post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

ذكره الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله في جل كتاباته حتى إنه افتتح به أول مؤلفاته<a id="_ednref1" href="#_edn1">[1]</a>، واعتبره نموذجا قرآنيا لجيل فريد؛ إنه الصحابي الجليل ربعي بن عامر. 
 يحاول المقال التالي التساؤل عن سر إلحاح الأستاذ ياسين على هذا الصحابي وإعادة تكرار موقفه في أغلب كتاباته، كما سنسعى عبر لبنات هذا المقال إلى الوقوف عند هذا المشهد الخالد لجندي مسلم بسيط أمام أكبر قادة العالم آنذاك، و نحاول، كلما استطعنا إلى ذلك سبيلا، تفكيك قولة ربعي بن عامر الجامعة التي تجلى فيها مدى فهم جندي بسيط من جند الله لرسالته التي ورثها عن النبي صلى الله عليه وسلم. 
 لقد حاولنا بداية، من خلال العنوان، أن نضفي صفة المنهاجية على شخصية هذا الصحابي الجليل على اعتبار معاني الوحي العظيمة التي استقرت في قلبه عبر الصحبة المباشرة للنبي صلى الله عليه و سلم، وامتدت دلالاتها إلى عقله وباقي جوارحه فعرضها متكاملة ومتسقة ومنظمة وقاصدة في خطابه وسلوكه أمام رستم. 
 و نعتناها بالصفة المنهاجية، أيضا، لكونه مثالا متجددا و مشروعا عمليا ممتدا في الزمان مجيبا عن أسئلة الأساس الذي تم عليه البناء الأول، تعضيدا وتذكيرا وتوريثا للأجيال المتلاحقة من العاملين للخلافة الثانية على منهاج النبوة . 
 سنقسم المقال إلى ثلاثة أجزاء؛ نحاول في الجزء الأول النظر إلى هذا الصحابي الجليل باعتباره حاملا الرسالة. وفي الجزء الثاني سنقترب من برنامج الفاتحين كما لخصته قولته البليغة. ونتناول في الأخير وحدة الخطاب كما تجلت في كل أقوال الصحابة الذين حاوروا رستم قبله أو بعده.. 

<h2>حامل الرسالة</h2>
في أولى فقرات كتاب &#8220;الإسلام بين الدعوة و الدولة&#8221;<a id="_ednref2" href="#_edn2">[2]</a> يسرد الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله القصة الكاملة لربعي بن عامر رضي الله عنه في بساط رستم كما أوردها ابن كثير. 
 عنون الأستاذ ياسين هذه الفقرة بـ &#8220;حامل الرسالة &#8221; للإشارة إلى عدة دلالات في رأينا؛ فهو من جهة حامل رسالة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقائد جيش الفرس رستم قبل بدء معركة القادسية؛ و من جهة ثانية هو حامل الرسالة الخالدة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى العالمين؛ ومن جهة ثالثة لأن الأستاذ ياسين كان يتشوف إلى بناء جيل يكون شرفه و معنى وجوده هو حمل رسالة رب العالمين إلى العالمين، جيل يخرج الناس من الضيق الذي هم فيه إلى سعة موعود الله كما عبر ربعي بن عامر. يقول الأستاذ المرشد: &#8220;)الدعوة الإسلامية تضع للناس في كل زمان نماذج إنسانية رائعة للقدوة و الأسوة. وقد كان أروع هذه النماذج سيدنا رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه، ومن ثم وقوفنا عندهم و عكوفنا عليهم.&#8221;)<a id="_ednref3" href="#_edn3">[3]</a> 
 لا مندوحة من أن نذكر ابتداء، أن الأستاذ عبد السلام ياسين حين يورد مثل هذه السير في أي كتاب، فهو يؤكد غير ما مرة أن &#8220;ليس هذا الكتاب كتاب تاريخ ووصف، إنما هو كتاب منهاج&#8221;)<a id="_ednref4" href="#_edn4">[4]</a> فالعبرة من كل ما يكتب، كما يصرح: &#8220;العبرة أن نكتشف المنهاج النبوي في التربية، ذلك المنهاج الذي كان عملا باهر النتائج، خرج من مدرسته كبار الصحابة، عظماء الأمة، نخبة الإنسانية بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. العبرة أن نكتشف أسرار المنهاج النبوي الذي نتج عنه الجهاد الخالد الذي كانت ثمرته &#8220;المعجزة التاريخية&#8221; التي غيرت العالم أعمق تغيير وأوسع تغيير وأسرع تغيير.&#8221;)<a id="_ednref5" href="#_edn5">[5]</a> 
 إن أهم ما يميز كتابات الأستاذ عبد السلام ياسين هو اليقين في الله وفي موعود الله، بأن الذي خَرَّج من مدرسة النبوة ذلك الجيلَ القرآنِيَّ &#8220;الأول&#8221; لقادر سبحانه أن يُخَرِّجَ من ميراث النبوة أجيالاً قرآنية جديدة على منهاجِ المدرسة النبوية ذاتها. 
 لنعد إذاً إلى هذا المشهد التاريخي الرائع حين يدخل الصحابي الجليل ربعيّ بن عامر وعمره ثلاثون عاماً، بفرسه الهزيل، وثيابه الرثة، ورمحه البسيط الملفوف في لفائف من قماش لأنه ما وجد غمداً له. 
 ولنتصور رستم قائد الفرس، وتحت يديه مئتان وثمانون ألفًا من الجنود، ومعه ثلاثة وثلاثون فيلا، لما سيسمع أن وافد المسلمين سوف يدخل عليه، فيجمع حوله الأسرة الحاكمة، والوزراء، والجنود، وكل مظاهر البذخ، ويستعد لأن يرهب هذا الوافد. 
 ولنتأمل دهشة الحاضرين كلهم وهم يشاهدون ربعي بن عامر يقود فرسه، ويعتمد برمحه على بُسُطهم ؛ ليظهر لهم أن الدنيا حقيرة، وأنها رخيصة، وأنها لا تساوي عند الله شيئًا، ومن علامات رخصها وحقارتها أن الله أعطاها لمن لا يحب، وجعل سعد بن أبي وقاص &#8211; خال النبي ـ صلى الله عليه وسلم، ينام على الثرى. 
 يعلق الأستاذ ياسين رحمه الله تعالى على هذا المشهد قائلا : &#8220;على بساط قائد مُترف تحيط به مراسيم الاستكبار وأثاثُه وجِهازُه، تَقَدَّمَ ممثل المستضعفين. روى ابن جرير الطبري رحمه الله في تاريخه قال: &#8220;فأظهروا الزِّبْرِجَ، وبسطوا البُسُط، والنمارق، ولم يتركوا شيئا. وَوُضِعَ لرُسْتُمَ سريرُ الذهب، وأُلْبِسَ زِينةً من الأنْماطِ والوسائد المنسوجة بالذهب. وأقبَلَ رِبْعِيٌّ يسير على فرس زَبَّاءَ قصيرةٍ، معه سيف له مَشُوقٌ (مصقول)، وغِمْدهُ لُفافةُ ثوب خَلَقٍ، ورمحه معْلُوبٌ بِقِدٍّ (محزوم بجلد)، معه حَجَفةٌ (ترس) من جلود البقر، على وجهها أديمٌ أحمر مثلُ الرغيف، ومعه قوسُه ونبله، وعليه درع له كأنها أضَاةٌ (كأنها غدير ماء لأنها من حديد مصقول)، ويَلْمُقُهُ (ثوبه الخارجيُّ) عَباءةُ بعير قد جابَها (خرقها في عنقه) وتَدَرَّعها (لبسها) وشدَّها على وسطه بسَلَب (شريط من جريد النخل)، وقد شدَّ رأسه بمِعْجَرَتِه، وكان أكثرَ العرب شَعْرَةً، ومِعْجَرَتُه نِسْعَةُ (عمامته جِلدة تُتَّخَذُ زِماما للجمل) بعيرِه .&#8221;) 
 )لباسٌ بسيط هو لباس الفقراء، لكنَّ السيف حين يخرج من لُفافة الخِرَق البالية يخطَفُ البَصَرَ لطول ما جلس إليه الفارسُ المومن يصقُلُه إعداداً للقوة. ومِثْلُ ذلك الدرعُ، كأنها أضاةٌ. أثْمَنُ ما مع محرر الشعوب من الجور والعبودية للبشر سِلاَحُهُ.)<a id="_ednref6" href="#_edn6">[6]</a> 
 كان ربعي بن عامر رضي الله عنه و أرضاه، عَيِّنَةً من صنعة النبوة أهلته لحمل الرسالة، كان مبعوثا بسيطا من فقراء الصحابة، لا يملك من الدنيا إلاَّ ما عليه من ثياب وما تحته من مركوب ولكنه حين تكلم، تحدث بقلب مُسْتَغْنٍ بالله مُسْتَعْلٍ بالحق متعلِّقٍ بالدار الآخرة لا يلتفت إلى مظاهر تَرَفٍ داسه بقدميه.كان رضي الله عنه رجلا بسيط المظهر لكنه قوي الموقف وواضح الرسالة وعالم تمام العلم بالمطلوب منه ومن أمته. 
 لننقل الآن حرفيا الفقرة التي اختارها الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين ليفتتح بها أولى فقرات أول كتاب ألفه في سعيه الى المنهاج النبوي، واختار لها عنوان حامل الرسالة: 
 &#8220;يروي ابن كثير أن سعد ابن أبي وقاص، قائد جيش المسلمين، أرسل رجلا اسمه &#8220;ربعي بن عامر&#8221; ليفاوض رستم قائد الجيوش الفارسية قبيل وقعة القادسية. قال:&#8221; فدخل عليه، وقد زينوا مجلسه بالنمارق المذهبة والزرابي، وأظهروا اليواقيت واللآلئ الثمينة والزرابي العظيمة، وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة ،وقد جلس على سرير من ذهب .و دخل عليه ربعي بثياب صفيقة و سيف و ترس و فرس قصيرة ،و لم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط. ثم نزل و ربطها ببعض الوسائد ،وأقبل و عليه سلاحه و درعه،و بيضته على رأسه. فقالوا له :&#8221;ضع سلاحك !&#8221;فقال:&#8221; إني لم آتكم ،و إنما جئتكم حين دعوتموني فان تركتموني هكذا وإلا رجعت!&#8221; فقال رستم :&#8221;ائذنوا له!&#8221; فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق، فخرق عامتها .فقالوا له :&#8221;ما جاء بكم؟&#8221; فقال:&#8221; الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ،و من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه. فمن قبل ذلك قبلنا منه و رجعنا عنه .ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعود الله. قالوا :&#8221;وما موعود الله ؟&#8221;قال:&#8221; الجنة لمن مات على قتال من أبى، و الظفر لمن يبقى.&#8221; فقال رستم :&#8221;قد سمعت مقالتكم ،فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا؟&#8221; قال :&#8221;نعم !كم أحب إليكم، يوم أو يومان ؟&#8221;قال:&#8221; لا ،بل حتى نكاتب أهل رأي رؤساء قومنا.&#8221; فقال:&#8221; ما سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث، فانظر في أمرك و أمرهم. واختاروا واحدة من ثلاث بعد الأجل&#8221; فقال:&#8221; أسيدهم أنت؟&#8221; قال:&#8221; لا،ولكن المسلمين كالجسد الواحد يجير أدناهم على أعلاهم&#8221;. فاجتمع رستم برؤساء قومه فقال :&#8221;هل رأيتم قط أعز و أرجح من كلام هذا الرجل؟&#8221; فقالوا :&#8221;معاذ الله أن تميل إلى شئ من هذا و تدع دينك إلى هذا الكلب.أما ترى إلى ثيابه !&#8221;فقال :&#8221;ويلكم !لا تنظروا إلى الثياب،وانظروا إلى الرأي و الكلام و السيرة.&#8221;)<a id="_ednref7" href="#_edn7">[7]</a> 
 يقدم الأستاذ ياسين رحمه الله &ndash; في سياق التعليق &#8211; حكمة أدبية راقية: &#8220;إنك متى ألبست الضعيف الجبان ثياب الجندي وحملته سلاح الكمى لن تحصل على بطل، وإنما ينفضح الضعف والجبن على مقدار هيئة البزة ومضاء السلاح.&#8220;)هذا ربعي حامل الرسالة، سينتصر غدا في المعركة، وسيبني حضارة لأنه كان يحمل بذرة التمكن في الأرض ما عاقه عن ذلك ثياب صفيقة و فرس قصيرة. من قلته التي عاناها جسمه ولم تعانها نفسه خرجت القوة وخرج البأس وخرج معهما الهداية والحضارة.&#8221;)<a id="_ednref8" href="#_edn8">[8]</a> 
 رحم الله ربعي بن عامر فقد كان مدركا تمام الإدراك للمهمة العظيمة التي ورثها عن نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وكان بحق حامل الرسالة.
<a id="_edn1" href="#_ednref1">[1]</a>نقصد كتاب &#8220;الاسلام بين الدعوة و الدولة&#8221;و ان كانت صدرت له قبله مجموعة من الأعمال البيداغوجية المرتبطة بمجال التربية والتعليم الا اننا نعتبر الكتاب اول مؤلفاته الفكرية صدر سنة 1972 <a id="_edn2" href="#_ednref2">[2]</a>الاسلام بين الدعوة و الدولة الطبعة الاولى 1392 مطبعة النجاح &ndash; الدار البيضاء <a id="_edn3" href="#_ednref3">[3]</a>الاسلام بين الدعوة و الدولة الطبعة الاولى 1392 مطبعة النجاح &ndash; الدار البيضاء ص 17 <a id="_edn4" href="#_ednref4">[4]</a>كتاب القرآن والنبوة، ص 75 <a id="_edn5" href="#_ednref5">[5]</a>عبد السلام ياسين، &#8220;مقدمات في المنهاج&#8221;، ص 34 <a id="_edn6" href="#_ednref6">[6]</a>إمامة الامة،عبد السلام ياسين،دار لبنان للطباعة و النشر،الطبعة الاولى ،ص 267 <a id="_edn7" href="#_ednref7">[7]</a>الاسلام بين الدعوة و الدولة،عبد السلام ياسين،مطبعة النجاح الدار البيضاء،الطبعة الاولى ،ص8 <a id="_edn8" href="#_ednref8">[8]</a>نفس المصدر ،ص 13

الشخصية المنهاجية: ربعي بن عامر 1/3

صورة تخيلية للإمام الغزالي بالذكاء الاصطناعي

الإمام الغزالي: المنقذ من ضلال السفسطة

معالم منهجية في قراءة كتب الإمام

الإمام الغزالي بيداغوجيا : تعريف وملاحظة وتمرين

قضايا فكرية

الشخصية المنهاجية: ربعي بن عامر 1/3

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

الأمثلة في كتابات الأستاذ عبد السلام ياسين

في ظلال القرآن والنبوة..البناء الأول

في ظلال القرآن والنبوة..الانتقاض وأسبابه

الشخصية المنهاجية ربعي بن عامر2/3

الشخصية المنهاجية: ربعي بن عامر 1/3

لمحات من حياة عظيمة

مقالات ذات صلة