباب الحائم حول المائدة الذي يشغل بال الكثيرين عن المائدة فيعطونه من الاهتمام تحرزا منهم أو خوفا مبالغا فيه أكثر مما يستحق. فتعقم هذه الحيطة الحركة أو تكون ستارا يختبئ وراءه كسل العقل وركود الروح.



<h2 class="wp-block-heading">النواظم الجسد</h2>



في كتابه المنهاج النبوي يمثل النواظم الثلاثة الرابطة لجماعة المؤمنين في أخوتهم وتناصرهم وجهادهم وتنظيمهم ووحدة أمرهم كما مثلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجسد الواحد، يقول الأستاذ ياسين: هي ثلاث نواظم: الحب في الله، والتناصح والتشاور في الله، والطاعة لله ولرسوله ولأولي الأمر. ثلاث نواظم لا تقوم إحداها مقام الأخرى، ولا يقوى جسم إسلامي على جهاد إسلامي إلا بها.)فإن بقينا &#8211; ونحن نبقى لا نستبدل- مع الجسد كما مثل الحبيب صلى الله عليه وسلم، فيتراءى لنا أن جسم الجماعة المجاهدة يتكون من لحم ودم ومن هيكل عظمي ثم من سائر الأجهزة من مخ وعصب وما سواهما.)فالمحبة في الله في نظرنا لحم الجسد ودمه. وهو بها وحدها جسم رخو لا يقوم لجهاد. والهيكل العظمي هو التناصح والتشاور لما فيهما من صلابة في الحق تشبه صلابة العظم في الجسم. والتناصح والتشاور بلا محبة تغطي العيب، وتتجاوز عن الهفوة، فقعقعة آراء، وأنانيات، وتأجيج خلاف. ثم لا يكون الجسد حيا إلا برئيس يقوده، وأجهزة تنفذ أوامر الرئيس، فالرئيس في جسد اللحم والدم والعظم العقل الآمر، والرئيس في جسم الجماعة المؤمنة العضوية الأمير ومعه سلم الإمارة بمثابة أجهزة الجسد.<a id="_ednref10" href="#_edn10">[10]</a> إذن هي نواظم ثلاث لئلا يتشتت التنظيم وينفلت، محبة قبل نصيحة وشورى تؤول إلى طاعة، وتمثل هذه النواظم روح التنظيم و معناه، فهي التي تنظم وترتب الحركة كما ينتظم العقد، وهي ثابتة لا تتغير، أما الأساليب والأشكال فتتغير بحسب الزمان والمكان والحال.



<h2 class="wp-block-heading">الحجاج الضفدع</h2>



مثال رابع نختم به مقالنا جاء في خاتمة كتاب الشورى والديمقراطية، يصف بأسلوب أدبي رفيع ضآلة ظلم الحجاج اذا ما قورن بوحشية الحضارة الغربية يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: أنت إرهابي، يشهد عليك بذلك سادة الفكر ومعلمو الحضارة الذين أبادوا شعوبا واستعبدوا قارَّاتٍ. أنت كبش الفداء ومَرْمَى سِهام التعويذة الطِّلَّسْمِية التي تزور التاريخ الماضيَ والحاضر، وتقْلبُ الضحية عادياً، والعاديَ بريئا مُبَرّءاً. تعويذة وطلسم ينسي الذاكرة الأوربية المعذّبة أن أوربا، وحضارة أروبا، وفكر أوربا، ولدت الهتلرية والستالينية وحشيتين مُفلسَفتين.)حجَّاجُنا الطاغية في تاريخنا ما هو إلا ضَفدع حقير لا قيمةَ له في معرض جزّاري التاريخ البشري. صاحبُ دُكان صغير في حي حقير من أحياء جهنم التي يُحشر إليها الظالمون. أُمِّيٌّ في ملة الظلم المتعلمة المثقفة الفيلسوفة التي نظّرت للظلم، ونظمت، ونبذت كلّ القيم الأخلاقية كما نبذت كل العواطف الإنسانية.)نحوم ونتقشر إن لم نَعِ ما يفعله فينا التغريب والمغرَّبون. عقول غضة في طور التكوُّن ندفعها أمانة مضيَّعة لتعليم فرنكوفوني يبثّ فيها جراثيم اللاييكية مُبَزَّرَةً بِبَهارات العقلانية والديمقراطية والحرية، مُزيّنَةً بوُعودٍ تصور لمناضل الديمقراطية وما في موكبها ومن تحت شعارها مستقبل الكرامة، كرامة المنسجم مع العصر، اللاحقِ بشعبه الركبَ الحضاريَّ.)نفوس غضة ندفعها لبيداغوجيا المناضِل الوطني التلحيدي من بني جلدتنا يصَنِّعها بسلطان النظام التربوي هُوَيّة تائهةً، أفواجا رضعت من أثداءِ ظِئْرٍ عَدُوَّةٍ، وكرَعت من حوض ثقافة هي الكدَر أخلاقيا، وهي الكفر والشك في الله مبدئيا.<a id="_ednref11" href="#_edn11">[11]</a>



<h2 class="wp-block-heading">خاتمة</h2>



هذا غيض من فيض لم نوفِّه ما يستحقُّه من النظر والتأمل والتمثُّل، ولكن حسبنا أننا لفتنا النظر إلى بعض اللمسات الأدبية اللطيفة في كتابات الإمام المرشد، ويكفينا قول سيدنا علي كرم الله وجهه في نهج البلاغة: قد جرّبتم الاَمور وضرّستموها، ووُعظتم بمن كان قبلكم، وضُـربت الاَمثال لكم، ودعيتم إلى الاَمر الواضح، فلا يصمّ عن ذلك إلا أصمّ ، ولا يعمى عن ذلك إلا أعمى، ومَن لم ينفعه الله بالبلاء والتجارب لم ينتفع بشيء من العظة.&nbsp;والحمد لله رب العالمين.



<hr class="wp-block-separator has-alpha-channel-opacity"/>



<a id="_edn1" href="#_ednref1">[1]</a>مقدمات لمستقبل الإسلام ص 12. <a id="_edn2" href="#_ednref2">[2]</a>كتاب الإحسان، الجزء الأول مطبوعات الافق ص. <a id="_edn3" href="#_ednref3">[3]</a>المنظومة الوعظية ص 21. <a id="_edn4" href="#_ednref4">[4]</a>أحمد بن محمد الميداني، مجمع الأمثال، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة الثانية، الناشر دار الجيل، ص 13. <a id="_edn5" href="#_ednref5">[5]</a>عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة في علم البيان، دار المعرفة بيروت لبنان، ص 102. <a id="_edn6" href="#_ednref6">[6]</a>سورة الزمر، الآية 27. <a id="_edn7" href="#_ednref7">[7]</a>الحاوي في تفسير القرآن الكريم، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد القماش، ص 773. ينظر http://www.al-eman.com/ <a id="_edn8" href="#_ednref8">[8]</a>إمامة الامة ، دار لبنان للطباعة و النشر، ص 124. <a id="_edn9" href="#_ednref9">[9]</a>كتاب الإحسان، مطبوعات الأفق ص. <a id="_edn10" href="#_ednref10">[10]</a>المنهاج النبوي، الطبعة الثانية، ص 78. <a id="_edn11" href="#_ednref11">[11]</a>الشورى والديمقراطية، مطبوعات الأفق، ص 350.

الأمثلة في كتابات الأستاذ عبد السلام ياسين

أية مكانة للإنسان في التصور المنهاجي للإمام عبد السلام ياسين؟

في تحرير العقل الفقهي

مفهوم العلم في النظرية المنهاجية

معالم النظر التجديدي في التراث الفقهي عند الإمام ياسين

المسؤولية التربوية في نظام الأسرة

تصويب الاختلاف عند الإمام ياسين

الاختلاف في فكر عبد السلام ياسين

قضايا فكرية

الأمثلة في كتابات الأستاذ عبد السلام ياسين

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

الأمثلة في كتابات الأستاذ عبد السلام ياسين

في ظلال القرآن والنبوة..البناء الأول

في ظلال القرآن والنبوة..الانتقاض وأسبابه

الشخصية المنهاجية ربعي بن عامر2/3

الشخصية المنهاجية: ربعي بن عامر 1/3

لمحات من حياة عظيمة

مقالات ذات صلة